نصر الطائي؛ العطر الذي لا تغيب رائحته

يحيى المعشري
@ysk243 
لازلت أتابط كتاب روّاد الصحافة العُمانية؛ حينما مررت بين ثناياه على شخصيات صُنفت على أنَّها من الروّاد في هذا العالم المحفوف بالمخاطر، وبعد أنَّ فرغت من كتابة أجزاء من سيرة الطائر الحر عبد الله بن محمد الطائي؛ كان عليَّ أنَّ أقلب صفحات الكتاب؛ فإذا بي أغوار في شخصية أخرى من عائلة الطائي؛ إنه شقيق الأول وما أشبه اليوم بالبارحة، تركت اسم الرائد القادم ينتظر أنَّ أبدأ رحلتي القرائية معه فإذا بي أطلب من البارستا فنجانًا آخر من النوع الثقيل؛ نهضت واقفًا أسأله عن رغبتي المحمومة في احتساء القهوة المرة، فالرابط بين الاسمين ووجودي على طاولة بمقهى "الكندل" وهو يُطلق عِنانه على أمواج شاطئ القرم، مسديًا نسائمه العابـرة على طيور النوارس وفيه شقت قدماي رحلة جميلة من مسيرتي وصادفتُ شخصيات وأحداث وتهادت على مسامي خيلا ترانيم وضعتها بين اللطيفة والغير محببة، لم أشأ أنَّ أترك فنجان قهوتي ينساب في عروقي قطرات قطرات قطرات، اندلقت بعض قطرات القهوة على ثيابي وتمتمت في سري؛ ليتني لم أخرج من البيت، ليتني لم أُدير مقود سيارتي هذا الصباح، وفي ذات الوقت لم أشأ أنَّ أترك شفتاي تتلمظان أول رشفة وأنا أحدقُ إلى صورة رائد صحافة نهضة السبعين للصحافة المعاصرة قبل أنَّ أعرف الرابط بين شخصية هذا الرائد "نصر الطائي" المؤسس الأول لجريدة الوطن في العام الأول من سبعينيات القرن المنصرم في بواكير النهضة المباركة التي أرسى دعائمها باني عُمان السلطان الراحل أعز الرجال وأنقاهم وفي سيرته بدأتُ أدقق في تفاصيل التفاصيل وبين الشخصية التي أرتحلُ معها في هذه الحواشي؛ ليتني أجيد هذا الارتحال؛ وليتني أستطيع أنَّ أضفي بصيص من ما تملك من خصال، رأيتُ فأرًا يخرج من قمقمه يتسلق الأشجار الكثة؛ إلى المجهول الذي ينتظره؛ لعله هاربًا من جحره؛ ليتوارى عن أعين البشر المستلقون على ضفاف البحر، تركت الفأر المتسلق يهيم في غوايته مع البشر؛ يتتبع خيوط الشمس المتدلية من بين الأغصان وعلى عجالة من أمري هاتفت الزميل محمد ابن مرشد الطائي سائلًا إياه عن وجه القرابة بين الرائد "نصر الطائي" مؤسس جريدة الوطن الأسبوعية التي تُطبع كل يوم خميس في بيروت وبين "نصر بن محمد بن هاشم الطائي" فارسنا في هذا السفر والتِطواف؛ الذي عرفته كأحد سفراء الأخلاق حينما وضعتُ قدماي في شاطئ القرم ذات عصيرة عتمتها الغيوم قبل سنوات لا أتذكر تاريخها الميلادي والهجري ولا في أيِ عامٍ كانت؛ وأنا أدنو من الشاطئ هنيئة قابلتُ الشخصية الباسمة المحبوبة بين أوساط الشباب العزيز سعيد بن حمد الجابري؛ فإذا به يصفع الهواء بحركة سريعة لا إرادية؛ ملوحًا بكلتا يداه وبإماءة موافقة كان عليه أنَّ يستشير "نصر الطائي" لانضمامي ومشاركتهم التمرين وكانت الموافقة مطبوعة على جبين القائد "نصر الطائي" قبل أنَّ يلفظها عبارة صريحة، وجدتني كالذي يتجول في أدغال جزيرة لوحدي؛ مليئة بالطيور والظباء قبل أنَّ ينتشلني "الطائي" من متاهة البحث؛ فإذا بي أعلقُ سلاحي وأرمي الهواجس بعيدَا عن دائرة البحث وتسول الفريق الذي يرغب بي لاعبًا أو مندوبًا يبحث عن من يسوق لبضاعته المزجاة، ومنذ تلكَ اللحظة الفارقة التي تشكّل مفترق وسيرة أخرى في حياة المرء حينما يمرُ بظرفٍ معين؛ أيًا كانت طبيعته؛ يصادفه في حياته، وفي اليوم الموالي لم يكن عليَّ أنَّ أنتظر تلويحة العزيز سعيد الجابري ليُقربني من المجموعة التي لا أنفك أنَّ أستذكر حضور شخصياتها المليئة بالحيوية والنشاط فإذا بــ"نصر الطائي" يبادلني نظرة خاطفة وأنا أدلف رمال الشاطئ؛ مرحبًا بي أيما ترحيب ومغدقًا عليَّ عبارات الثناء والتشجيع وهذا ديدن الذين يتمتعون بالقيادة وروح التسامح مع الآخر وهي ميزة لا يمكن أنَّ تجتمع في شخصين في نفس المكان/ على مرمى المهرولين؛ اللاعبين والماشين والباحثين عن النقاء؛ لمحتُكَ وجهًا نقيا، تنحني سجودًا، تمارس هواياتك المجنونة، تلاطف هذا وذاك وتلوح للضوء المتسلل، ينتظر الغروب ونداء الحق؛ للصلاة.
فالذي يعرف "نصر الطائي" من أقرانه هو الشخصية الودودة؛ الهادئة؛ الوقورة والمتآلفة التي تتعامل مع المواقف أيًا كان نوعها بروية وسلاسة، ففي شاطئ القرم يلتف الرفاق (أبا أحمد "سعيد الحبسي، عبد الباسط، نديم، سعيد الجابري، الزغبي، أبا رائد، سالم الرواحي، مودي، خلفان، حميد الحبسي، طاهر، خليفة البوسعيدي والأخوين عامر وعلي الهاشمي، أحمد صالح وغيرهم من الأخيار وليعذرني من سقط اسمه في هذه التدوينة الاجتهادية التي يشوبها القصور؛ مهما طالت الكلمات وزادت الحروف وحاولتُ لملمة الأشلاء المبعثرة تحت أنقاض النسيان؛ فالشخصيات التي أكتبُ عنها أعلى مقامًا وأكثرَ حضورًا وهم أحبُ إلى قلبي من مجرد عبارات قاصرة أُلقيها في خِدر المدونات؛ ليقرأها من يقرأها وتلك غنيمة وشرف عظيم أقصى ما أريده من رفقاء الأمس واليوم وكل أعين محبة للناس تمر ولو مرور الكرام/ "أطلقني، حرر الكلمات من بؤسها؛ دع الآهات تحلقُ بعيدًا، أطلقني على مهل، أطلقني إلا من حدود عينيك، ما زلتُ أعيش سجن أنفاسك، أطلقني إلا منك!
نعم؛ يلتف الرفاق حول "نصر الطائي" صاحب الكاريزما والشخصية المرنة التي تتسم بالقيادة العفوية ويدور الصراع وتتعالى أصواتهم وتتراقص أقدامهم بين المستديرة وعندما يفرغون من إعطاء أجسادهم مزيدًا من السعادة والطاقة؛ حينما يمدوها بالتمارين؛ يلتقون في أقرب مكانٍ وتحت أي سانحة تظلهم؛ ليكونوا أقرب لبعض بحميمية تكلأهم الطمأنينة الروحية والسكينة ومع تلكَ اللحظات كان "نصر الطائي" لا يبرح أنَّ يغادر أي فرصة يلتم فيها شمل الرفاق؛ دون أنَّ يترك بصمة جميلة يتذكرها الأصدقاء وقد لا يستشعر المرء بعض اللحظات التي تمرُ في حياته أو لا يأخذها مأخذ الجد ويعتبرها سحابة صيف عابرة؛ لأنه اعتاد تكرار الأحداث؛ لكنّها بعد زمنٍ تصبحُ شيئًا من الذاكرة وتصبحُ في حياته حزءًا من الماضي، ولأن رفقاء "نصر الطائي" أقرب مني إليه أنا المتطفل الذي يمارس جر القلم للكتابة عنه بما جادت به قريحته من مبدأ ذكر الامتنان له كإنسان أخذت انطباعي عنه من أول وهلة ولهم كمجموعة أقلُ ما يمكن القول عنها أنَها "رائعة" مقربة من "نصر الطائي" ويكفي الإنسان أنَّ يستجمع بعض المعايشات الجميلة التي التقطتها مخيلته؛ وغيبتها كاميرات التوثيق التي تناست أهمية التوثيق؛ لعرضها بين الأنام؛ لتكون كلمات متصالحة؛ كما أرادها "نصر الطائي"، ترفرفُ في السماء؛ كطائرٍ حر أراد أنَّ يكون الفضاء الواسع ملاذه؛ يرمق البشرية التي تتصارع في الحياة على اللاشيء؛ عدا الأنا المفزعة المنزوعة من التنازلات التي تتسع لها القلوب وتُزيل الهوة الضالة.
وتميل سيكولوجية الإنسان إلى حب التغيير كما يعمد على تبديل مقتنياته وأشياءه التي ما أنَّ يبعثرها الزمن ويصيبها القِدم إلا ويقوم باستبدالها وإضفاء الجديد عليها؛ هكذا كان "نصر الطائي" الذي كان يعمل في جهة حكومية وكغيرها من الجهات التي تسرق العمر بلا هوادة فقد اتبع هو كذلك نهج أسلافة الرواد الذين غامروا في حياتهم وتجرعوا مرارة الغربة وتجشموا عناء السفر والترحال؛ لإيمانهم يقضاياهم التي تحمل في معانيها الرأي والفكر وتقوض مضمون الأنا الساكنة عند البعض، رحل الطائي اليافع من مقر عمله المريح إلى خوض معركة أسلافه حينما انتقل للعمل في "جريدة الوطن" ولا يحضرني تاريخ انتقال العزيز "نصر الطائي" لكنه يعتبر سفرًا آخر يرتحل إليه الشاب ولو بدرجة أقل؛ ليقرأ أساسيات الصحافة من جريدة الوطن ومنها وفيها يقرأ سيرة الطائر الحر عبد الله بن محمد الطائي ورائد نهضة السبعين نصر بن محمد الطائي ويستشرف الطموح المختبئ خلف الكفاح والنضال الذي يسبر أغواره المرء في حياته؛ بعيدًا عن الخوف من التجربة الجديدة التي يكتشف فيها المرء ذاته ثم ذاته فذاته "احترس من الخسارة ولا تراهن على حصانٍ واحد". 
ومن المحببات التي أعجبتني في "نصر الطائي"، علاوة عن شخصيته القيادية؛ نصر الإنسان الخلوق القريب من الجميع، فقد كان وجوده في شاطئ القرم كما رأيته في مسرح الحياة يملأ تلك المساحة التي اتخذها الرفاق مكانًا لهم؛ حميمية ورائحة فواحة يظل شذاها عبقًا يزينُ اللحظات؛ تلكَ المساحة التي عرفها الجميع ملكية له ورفاقه دون خرائط وإحداثيات توزيع من هنا وهناك، تلكَ المساحة المليئة بالدفء كندف الثلج وقد كان "الطائي" يترك في نفوس المقربين الحماسة والرغبة في التحدي الشريف؛ فشخصية مثل شخصيته ولا أزكيه يشهد لها القاضي قبل الداني، كان يتمتع بحسٍ فكاهي عالٍ وكان ماهرًا في إضفاء السكينة بين أصدقائه، ومع مرور السنوات اعتاد الناس أنَّ يؤبنوا الراحلين عن الحياة في فترة زمنية طالت أم قَصُرت ويطووا صفحاتهم البيضاء للأبد، لكني وللأمانة لا زلت أستذكر مناقب وسيرة "نصر الطائي" عندما يدلق على مسامعي أبا أحمد "سعيد الحبسي" وهو القريب بحكم لقاءاتنا المستمرة حينما يتلو عبارات المديح والامتنان على "نصر الطائي" وهذا لا يعني أنَّ بقية الرفاق غابت عن ذاكرتهم سيرته العطرة وهو من المسلمات التي تصب في خانة المؤكدات الجازمة؛ فنصر الإنسان الذي كان منارة وئام وانسجام؛ لا زال بينهم حاضرًا عند كلِ حديثٍ يجتمعوا عليه وفي أي طاولة تحفهم أو تجمع يكتنفهم.
نصر بن محمد بن هاشم الطائي في جلسة مع رفقاء الشاطئ والحياة
في رثاء الراحل نصر الطائي
كتاب رواد الصحافة العُمانية الذي حفزني للكتابة عن نصر الطائي الإنسان. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر