على أطلال بيت كارومي أفكك حروف الأبجديات القديمة من نازي موجا زنجبار إلى نازي مويا مطرح
يوميات مسافر إلى زنجبار

يحيى المعشري

عدنا من دار السلام في سفينة "كلمنجارو" وهذه السفينة كما يبدو أنَّها أكبر حجمًا وأجدد من سابقتها التي أبحرت بنا من زنجبار، بعد أيامٍ كانت تغلي بالحياة وأنباء مفجعة؛ كانت كالأغصان التي تتبدل بتبدل المواسم والأحوال. مررنا على ضفاف المحيط الهندي بمحاذاة بيت الجمارك، فمقبرة السلاطين، وبيت الساحل، إلى المحطة الأخيرة في الساحة الأمامية لبيت العجائب التي أودع فيها: خالد وناصر اللذان اختارا العودة إلى كيمبي سماكي، حيث الهدوء والعزلة؛ بعيدًا عن صخب المدن وصراخ الباعة، بينما آثرت أنا البقاء في قلب زنجبار، حيث أتنفس عبق الحجارة ورائحة التاريخ وخطوات السلاطين.
في اليوم التالي وفي صباحٍ نديّ، أنتظر ديمة عابرة أستظل تحتها لترافقني إلى وجهتّي القادمة، استفتحت يومي بجلسة شفيفة في أحد مطاعم المدينة الحجرية وهو مطعم لقمان ويقال أنّه الأقدم، لكنه ليس الأشهر في زنجبار، في هذا المطعم من المهم أنَّ أشير إلى ذلك الرجل ويدعى "جمعة"، كل ما شاهدني حيّاني وقربني؛ كان شابًا في منتصف الأربعينيات، ذا بشاشة يجيد فك المقدمات فيتعرف عليكَ من أول وهلة، دائمًا يرتدي الدشداشة العُمانية ويعتمر الكمة، ذا للحية كثة تبدو متوافقة مع معادلة السواد والبياض، أسمر البشرة، والجميل التزامه الديني وغالبًا يجد في هذا المطعم ملاذه وفي كل مرة أمر أجده مع ضيف جديد- انتصف النهار بين جلساتي وحواراتي مع "جمعة" ومن التقيهم في هذا المطعم، هنا تجد أغلب أكلات المطبخ الزنجباري الشهية التي تعكس تنوع وثقافة الجزيرة، يتوافد السيّاح من مختلف الجنسيات والأجناس لخوض غمار التجربة- يسترعيني التجوال بين أزقة المدينة الحجرية بعد أنَّ أفرغ من تناول وجبة الإفطار وفيها وجدت بعض النسوة يجلسن إمّا في مكانٍ قصي على قارعة الطريق أو يفتحن نافذة بيع في منازلهن؛ يبعن الأمبويو والقشاط والكعك الزنجباري والفواكه المجففة وهذا المشهد رأيته من أجمل المظاهر التي تعكس حياة الشارع الزنجباري وكأني أفتح ملفات قديمة من المشهد العُماني.
خرجت من المدينة الحجرية لكن الراسخ أنَّ المدينة بدت كالمتحف الذي يمزج بين العمارة وجماليات الهندسة، أنا أقيم هنا وأثناء تنقلاتي بين أزقتها ينتابني شعورٌ مختلط بين الدهشة من ضيق الأزقة المتشابكة والتنوع المعماري وعبق الزمن القديم والتعايش بين الديانات والإرث الذي تحمله المدينة الذي مررت به في صفحات الكتب والمخطوطات التي أقلبها كلما سنحت الفرص، لا يمكنني تجاوز المشهد حتى وأنا أهم بالمغادرة من المدينة الحجرية وفي طريق ممتد إلى مقصدي القادم منطقة "نازي موجا" وتكتب "منازي موجا" Mnazimmoja واجهني بيت أبيضٌ يتوسط مزرعة كتب على لوحة في الخارج "بيت كارومي Karume House ،في الخارج تظهر شجرة معمرة يبدو أنها شاهد عصر متفرعة الأغصان تسابق عنان السماء وفي داخل أروقة الحديقة يظهر بجلاء بيت كارومي بلونه الأبيض الكلاسيكي مع أقواس تسترعي انتباهك؛ ناحية المدخل، أخذت مكانَا قصيا أحدق في المارة- يغريني مشهد الشباب الذين يمارسون كرة القدم في الملاعب الترابية كنا نراها ذات زمن مهد اللعبة والسحر الذي يأتينا من القارة الأفريقية، قطبت حاجبي مشدوهًا لمنظر الشباب وكأنهم أشلاء متناثرة في الأرجاء، انتصبت مكاني قبالة لوحة كبت عليها "بيت كارومي؛ متسائلًا- هل أجرؤ على تصويب عدسة هاتفي على هذا البيت وأنا أعلم من يكون كارومي وما هي أدواره قبل وأثناء وبعد الغزو الغاشم على العمانيين والعرب في زنجبار في 12 يناير 1964 وهو أول رئيس جلس على عرش السلطان جمشيد بن عبدالله البوسعيدي آخر سلاطين البوسعيديين في زنجبار.
وحتى لا أعيد ما كُتبَ وذُكر سالفًا عن أحداث تأخذ بعدًا تاريخيًا_ أقرأ في اللوحة الخارجية أنَّ هذا المبنى بُني في عام 1954 وكان يُعرف في البداية باسم "قاعة خليفة" أي السيد خليفة بن حارب البوسعيدي، ضم المبنى مقرًا للبلدية ومراحل أخرى قبل أنَّ يتغير بعد الغزو في 1964 إلى بيت كارومي" وهو تكريمًا لشخصه كما تم وصفه على اعتبار انتقال السلطة في زنجبار من الحكم الاستعماري العربي إلى الاستقلال الذي يقوده كارومي القادم من البر التنجانيقي، زعيم الحزب الأفروشيرازي.
تداركت ما رأيت وعدت إلى سبب مجيئي وهو محاولة تتبع الرابط بين "نازي موجا" في زنجبار الشطر الأفريقي التنزاني وبين "نازي مويا" مطرح في الشطر الآسيوي في سلطنة عُمان- يخبرني ناصر أنَّ كلمة "نازي" تعني نارجيلة و"موجا" تعني واحدة، أي نارجيلة واحدة- في حقيقة الأمر ولأول مرة أعلم أنَّ ثمرة "جوز الهند" هذه تربط بين قارتين ورشفات بسيطة منها تكفي لتعبر القارات وتصنع جسرًا من الذكريات- قلت في نفسي ولتكن لي تجربة ارتشاف جوز الهند هنا؛ لعلي أستطيع محاكاة تلك الأيام وصروفها؛ لكنني لم أستطع أن أقاوم التوقف عند لافتة كتبت عليها: "نازي موجا". وهي منطقة صغيرة تتوسطها حديقة، يقابلها مستشفى قديم جدَّا منعني حارس الأمن من تصويره عدا صورة ضوئية مسروقة في زحمة الأصوات، وفي الأرجاء توجد محطة باصات تستقبل المحليين والسيّاح القادمين من وجهات مختلفة في أرجاء زنجبار ولأني أحب التجارب على فترات مترامية ركبت "الدالا دالا" من منطقة "كيمبي سماكي" قاصدًا سوق "فرضاني" ومن محاسن الصدف أنَّها أقرب محطة لي في حارة "نازي موجا" الزنجبارية.
قد تختلف كثيرًا بينها وبين تلك الحارة الرابضة بين جبال مطرح وسور اللواتيا التي تحمل رائحة البحر وهدوء النسيم وصوت النوارس وأشرعة السفائن، وتقاطعات أزقة مطرح ودوي "كوتها" وهي تحيي نهاراتها ومساءتها- أصعد في أعلى تلال "نازي مويا" مطرح في محافظة مسقط بسلطنة عُمان؛ لعلي أستعيد شموخ الحارة التي كانت تعبث بين أزقتها وسكيكها أقدام من رحلوا وباتت سيرهم عطرة تروى بين صفحات الكتب بخجل وتلفظها مجالس الحسينيات بحنين وأشواق.
أبحث في خرائط جوجل عن نازي مويا" مطرح لعلي أعيش أجمل فصول أزقتها أنا القادم من بلدة "بوشر" فأضيع في متاهاتها ولا أجد عدا جاليات قادمة القارة الهندية، أتصفح دفاتر المدرسة السعيدية باحثًا عن بصيص أمل يخبرني عن الحارة بدءًا من بوابة سور اللواتيا فأخطو كالتائه بين أزقة الحارة والغريب الذي يتفرس أجمل الفصول بين حارات مطرح" فأتحين الليالي الرمضانية فيها لعلي أتماهى مع لياليها في ساحات مسجد الإمام الحسن وقبور الأولياء فتتداخل أصوات المآذن في سوق مطرح أحد أقدم الأسواق العُمانية وأهرب أنا من الحكاية العُمانية إلى الحكاية الزنجبارية في الشطر الأفريقي على أشجار جوز الهند وروائح التوابل والقرنفل وأزقة المدينة الحجرية حيث العمائم تتوشح البياض فأعود إلى الاشتياق إلى نازي مويا" في قلب مطرح حيث موائد الفواتح وتوشح الحسينيات السواد فأجد حارات مطرح تتشارك دفة التداخل الثقافي بين الشطرين فأترك أسئلة حائرة باحثًا عن اللوحات التعريفية للحارات المطرحية القديمة وأعود لأجدد أسئلتي أين هم من كانوا هنا وأين من أتوا بعدهم لأني مجرد مسافر لا يجد سوى الأسئلة، ويحاول اختصار المسافات بالحكاية.
هذا هو الذي كان قاعة السيد خليفة بن حارب البوسعيدي, حول بعد ذلك إلى بيت كارومي
بيت الجمارك على ضفاف المحيط الهندي في المدينة الحجرية
نازي موجا زنجبار
مستشفى قديم في منطقة نازي موجا زنجبار
أحد المطاعم في نازي موجا
أزقة الستون تاون

بالقرب من محطة باصات الدالا دالا وهنا أحدها
إطلالة من قمة تل في منطقة نازي مويا في ولاية مطرح
لوحة كتب عليها نازي موجا في زنجبار
أثناء تغطيتي عن منطقة نازي موجا زنجبار
صورة من المدينة الحجرية
هذا المدفع أمام بيت العجائب في زنجبار وهنا ودغت الأصدقاء خالد وناصر
الملاعب الترابية في نازي موجا زنجبار
........
هذه صور متفرقة من منطقة نازي مويا في مطرح في محافظة مسقط
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام