ركن الكرك بالخوير

ركن الكرك...
 
كتب
يحيى المعشري
.. رحلة شبه يومية أقضيها كما يقضيها غيري من أبناء جلدتي ومختلف السحنات من مشارب الأرض في هذا المقهى، مستمتعين ومتلذذين باللقاءات الحميمية ودفءِ الوجوه السمحة التي تلتقي ها هنا؛ رغم بساطة المكان ورغم ضمور الممرات وتدافع السيارات من كل صوب، لكن ثمة رابط زاد المكان أهمية؛ أدعوكم لاستكشافه والبحث بين ثناياه لربما حدسكم يميط اللثام عن تساؤلاتي وربما ما أراه أثناء جلساتي يختلف ملياً عن ما ترونه.. هيا معي عشاق الكرك في هذه الرحلة ولتحزموا الأمتعة فموعد الإقلاع قد حان..
...تواريتُ خلف إحدى البنايات الشاهقة في منطقة الخوير، قاصداً إحدى المقاهي الصغيرة بها، مستفكراً ذلك الحِراك البشري في تلك البقعة التي بالكاد تكفي أعداد بشرية لا تتجاوز أشخاص معدودين، ففيه تتسابق الأرواح وتتقاذف الأقدام، بعضها تهفو جاثمة، تتثاقل بخطواتها من كثرة الأفكار التي تُرهقها، والأخرى تتسابق للوصول إلى.. إلى أين يا تُرى.. هذه المرة.. إلى أين يا رفاق.. إلى مقهى "ركن الكرك"، بضع كراسي بيضاء ذات شكلٍ دائري كأوشحة الأكفان في لمعانها، مصفوفة من هناك وهناك، عارية من ِكل شيء إلا من البقع العالقة إثر الانسكاب الدائم للشاي عليها، وأنا هناك أجلس مثلهم في أي كرسي يستطيع أن يحتويني أو أي ردهة بالإمكان أن تستوعب شخص واحد منزوٍ لوحده، هذا المقهى يبدو لي وكأنه ذا أبعاد لم تخضع للمواصفات والمقاييس عند الترخيص لمثل هذه المقاهي، ففيها تعتمد البلدية على مساحاتٍ محددة، وفيها يركن صاحب المقهى إلى سلسلة إجراءات قبل أن تنفك عقدة الإجراءات ليبدأ عمله واضعاً لوحته المضيئة، التي جلدت جيبه ونزفت من عروقه آخر قطرات الدماء؛ لتتمكن من أن تستقطب الزبائن من مسافات، بعد أن أفرغ من ممارسة المستديرة في شاطئ القرم، كعادتي كل يوم، القي بثقل جسدي على المسطح الأخضر، مستلقياً على ظهري أتأمل النجوم في رابعة السماء، متأملاً ذلك الضياء اللامع ونسائم الهواء العليل يداعب الأشجار الوارفة هناك؛ فتصدر حفيفها وكأنها مقطوعة من مقطوعات باخ، فجأة أغط في خيالاتي عائداً إلى يومي مذ أن بدأته في عملي والساعات الطوال التي تأخذ يباب الوقت مسرعة، فالوقت الطويل الذي أقضيه في عملي يمرُ على مراحل، تارة يركض وكأنه عداء يسابق الخصوم في مارثون يسبق مد البصر، يخترق الضواحي بمسافات، وتارة يتثاقل وكأنه سلحفاة خرجت من شرنقة الولادة حديثاً لا تعرف إلى أين تتجه ولا إلى أين سيكون مآلها، وأرجع إلى مقهى "ركن الكرك" في منطقة الخوير، أرقب أعين الأفئدة الغارقة في تداول أخبارها، الكل بدا عليه الانشغال في حديثه، منهم من يصحب الونيس، يتسامر معه الحديث ورشفة الشاي لا تفارق ثغره رغم حرارة الجو هذا اليوم مع دخول فصل الصيف، إلا أن هذه الأرواح لا تكترث لحرارة الجو وهي تحتسي الشاي، ربما حرارة اللقاء وحدها من تُلطف الأجواء هذا المساء، تجمعهم الأحاديث الهانئة بعد عناء يومٍ مرهق قضوه بين الأوراق الرسمية، في هذا الوقت فقط أجدُ ضالتي مع ملاحق "شرفات" التي أحتفظ بها في سيارتي فتلازمني أينما حللتُ وارتحلت، أقرأ ما يروي فضولي منها، أمرق على ملخصات الروايات بسردياتها وقصصها التي لا أريد لها أن تنتهي، أدخل مع الكتّاب وهم يعصفون أفكارهم على شرفات وبيدي الأخرى أمسك القلم لعلي أجدُ ما أستطيع أن أرسمه على ناصية الورق، أغرق في هذا العالم وأهيم فيه كيفماء شاءت لي الأقدار، تلك اللحظات هي أجمل ما أتلذذ به عند قضاء هذه الأوقات في مقهى "ركن الكرك" بالخوير، رغم ضجيج الأصوات، رغم قرقعة الأكواب عندما تتصادم بعضا بعضاً في يد النادل قبل أن يرميها على طاولة الانتظار إلى أقرب عابر تستهويه هذه الجلسات، في هذه الأوقات أرَ جموعاً من الناس تعبر المقهى منهم من يرتدي أسمالاً بالية، ومنهم من يبدو عليه من ملابسه وكأنه أحد الخواجة الذين يتباهون بما يملكون، تلك النفس البشرية تعيشُ حياتها وفق رغباتها، فلا يمكنني تصنيفها من ذلك الهندام المُرمى على جسد هذا وذاك، رأيتُ سيلاً من الخنافس تمرق شقوق بناية أحد التجار، رأيتُ السحالي والخنافس وعدد من الحشرات تتسلق سلة المهملات القابعة بين أحزمة النور المتسللة من التلفاز، وعندما يتعكر مزاجي أصب جام غضبي على أي منهم وهو يضع بين اصبعه سيجارة ينفثها بشراهة في السماء؛ محدثة كرات متطايرة، في هذا الوقت وأنا عازمٌ على أن أعيش لحظاتي بفرح مع هذه الجموع لا يمكنني أن أفصح عن انزعاجي من أحدهم وهو يعاقر الدخان، فاللحظات كفيلة بأن تغير أمزجة البشر بعد أن يوقع الخالق عليها السكينة والهدوء لتركن إلى السلام والوئام التام، كنتُ ألجم انفعالاتي وأتحلى بالصبر، فأكتم ما أضمر وأتذكر قول الحكيم في مثل هذه اللحظات "الحلم سيد الأخلاق"، كان عليّ أن أستجمع قواي العقلية والذهنية حتى أستطيع أن أسبر أغوار القصص التي بين يدّي.
ويمرُ الوقت وتمرُ معي انتعاشة المساء وأنا مستلقٍ على كرسي ليس كذاك الكرسي الوثير الذي يجلسُ عليه صاحب الجاه، فمقهى الكرك ليس كوب شاي أسكبه على فمي فأتلذذ بما يحويه من نكهات، مقهى الكرك ذلك الاحساس الجميل عند قضائي هذا الوقت والناس يتوافدون من كلِ حدبٍ وصوب، مقهى الكرك ذلك الطفل الذي يداعب إحساس الأبوة وهو يهمس على أذن طفله فلا يزال الوقت بطيئاً لا يريد أن يمضِ، مقهى الكرك ذلك الإنسان الذي يتملكني عند قيامي بعملٍ تطوعي خدمي لأشعر معه بسعادة عارمة لا يحق لي وصفها ها هنا، فالشعور بالسعادة أمرٌ عظيم يسكن سويداء القلوب الحالمة، الباب مزعج "جانيش" عليك اصلاحه فوراً.. كانت كلمات قلتها للنادل الذي يقوم بتقديم الشاي للزبائن وهو يطبع البسمة على الحضور، فيمضي بينهم مختالاً فرحاً بهم، ما أروع هكذا مشاعر وهي ترتسم على طبائع البشر رغم الملمات والغربة التي تسري على أوصالهم، فتزرع فيكَ القبول والرضا.. سحبت كلماتي عن الباب وواصلت العيش في شعور الفرح حتى لا أترك المجال للغيض أن يلج نفسي. كان علي أن أرضخ للواقع وأصّم أذني رافعاً سبابتيّ عند كل دخول لـ"جانيش" إلى حرم المقهى، عندها سحبتُ كرسياً متاخماً لإحدى الزوايا عند الطاولة التي يجلسُ عليها شبان من الجنسية المصرية، فآثرت الجلوس على ردهة تقعُ على قارعة الطريق المؤدية إلى مركز "مارس".
 
دقت الساعة التاسعة مساءً والناس يتوافدون على مقهى "ركن الكرك" وكأنهم يتوافدون على شباك التذاكر كالذي شاهدته ذات يوم أمام ملعب السانسيرو في عاصمة الطليان ميلانو، شعورٌ جميل تملكني وأنا أحدق إلى الناس وهم ينساقون الواحد تلو الآخر، الجالية الآسوية كانت الطاغية من الجموع ورهط من أبناء جلدتي غيبهم النوم قبل أن يلوحوا إلى "جانيش" لينقدوه ما ابتاعوه من شايٍ وماء أو ربما رغيف خبزٍ يسد جوعهم، الكل مستمتعاً في هذا المكان كما يبدو لي، لم ارَ أحدهم عابساً مقطب الوجه في تلك اللحظات التي أقضيها في مقهى ركن الكرك.. هنا أسافر وحيداً كل يوم يخاتلني شعور الفرح والبهجة.. وهنا صحبت الرفاق ذات يومٍ ليشاركوني ذات الأحاسيس في لحظات لا تخلو من الأُنس.. فأهلاً وسهلاً بعشاق الكرك.
الخميس 5 إبريل 2018م
 




 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر