على ضفاف مقهى كالدي 850 في رابية القرم

يحيى المعشري 
لم أكن أعلم قبل أن أغمض عينيّ هنيئة لأقل من ربع ساعة؛ بعد تناول وجبة الغداء مع العائلة أن يسري النشاط في عروقي ويدب في جسدي بعد يومٍ صباحي قضيته في ممارسة رياضة كرة القدم وهو بشائر اليوم الموالي لليلة الحظر الذي سرى علينا في الخامسةِ مساءً في يوليو تموز من العام 2021 إلى الرابعة فجرًا أن أتمكن من الخروج من المنزل لأخذ جولة أخيرة أودعُ فيها ما تبقى من أوقات؛ قبل أن تُعلن صفارات اللجنة العليا سريان اليوم الثاني من الإغلاق الجزئي؛ بعد تصاعد إصابات كوفيد 19 وتضاعف الحالات إلى أكثر من الضعف وبعد أن شارف الكادر الطبي على الانهيار، لم أكن أعلم أن أتقبل فكرة القرار فتسلمت القرار كغيري على مضض وخرجت بسيارتي حيران لا أعلم أين ستكون الوجهة؛ المهم في هذه اللحظة التي تسبق الإغلاق الجزئي الخروج من شرنقة التيه الذي أشعرُ به وقد سُلبت مني أهم الأوقات وهي فترة العصيرة، السماء في هذا اليوم ملبدة بالغيوم، لكنها متفرقة ليست مثلَ سماء الأمس في مسقط التي أبكتها مطرًا بين المتوسط والغزير، ترنحت مع سيارتي بعد أن خرجت من بوشر فإذا بالخوير تواجهني والأخيرة تبدو اليوم أكثر نظارة بعد المطر، الناس بها من مختلف السحنات ومشارب الأرض؛ تجمعهم الحياة نعم الحياة وصروفها، قليلٌ من أبناء جلدتي يخرج في أوقات الظهيرة عدا شزرًا من متسولي المقاهي من هم على شاكلتي- تجولت في الخوير وتحوم في خلدي أفكار بدأتُ أقرع أبوابها الموصدة حتى تلين وتتفرع إليها المداخل، أين المقر الذي أسكن إليه في هذه اللحظة- أين أجلس لأحتسي قهوة اللاتيه أو الموكاتو، أفضلُ في هذه المقاهي الأماكن ذات الإطلالة التي أرى منها الفناء الخارجي من الكون، تفحصتُ بعض المقاهي في الخوير التي تحوي هذه الخاصية فإذا هي مزحومة بأُناسٍ يتقاطعون معي ذات الأفكار، لم يرق لي الجلوس في أي مكان في الخوير فإذا بسيارتي تقذفني في رابية من روابي القرم وكنتُ بين خيارين إمّا مقهى ستار بوكس أو كوستا سابقًا كالدي 850 بحلته الجديدة الذي أخذ لونه من لون البحر؛ صرفت النظر عن الأول لأنني لا زلتُ أعيش القضية الفلسطينية، لا زلتُ أستشعر حرارة شمس مسقط وغضب الشرطي الطويل النحيف الذي أراد تفريق الجموع البشرية القادمة من كلِ فجٍ لتتضامن مع القضية الفلسطينية أمام مبنى السفارة في حي السفارات بالقرم، لا زلتُ أتذكر تغريدتي التويترية "هنا حيث تنعكس مرايا الظل على الأشجار، حيث الطريق المفضي إلى الأقصى، تتحطم الأحجار ويولد الأمل، وترسم الغيوم بياضها في السماء، إلى الوحدة الفلسطينية لن نسير بين الأشجار المقطوعة، سيأخذنا المدى إلى الحقيقة أن فلسطسن لنا، القدسُ لنا، ونضمها كطفلٍ تشبث بخدر أمه الرؤوم" وكانت هذه الأسباب كفيلة أن تثنيني عن قرار الجلوس في مقهى ستار بوكس؛ فإذا بقدماي تقوداني إلى كوستا، يالله كيف لي أن أنسى الاسم الجديد، هو كالدي 850 الذي قضى على فصل من فصول كوستا البريطانية التي اشترتها كوكا كولا مؤخرًا بصفقة فلكية بلغت ما يربو على 5.1 مليار دولار، هكذا تطوى علامة من علامات عشاق القهوة في عُمان، وما يميز كوستا انتقاءه أفضل الأماكن التي يفضلها عشاق القهوة، المكان أشبه بالساحات العامة التي يجتمع حولها الناس في الدول التي تشتهر بالتخطيط الحضري للمدن- الطاولة المواربة جهة اليمين يجلس بها شخص تلقفته الشمس دون مظلة تغطي جسده وتحت شجرة الرولة يجلس آخرون هم عُمانيون مثلي؛ لأنهم يعتمرون القلنسوة والمصر ويرتدون الدشاديش البيضاء، لكنهم يدخنون- أمقت التدخين ولا يمنع أن أرتبط بعلاقة إنسانية مع مدخن هكذا هي سنة الحياة ليس كل ما لا نرغب مكروه، في هذه المساحة نجلس متفرقين تظلنا هذه الشجرة المعمرة؛ كلا في حديثه أما أنا كنت مع نفسي؛ أتصفح اليوتيوب على صنّاع أهم المحتويات التي تصقل مهارتي المتواضعة في صناعة المحتوى، فجأة تصلني رسالة من صديق وكأنه يراني في هذه المساحة- قرأتُها مرتين لا أكثر؛ كان محتواها "الإنسان الناجح يوازن بين الطاقات الأربع: طاقة الروح وطاقة العقل وطاقة الجسد وطاقة العاطفة" يبدو أن حمد المسكري الذي بعث هذه الرسالة كأنه يعيش اللحظات التي أعيشها، لم يكن يعلم حمد وهو يرسل رسالته العابرة عبر الفضاء الشاسع مكاني ولا شعوري اللحظي، تركتُ الرسالة وبدأت أتفيأ ظلال المكان، الفناء أمامي مكشوف والغربان تعيش بيننا لا تخاف؛ تنعق بأريحية والقطط بدت وديعة مع البشر هي كذلك لا تخاف- يا للغرابة، والبحر يداعب حبات الرمل وطفل تركه أباه يلعب الكرة في الشاطئ وبحارة يصطادون السمك في هذا المكان الجميل، ثمة فتيات يضعن العطر الفواح وأوشحة راقية تتطاير مع نسمات الهواء لا يعلمن أنها تعود إلى الملكة المصرية نفرتيتي التي يعتقد أنها ترتدي وشاحًا ملفوفًا تحت غطاء رأسها وهي ترتبط بخزائن النساء كما تخبرنا ويكيبيديا وثمة مدخنين لا يكترثون بعطرهن، ألتفت حولي مرات ومرات فلم أجد سواي وقهوتي وظل شجرة معمرة لا أعلم متى زرعت وإلى أي عهدٍ تعود ومن صاحب فكرة غرسها في هذا المكان حقًا نحن نحتاج إلى الكثير من الأشجار المعمرة في مسقط والكثير من الساحات، نحتاج إلى أنسنة التخطيط العمراني وتفعيل مبدأ جودة الحياة، توجد طاولة مواربة أخرى انتزعت من تحت أنقاض الشمس أتى بها البارستا وغرسها بالقرب مني، جمعت عشيقين جلسا بمحاذاتي، أطلت النظر فيهما، فجأة هوت ثمرة على طاولتي أبت البقاء في غصنها ودنست ملابسي، أرسلها الغراب وكأنه يعاقبني على فضولي، عبثًا حاولت مداراتها لكنّها انتشرت في ملابسي بقعة بقعة، لقد لاحظ من حولي ارتباكي فأقبل البارستا يجر خطواته بغية إسعافي هممت بإخراج مثبت الهواتف المغناطيسي "أوزمو موبايل فور" فأحدث طقطقة في الطاولة مسكت قهوتي بهدوءٍ تام؛ ارتشف منها ما تبقى في مسلسل اليوم وأحدقُ إلى سماء القرم؛ هناك سحابة حبلى أخفت الشمس يبدو أنها ستلد مطرًا بعد قليل تسلل الفرح في وجهي حتى أنهيت آخر رشفة في كوبٍ أزرق ُطبِعت عليه كلمة كالدي 850، هرعتُ مسرعًا إلى سيارتي قبل أن يحين موعد الإغلاق الجزئي بدقائق فمضيت أطوي دروبي وفي ذهني سؤال يرافقني وسيارتي- هل يمكنني أن أسرد هذه اللحظات الجميلة التي أعيشها في مذكراتي؛ لنتشارك الجمال معًا؟

هذا هو جهاز الأوزمو مثبت التصوير
. قبل التبييض 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر