بين عدسة هيثم وأحاديث فريق الدعم


أعرج إلى فريق الدعم في صالة خدمات المراجعين وأنا أشعر أنّي سيد نفسي الذي يملك كل شيء وكأن الدنيا حيزت لي دونما شعور بالتقييد الذي يكبل الحالمين بالضوء في محيط العمل تحت دائرة أولويات الحضور والانصراف، وأحبو إلى مقر عملي السابق الذي بات يجثم على صدري ويختمره شيء من الأنين وذلك الشعور الذي اندملت عاطفتي تجاهه، أحدّث نفسي كثيرًا عن تلك الأيام التي تأخذ منك الساعات والسنوات دون أنَّ تضيف لكَ في سلم المجتمع الوظيفي إضافة تذكر؛ عدا الشعور بالانقباض وعدم الاتزان وفقدان الثقة، أرخي مشاعري على دفتري المنسي وأنا أشعر بالحبور والاتزان في ساعة مساء مزينة بالنجوم وكأنها أحزمة النور، حالمًا كالطير في عشه ساعة العشية وكنتُ مدركًا أنَّ سنوات العشرة تزيد من متانة العلاقات وتوطد بئر الصحبة في غيابة الجب؛ بتلك اللقاءات والضحكات التي باتت كالوخز الغائــر الدامي حينما يسري في الوريد، تدرك أحيانًا أنَّ أيامَا بسيطة تقضيها بين أفئدة لا تعرف عنها عدا ذلك الاتساع الهلامي المبهم أنّها تبادلكَ ذات الهدف ونفس المشترك في المجتمع الوظيفي وتعلم تمام العلم أنَّ طول مدة التلاقي مع أشخاصٍ بعينهم لا يعني أنَّ اختياراتك صائبة ولا يعني أنَّ ابتسامة قمئة تخرج من أحدهم تعني نقاء تلكَ النفس التي تزفـر دخان الخبث كالمدخنة التي تلقي بشررها في وجهك الخالي من الرتوش؛ على العكس تمامًا قد تختار لك الصدف حظوظَا تشعرك بالحبور كنتَ وضعتها في قائمة المرفوضات باستماتة وتسوق لك الأقدار تلكَ الصدف لتكون محيطك الجميل الذي يشعركَ بالدفء وتتحرك الهالة الجاثمة في مياه الأيام لتنقلكَ بين شخصيات لا تعلم عنها سوى المشترك الوظيفي لكنّها كفيلة لأن تغيــر قناعاتك في علاقاتك السابقة- تبادلنا نظرات سريعة على مفترق بين الطاولات والكراسي؛ نستشعر اللقاءات الخاطفة بابتسامة صادقة لا أتحدث عنها كثيرًا، تجبرنا اللحظات أحيانَا أنَّ نبوح عنها همسًا بجيش من المشاعر عن ما يعتلج النفس البشرية في تلك السانحة، كنتُ منشغلًا بالرد على أحد المواطنين الذي أفاض عليّ بالترحيب واستطرد حديثه بالتحية وأتبعها بأحاديث قد اعتدت عليها عن طول مدة الإجراءات لمعاملة لا تأخذ ساعات في العوالم الذكية وأتمتة المعلومات، كعادتي أترك لهم المجال للحديث وأستشعر ما يتحدثون عنه وأنصاع إليهم بتؤدة، أنصت بكافة حواسي فتتلاقى الهموم والشجون، وحين تسنح الفرصة ويحين الوقت المناسب أغتنم لحظة الولوج في حديثٍ مع قليل من المبررات التي حفظتها وهي أفيون أستطيع من خلاله خلق مساحة من الود والتسامي بيني وبين المستفيد، وفي حين كنتُ منشغلًا مع متصل آخر أتت صيحة هادرة تسللت بين أذني من الزميل المهندس هيثم الهاشمي وقد أدركَ حينها انسدال سماعة الهاتف الثابت على رسغي وبدى صوتي مخنوقًا وبدأت جل مشاعري متشظية، اكفهر وجهي وعلت وجنتي نظرة عابسة وإيماءة مصوبة بابتسامة مكتومة باتجاه عمر الفارسي الذي بدى كذلكَ منشغلًا هو الآخر؛ هامسًا له بأن يومئ لـ "هيثم" أنَّي لست معه هذه اللحظة؛ كانت تدور في وجه هيثم فكرة واحدة، لوح بيده إلى الفناء الفارغ في قاعة خدمات المراجعين وقد خلت من الجموع البشرية (الموظفين والمراجعين) يا للعنة كورونا هذا، اتسعت عيناه في فرح بعدما ألقيت عليه التحية قبل أنَّ أعود إلى عالم الدعم مجددًا، وبينما كنتُ أسترق النظر إلى "عمر الفارسي" وجدته هو الآخر ينبس ببنت شفة إلى أحدهم لا أدري من يكون ولا وهو كذلك عدا المعلومات التي يأخذها من عشرات المتصلين في ثغور الوطن؛ بين إباحة بناء وبين معاملة بلدية وبين اجترار لبئر في النظام المائي، وخلف تلكَ التقسيمات تختبئ زميلات يقمن بأعمالٍ أسطورية لا أدري كيف ومتى يتم تقديــرها في أنظمة الموارد البشرية والمالية؛ دومنا مبررات لا يتقبلها العقل البشري من شفاه تدلق أحاديث الزيغ على غير بصيرة، علمَ "هيثم أنَّه عليه الانتظار قليلًا ريثما نفرغ من معاملاتنا، امتقع وجهه بشدة وهو يصيخ السمع إلى الصوت الهادر من الغرفة المواربة التي تحملُ بداخلها الأصدقاء سالم المعشري ومهنا الجابري؛ فأبدى عدم اكتراثه وهزّ رأسه في ضمور، خرج باتجاههم ينظر إليهم شذرًا، تبادل أحاديث خاطفة مع سالم في ظهيرة عتمتها أجواء المُدخلات والبيانات الواردة إلى سالم كالمطر المنهمر، قال له مهنا الجابري: لا يليق بنا أبدًا أنًّ نجنح لهذا الجدار المتهالك؛ نحاول أنَّ نرفع رأسًا تواطأ الجميع على جعله منتكسًا؛ تمامًا كاللوحة المتصدرة واجهة مسمى هذا المبنى، أيّ مبنى البلديات الشاهق الذي تصدر مشهد ثغور الوطن قرابة ثلاثة عقود ونيف وقد يتجاوز تلكَ المدة بكثيــر، دثر هيثم الأحاديث بينه وبين سالم وهرع إلى إلينا مسرعًا؛ لكنّه هذه المرة استل هاتفه من جيبه وصوبه باتجاهي ملتقطًا أكثــر من صورة لم تأخذ منه مزيد من الوقت قبل أنَّ يرسلها إلى ذاكرة هاتفي المثقلة بالمدونّات المتحركة والثابتة، تركتُ أناملي تعبث بالصور وجلّ حواسي معلقة في البيانات التي كان عليّ أنَّ أحصل عليها من أحد المواطنين؛ لأرسلها إلى فريق الدعم الوسيط؛ المُكلف بأنَّ يرسل كافة المُدخلات التي يحصل عليها من زملاء الفريق ولا محيص من تدوين كل سانحة وتأكيدها، ثمة تجانس وود بين عناصر الفريقين وثمة هاجسًا معلقًا في قلوبنا- تُرى أين سيكون مصيـر من نشاء أنَّ نضعه خلف قضبان اللاوعي وأين تتموضع التساؤلات المحلقة في سماوات هذا الفضاء المبهم- سرت همهمة بترتها مباغتًا هيثم بأن نخرج من أجواءِنا هذه إلى صخب الزيارات القصيرة لزملاء الأمس واليوم ولو لفترة قصيرة؛ حتى نخلق جوًا أسريًا لا يمكن أنَّ نحصره بطول مدة اللقاءات!
هنا حيث أقبع في قاعة خدمات               المراجعين 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر