بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر
كتب
يحيى المعشري
...رحلة خاطفة سبرت خلالها أغوار بعض من ملامح بلدة بوشر الضاربة في عُمق التاريخ، فوقفت على شيء من الذكريات بدءاً من حيّ جال بشخوصه وشمائل قاطنيه، مروراً بحيّ الفتح، متحدثاً عن أفلاجه وقلعته المنسية، وانتهاءً بحيّ قلهات مهد الطفولة، زائرا بني عمران، فلنحزم الأمتعة معا أيها الكرام، فموعد الرحيل قد حان وطائرة الذكريات على وشك الإقلاع...
عندما خرجت من البيت تواريت خلف شجرة سمرة كثة مليئة بالأحراش، كانت متسمرة بجوار منزلنا الكائن بقرية جال الجديدة ببلدة بوشر، وهنا لم تحكِي لي الروايات عنها ولا قمت بسؤال والدي كعادتي عندما أخط أغلب تفاصيل بلدة بوشر، وإنما اعتمدت على بحثي وحدسي بما أن قرية جال الحديثة تعتبر من القرى الجديدة، فإن أغلب الظن شجرة السمرة هذه أقدم بكثير من الوجود العمراني الحديث بها، فشجرة السمرة من الأشجار المعمرة و المتساقطة الأوراق، ففيها عندما كنا في حيّ قلهات قبل زمن نرَ أجود أنواع العسل الذي نستخلصه صافياً لذيذ المذاق؛ وقبل أن أدلف بجوارها وجدتها محملة بأسراب العصافيـر والأعشاش وعدد لا بأس به من الفئران والجراد والزنابير وربما الخفافيش وأنواع القوارض التي يطيب لها المُقام في مثل هذه الأماكن، شاهدتُ ثعباناً يسترق النظر إليّ، رمقته خِلسة ولوحت عليه بحجارة غائرة بين الشقوق بالقرب من تنور الشواء، آلمني مشهد العصافير وهي تحلقُ إلى السماء محدثةً صوتا عالٍ على وقع الحجارة التي لم تبقي على كائن في هذه الشجرة، وهنا أصدرتُ تساؤلات بيني وبين نفسي مصحوبة ببصيص من الغرابة، أتحسسها غصناً غصنا، أمسد على أشواكها في لحظة اللاشعور بلا خوفٍ أو وجل، وقلت لحظتها: هل أنا محق في تصرفي عندما هممت بإلقاء الحجارة على هذه الكائنات في الشجرة محدثاً ذعرا.. هل الكائن البشري وحده من يمتلك ملكية الطبيعة ويحق له التصرف بها كيفما شاء ووقت ما يشاء، وهل للكائنات الحق بتأنيب بني البشر على أفعالهم في مثل هذه المواقف وغيرها من المواقف، هل يحق لها الشكوى إلى الخالق على هذا الصنيع الهمجي الذي اقترفته في لحظة تسرع، بعض التساؤلات وإن كانت ضدك وضد بني البشر بعض الأحايين قد تصب في قالب الصواب، لم أبرح مكاني هذا اليوم بعد هذا الفعل الشائن الذي اقترفته يداي، ولم أستطع أن أدير محرك سيارتي قبل أن أكفر عن صنيعي أو أدفع كفارة إن لم تكن إطعام ستين مسكين تحرير طائر غُلّ في قفصه ردحاً من الزمن، أو صك غفران أبعثه مع طائر السنيسلو إلى ملك الغابة الذي لم يكن برفقة هذه الكائنات هذا اليوم، ولا يمكنه أن يجد له متكأً ولا ملاذاً في هذا المكان؛ بعيداً عن حواجز المحميات، الغيت موعدي بعد أن اكفهر وجهي وتغيرت ملامحي، أكثر من نصف ساعة قضيتها هنا بجوار هذه الشجرة أدعو الخالق أن يغفر ويرأف بحالي، حدثتُ نفسي قليلاً قبل أن أهمّ بالدعاء.. نحن خلفاء الله في أرضه خلقنا لنعمر الأرض واصطفانا على غيرنا من الكائنات، ألا يحقُ لنا أن نفعل ما نرتئيه ملائم، ألا يحق لنا أن نأمر وننهي ونسخط ونزجر وكثير من التصرفات التي قد تمقتها النفس البشرية المحبة للموائل الطبيعية، هذا الإنسان الممشوج ربما أوقع نفسه العصية في مآلات لا يحتملها، وعندما وضعت هذه الهنهنات جانباً تراءى لي المونولوج وصور ذلك الخيال وكأنه مشهد سينمائي من مشاهد أفلام بوليوود، انقشعت غمامة التفكير ووقعت عيني على التلة العاتية في جبال "صاد" السامقة بخلايا قبورها التي تهاوت في قممها أعتى السيوف ذات زمن، فأشحت ببصري أتجول في ما حوته بلدة بوشر من موروثات مثلت في فترة من الفترات التاريخ والإنسان والقوة والعتاد والسيف والفن، فرأيت قلعة "الفتح" تلوح في الأفق وكأنها تلقي عليّ السلام، هذه القلعة المنسية التي غُيبت لأسباب خاصة كما يبدو لي، فألقيت عليها نظرة خاطفة، ففيها كنا نمرق أدق تفاصيلها، نتشبث بملامح الأمل، ونعصف بقايا الأمس، نستفكر فيمن سكنوها ومن قاموا بتشييدها آنذاك، فتوغلت في محرك البحث باحثا عن معلومة أو عبارات خاطئة مرت بجوارها فلم أجد سوى أشباح وأطلال مركونة على قارعة الذهون الفارغة، فهناك وقف المرحوم "حمود بن عزان البوسعيدي" رحمة الله عليه أمامها، فهي لا زالت تحتفظ بأصالتها منذ عصور مضت، وقف الوالد حمود ويحملُ في يده حقيبة بالوان زاهية معلقة على كتفه وكأنها جدٌ حنون يربت على أكتاف أحفاده، ويجاورها ذاك السلاح الذي طالما حمل مفاهيم جميلة لدى الأجداد، وقف ورأسه مكور بعمامته المتشحة بمعاني الحضور العماني المتفرد على مر العصور، وقف وتقاسيم وجهه تحكي صلادة إنسان ذاك الزمان الحاملة في تفاصيلها حياة اتسمت بالبساطة والزهد رغم قساوة الأيام، وقف متصلب القامة بجسمه الممشوق القوام الذي لم تدنسه مخلفات العولمة ولا مجترات التقنية وتوابعها، يلازم قلعة الفتح بسموق وبسالة الأبطال الأفذاذ، تلك القلعة التي تميزت ببرجيها الشاهقين ومراصدها التي استخدمت في عهود مضت للذود والسكنى، تلك القلعة لا تروي إلا أخبار ساكنيها؛ وهناك بيوت قديمة قد غدت أطلالاً تجرُ عليها الرياح أذيالها وقد تجلت جدرانها، وهناك السيح الواسع الذي غدا أبنية حديثة كسته عمارات الأسيويين. وفي قرية "جال" القديمة الشامخة بشموخ من أثروا بلدة بوشر بعصنيعهم، هذه القرية عندما تتحدث عنها لا يمكنك أن تغفل اسم عريق بعراقة أهل العزة والإباء؛ وهو الشيخ الجليل يحيى بن أحمد الحسني أمدّ الله في عمره الذي خط أهم ملامح بلدة بوشر وما جاورها من قرى وأحياء منذ عقودٍ مضت، فغدى سيرة عطرة تتناقل بين الأنام، اسألوه عن قرية جال واسألوه عن أبنيتها وجدارنها وسواقيها وأرصفتها، اسألوه عن أفلاجها التي طمستها السنون، اسألوا الشيخ يحيى، هذا الشيخ المهيب المتكئ على جدار الزمن ليحدثكم عن بوشر وأخبارها، أخبروه ماذا تخبئ في دواخلها وزواياها، دعوه يحدثكم عن تاريخها الأصيل الذي حكى تفاصيله الزمن في حقب لم تعُد حكاوى تتناقل بين الأجيال، وهو الذي كتب مخطوطات لم تنبشها رحى الأيام، هذا الشيخ الأصيل الذي تنقل في ثغور عُمان من ولاية بوشر إلى مضارب مسكد قبل أن تتغير إلى "مسقط" ويحمل بين دفتيه أرتالاً من الأحداث، فمنذ أزمنة سحيقة كان يجر راحلته في رحلة بين الصيف والشتاء في موسم الطناء، متجاوزاً طرقاتها الوعرة بصخورها الصلدة، مشمراً سواعد الجد والعطاء في رحلة البحث عن المجد والعيش، ملوحاً يديه ونظراته إلى نخيلها السامقة، يخترق المجهول وحجب الغيب، يطوف نوافذ البيوت المجاورة مستدلاً طريقه بالقنديل بو فتيلة وسراج بو سحة، قبل أن تطمسها قامات البنايات الحديثة بزخرفاتها ونقوشاتها، هذا الشيخ الأبي الذي لم يطأطئ رأسه لقسوة الأيام، دعوه يحدثكم عن المرحوم الشيخ عبدالله بن حامد الحسني وقصصهم أثناء جولاتهم لأداء مناسك الحج والعمرة عبر المسالك الوعرة باستخدام الطرق البدائية، فليحدثكم عن جولاته الداخلية في ربوع عُمان من بلدة بوشر إلى أرض المال والتجارة ولاية مطرح، متتقلين بين سور اللواتيا والعرين، وعلى مجرى وادي خلفان يحطون رحالهم، زائرين خور بمبه وبناية طالب، يختلسون النظر إلى سماعة طومس ومراوح المدرسة السعيدية، حاملين معهم الرُطب الذي جنوه من عذق نخيل بلدة بوشر التي ارتوت من فلج بوسمان والجويزية والعوينة وقني، إلى حين عودتهم محملين بالسمك والمالح والعوال وأنواع المأكولات البحرية بين الذهاب والإياب، وكيف لي أن أحدثكم عن قرية "قلهات" وهي قصة لم تروَ لليوم، كيف أحدثكم عنها وأنا ارَ آثار مستوطنات تراكبت طيلة أحقاب وعصور، كيف أحدثكم عن مهد طفولتي وكيف لي أن أسرد الجلسات على بساط مسجد قلهات وهو يحمل بين جنباته المرحوم عبدالله بن سليمان وأبناؤه محمد وسليمان في جلسات ما قبل الفطور في شهر العطايا والخيرات، فهناك الضيف رب المنزل.. يا ضيفنا لو زرتنا لوجتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزلِ.. وكيف لي أن أنس المرحومان علي وسعيد أبناء يوسف رحمة الله عليهما وهما من أشهر من يملكا البي كاب بو غمارتين على مستوى الولاية، متنقلين بين الزيارات الأسرية والرحلات عبر طرقات الغبيراء، ضاربين أروع الأمثلة في الحلم والأخلاق،وقد ترعرعت في كنف حسهم عقود من الأزمنة، فلم يكونوا إلا أيقونة محبة باسمة تربت على قلوب القريبين والبعيدين، جلستُ على حجارة متصدية قد تهشمت من صديد الذاكرة المتخمة بالحنين. فهناك تبدأ حكاية الوالد محمد بن عدي المعشري رحمة الله عليه وهو يتنقل بين الأقاليم من وادي الميح، مروراً بحرامل وسداب، متجاوزاً مسكد ومطرح إلى أن يطيب به المُقام في بلدة بوشر مقيماً بين بني عمران وحي "قلهات"، وكأني أسمعه الآن وهو يدندن بصوته الشجي من على قمة نخلة بدع سدرة إحدى عابيات بيت المال بأعذب الألحان وأغاني أيام زمان، رغم الساعات الطوال التي يقضيها الوالد محمد بن عدي قبل أن يرحل إلى عالم البرزخ ؛ متنقلاً من نخلة إلى نخلة، بين الصواري والعوابي، بين الحيضان وخواصر المياه منذ الصباح الباكر إلى أن يخيّم الظلام في رحلة البحث عن لقمة العيش، كان مثالاً للهمم والنضال، إلى أن طوي ذلك المشهد رغم تقدمه في العمر إلا أنه كان يحملُ أطناباً من الآمال، فغدى متشبثاً بمهنة الآباء والأجداد، فلم يحتج إلى مؤسسة تظله ولا جامعة تحتويه وتدربه، فقد اكتوى بنيران الغربي في صيف مسقط اللاهب، فكان يتفيأ ظلال النخيل والليمون والمستعفل والتين الزيتون، وهو آخر من أبقى عليها وبقت معه رمزاً للوفاء، وبسؤالي أحد أبناءه عن مقتنياته التي كانت تعني لي خيرا من القصور الشاهقة وبوارج قياصر الروم ونياشين الضباط.. قال: ومن ذا يذر ورود الشوق على رفات الوالد رحمة الله عليه، فقد كان يحمل معه أدوات السف والحياكة، يغزل مع كل بسمة عابرة في كل صباح لحظة فرح وصفاء، تحلى الوالد محمد بن عدي كما فعل أسلافه ومن عايشه بالعزة والأنفة، فلم يلطم الوجه حسرة على ما فات، ولم يتسول المال فعاش حياة العطاء والكِفاح، فانعتق من قيد السؤال وظل يعمل طوال يومه، ولم يسكن خلف دياجير الظلام، بل أخذ ملاذاً له على قارعة الطريق في قرية "قلهات" ينسج الخصف والمخزف وحبال الصوع والسمم والقفران والشتوت بأنواعها المختلفة، فيغزل ما جادت به يديه الكريمتين نبل الأخلاق وما تخرجه من صناعات، ضارباً أروع الأمثلة في الجدّ والكدّ، وفي صباح كل يومٍ يلقي علينا الوالد محمد بن عدي السلام، فيرمقه الذاهب والغادي وهو يطبع البسمة على جبين المرحبين من أهالي القرية والزائرين. هكذا هي سيرته الناصعة بالبياض منذ بواكير كل يوم إلى حين أن يحل الظلام، عندها وقفت أسير الشرود مع هذه السير والنماذج العطرة لشخوص سطرت أمجاد بلدة بوشر، وقبل أن تنحسر هذه المناقب من أسلافنا العظام ركنت سيارتي بالقرب من مسجد قلهات، تسمرت مكاني محتارا أي طريق أسلك في زحمة التفكير، أرهفت سمعي ألى خرير ماء الفلج فقررت أن اتحرك في الطريق الذي يخترق الوادي، تركت مسجد قلهات على يميني وعابية الربة المزرعة التي تعهد الوالد حفظه الله برعايتها زهاء عشر سنوات وربما أكثر، فدنوت قبالتها أسائل الليمون الصيفي عن الشتوي، أتحسس أنين الماء وهو يخرج من الرق وكأنه أُجبر على مفارقة الأرض ليروي ضاحية الخلاص والهلالي والخصاب والمستعفل الذي تدلت أغصانه خلف الجدار؛ تتلقفه أنامل صبية القرية بلا مشقة ولا عناء، الخطوة تتبعها الخطوة، مررت على القنطرة المغطاة بالإسمنت الصلب، يخترقها حديد مجوف يمر من خلاله ماء فلج العوينة، فعدت إلى رحلتي قبل عقد من الزمن من النيل إلى القناطر، فالربط آنذاك بأن القناطر عندنا هي التي عند أقباط أحفاد أرض الكنانة، ومن هناك وقفت متصلب القامة، أُمعن النظر إلى سدرة المعلم عامر الحارثي رحمة الله عليه القابعة في قعر الوادي، أبحثُ عن البساط البني المصنوع من جريد النخيل لأسائله عن جلساتنا ونحن صبية نتلقى علوم القراءن والتجويد، وتفاسير الفقه وسيرة سيد الأنام، محمد سيد الكونين والثقلين من عرب ومن عجم، الحبيب الذي ترجى فضائله لكلِ هولٍ من الأهوال مقتحمِ، ومن بردة البوصيري نستقي أبيات الشعر، تترسخ في قلوبنا قبل عقولنا، وتحت ظِلال سدرة المعلم تتفجر أصوات الصبية وهم يصدحون بأصواتهم، مرددين خلف المعلم الحمدو والفلق والناس، وفي لحظة سكون هبة رياح الغربي وكأنها تريد لهذا الاستذكار أن يتلاشى، لكن هيهات، فوقع بصري على حلقة دائرية محفوفة بالحجارة الصغيرة يستند عليها بساط بساط المعلم، وهنا كان يمطر علينا المعلم عامر خواطره كالسيل المنهمر، يمرُ علينا وهو يسقينا من ساقية العلم المكتنزة في روحه الطاهرة، ومضيت مسرعاً حتى لا يسرق الوقت هذه اللحظات الجميلة، فلاحت لي أشجار الليمون والفرفار والسرح واللثب، فبدأت أصوات العصافير تتعالى، وعلى ساقية لجل الشم تسير المياه ببطء لتستقر في لجل الشم إلى حين أن يتوزع ماء الفلج؛ كلٌ له حصته، أطرقت إلى صوت أحدهم يناديني من مسجد قلهات، هرعت مسرعا إليه ودفعت باب المسجد نحو الداخل، فلم أجد أكوام الغبار، ولم أشاهد شباك العناكب يتدلى من زوايا السقف كصغائر الشعر، كانت رائحة المسجد الزكية تفوح من كل مكان، غمغمت في صمت وحمدت الله وشكرت الخالق أن يحفظ تلك السواعد التي تبنت العناية بالمسجد ليغدو منارة علم وعبادة، اقتربت من كنبة حفظ الكتب، أُفتش عن كتاب تلقين الصبيان الذي كنت حريص على تتبع صفحاته، عانقت الكتب والمصاحف المركونة عناق الأشقاء بعد طول غياب وتمعنت في خرزات السبحات المتدحرجة قبالة المحراب، استجمعت قواي وودعت زوايا المسجد وأركانه، وليتُ وجهي شطر السّل لأشاهد هندسة العماني فيه، فلم ابرح المكان قبل أن أومضه بعدسة هاتفي ملتقطاً صورة تذكارية، فواصلت خطاي بعد أن تجاوزت الجباة إلى مسجد الإمام الرضي العلامة المحقق الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي في العوينة، حامل لواء العلم والتدريس النافع، الذي فتح طريق العلم لطلابه وهم من الأكابر والأصاغر، بعيداً عن الناس وضوضاء القرية، متضرعاً لله ومستنيرا من العلم، مهتماً بالدعوة والإصلاح، وكان هذا مسجد العوينة من الأماكن الذي يلجأ إليها وقت الخلوة لله، نظرت إليه مرة أخرى فارتعد جسدي لهيبة المكان وارتفعت وتائر الدورة الدموية لدي ليأخذ الدم المتخثر دورته بسرعة عبر البطين الأيمن انصياعا وإمعاناً لقيمة هذا المسجد، فانداحت مني تمتمات غير مفهومة، فإذا بحوض العوينة يناديني نداء النديم لنديمه، فأقبلت عليه فرحا ومسرورا، جثوت على ركبتي على صجّ الحوض كما كنا ننعته، ومررت أصابعي على المياه الساخنة، وكنتُ على وشك أن أهم بالمغادرة، فتذكرت أن القي بثقل جسدي على الحوض بعد أن نزعت ملابسي لأنعم باستحمام صحي لأعواد بالذكريات إلى حمامات ماعين في العاصمة الأردنية عمّان برفقة زملاء العمل الأعزّاء، وكانت جداول المياه تنساب من وادي العوينة عبر الجباة، ولا زالت أسراب الطيور تراوح مكانها، يا لروعة ما أرى، هتفتُ وأنا أشاهد مسلسل شريط الذكريات، لكن لم يكن أحد يصغي إليّ، كنتُ أنتظر سدول الليل، مؤملا نفسي، ربما ليقبل عليّ أخي بدر وسالم مظفر لنلقي شباك العشوي، نستمع إلى نقيق الضفادع وخرير المياه، وفحيح الثعابين التي تتسمر بين شقوق الجبال، وتحت أشجار اللثب القابعة في الوادي السحيق، أنتظر صديق الطفولة عيسى الجابري حاملاً معه النشاب الذي لازمه في فترات صباه، منتظرا أخي أحمد أن يأتيني بالكسر بو فريقين، يعيننا وقت الحاجة، وقد كان سعيد وناصر أبناء عمي عبدالله ينتظران غلة الصيد التي غالبا ما تكون وفيرة.
وبقيت في "العوينة" أسائل نفسي ماهي العوينة، ولِمَ سميت بهذا الاسم وقد كان أسلافنا لا يلقون الأسماء جزافا على عواهنها، فهم حريصون على انتقاء الاسم وفق دلالات ومعان، رابطين المكان بالحضور التأريخي، فهممت إلى المعجم في محرك البحث العالمي، قد يسعفني أو يرميني تحت طائلة التزييف، مع قليل من إحكام العقل والربط، فإن أصبت من الله ورسوله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان..فـ"عوينة" كما أشار في المعجمات العربية من المعجم الوسيط (المعيون) من الماء: الظاهر الذي تراه العينُ يجري على وجه الأرض. وفي جبل العوينة عيون الماء تخترق شقوق الجبال، متنقلةً بين الأشجار، راسمةً اللون الأخضر على حواف جريان الماء وهذا التعريف يبدو أقرب مما لاحظته أثناء البحث، وهناك العديد من الأحياء في الدول العربية في قطر وسوريا وغيرها؛ بذات الاسم ومنها اللاذقية وثمت تعريف مشابه لهذا التعريف للمسمى في هذا الحي لوقوعه على عتبة مائية واسعة ولذا التسمية تعود إلى كثرة العيون في الحي، وفي التعريف الآخر الذي أجده قريباً نوعاً ما (عاونه) معاونةً، وعواناً: أعانه، وهنا من ذا الذي يعين الأسلاف على العيش الكريم وهم من كانوا يمتطون جبل العوينة للبحث عن الزعتر والعسل وملاحقة الطرائد من الموائل الطبيعية القابعة في قمم الجبال، الرابضة في قيعان الأودية السحيقة، ومن ذا الذي يعين الأسلاف على ملاحقة الحصيني ذا المخلب والوشق والغزلان، مستدلين من الرقعة البيضاء التي تننصف الجبل بنظرة ثاقبة لم تدنسها العولمة وتقنياتها التي ذهبت برمد العين فأضحت رهين منظار قاع العين، يلاحق البؤبؤ والشبكية وجوف العين الداخلي.
ومع كل حرفٍ أسطره عنك يا بوشر يتساقط مطر الجمال، وهذه المرة يأتي الجمال ليكون حنين المغترب للذكريات وشوق الغائب لتخوم الأيام، لعلها دعوة من كبار السن للأجيال بأن يتمسكوا بثرى وطنهم وخصلة من خصال هؤلاء الأبطال الذين لم تسنح للراوي أن يخط يراعه ليقول كلمات صدق في حقهم، فمهما تطاول البنيان واخضرت الجبال والوديان وتناثرت ذرى الكثبان، إلا أن لهيب الغربي في مزرعة الخب في بوشر بني عمران، وغبار ملعب القطوية بقلهات يبقيان الحضن الدافئ والصدر الحنون لأبنائهم أينما حلوا وارتحلوا، وفي نهاية المطاف وقبل أن أهّم بمغادرة المكان وقفت مشدوهاً من جميل ما شاهدت في شريط الذكريات وهمست لحظتها في حالة نقاء سراً بقول الروائي الشهير باولو كويلو "وإذا تشابهت الأيام هكذا، فذلك يعني أن الناس توقفوا عن إدراك الأشياء الجميلة. فأي جمال أرقى من تكوير الحنين إلى الأرض كما يكوّر العماني عمامته على رأسه رامزاً للعزة والولاء.
الثلاثاء 17 أبريل 2018م
![]() |
لجل الشم |
![]() |
سدرة المعلم عامر، حيثُ كنا نتعلم القراءن |
![]() |
مسجد العوينة |
![]() |
الجباة في العوينة |
![]() |
موقع أثري في قرية جال |
![]() |
السل في قرية قلهات ببلدة بوشر |
![]() |
قلعة الفتح |
شكرا جزاك الله خير
ردحذف