الطريق إلى شرم الشيخ

مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا
يحيى المعشري
الأحد 29 ديسمبر 2019م
محطة (جو باص) في ميدان التحرير بالقاهرة
بعد صمتٍ كبير وسكون أطبق علينا ونحن نمخر عباب شارع ميدان التحرير الذي بدا عليه الهدوء في هذه اللحظات، لا أستطيع تخيل القاهرة بهذه الوداعة كالحمل الوديع الذي آثر الصمت واستحسن الاستسلام تحت شفرة الجزار، هكذا قال قيس وهو يومئ لناصر وفهد وأردف قائلًا: لأول مرة أرى القاهرة مذ وصولنا إليها بهذا الهدوء، لم أشأ أن أنبس ببنت شفة، كنتُ متكومًا في المقعد الأمامي باسترخاءٍ تام، مطبقًا بقبضة يدي على المقبض في أعلى السيارة، تاركًا الرفاق يتوهون في زحمة السؤال الذي أطلقه قيس، على الفورِ رد عليه سائق سيارة الأجرة الذي أقلنا إلى محطة الباصات (جو باص) Destinations | Go Bus، تُشير الساعة إلى ما بعد منتصف الليل، السماء توقظ النجوم والأمهات يصغين إلى أطفالهن والآخرون يتراقصون في خدر آبائهم وبطبيعة الحال وسائل النقل والحراك البشري يقلُ قليلًا في فترة البيات، عقبتُ عليه، رغم ذلك القاهرة وكما يُقال أنها "المدينة التي لا تنام"، أتعلم سيدي السائق بأننا في عُمان وفي مثل هذه الأوقات الأغلب يسترق السمع إلى الصوت المنبعث من المُكيف، لأنه في حالة لاوعي تام، قضينا الليل خلف أسوار حلم الانطلاق إلى شرم الشيخ، تساؤلات عديدة عن موعد الرحلة، عين على الشارع بانتظار الباص وعين على التذكرة، داهمنا الوقت وأقبل الفجر بعد أن أعلن الليل سدوله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، صوت أذان الفجر يدغدغ آذاننا في هذا الوقت، كانت البناية المجاورة لفندق هيلتون رمسيس هي التي سنهرعُ إليها لأداء صلاة الفجر، ما أن فرغنا من أداء الصلاة وترتيل القليل من أدعية السفر، سبحان الذي سخر لنا هذا وإنا إلى ربنا لمنقلبون، تركنا الوقت يمضِ ونحنُ متكورين على طاولة وضعت لانتظار المسافرين، قال النادل بصوتٍ متحشرج غالبه السهاد، لا مؤاخذة انتوا بتطلبوا إيه" حدقنا في وجوه بعضنا البعض وقلنا؛ بكل سرور سيدي النادل، نحن رهن إشارتك، سنحتسي أربعة شاي كشري أو خمسينة، المهم ضبطنا على طريقتك سيدي النادل، وفي طاولة الانتظار أقبلت سيدة في العقد الخامس من العمر كما يبدو وأخذت ترتل الأدعية وتغدق علينا العبارات الحانية وبطريقة أهل الكنانة في الخطاب والاستلطاف، لم نستطع كسر رغبتها فأخذنا الترمس وبعض البقوليات، ومضى الوقت ودقت ساعة الانطلاق التي تشير إلى بداية شدّ الرحال؛ وبعد أن حزمنا أمتعتنا، كان بصري معلقًا في الأطفال الذين سوف يلازموننا رحلتنا هذه وبين الشتاء الذي خيّم علينا في فصل الصيف، حيثُ كان التكييف على أوجه والأطفال يتدثرون بأقمشة صنعت من الكتّان والصوف والطريق رأيته وكأنه شبحٌ هلامي لا يريد أن ينتهي، كانت موظفة المكتب السياحي قد حددت ساعات الرحلة في أقصى مدة لا تتجاوز خمس ساعات ونيف وأخذت تؤكد ذلك على مسامعنا؛ مرارًا وتكرارا، وبينما كنا نستعجل الوقت؛ علّنا نصل في الوقت المحدد أو يزيد بمدة بسيطة، مررنا على رأس سدر ورأس مطارمة وطريق الطور وهي الطرق التي حدّثتنا عنها موظفة المكتب وفي حين كُنا نحدق إلى طريق السويس الصحراوي في خارطة الهاتف أطلت علينا المحطة الأولى، فورًا قام مأمور التفتيش بإيقاف السائق ونحن نغطُّ في حالة من التوهان، سمعنا أصوات أقدام رجال التفتيش تنحت ممرات الباص وكانت العبارة التي تطّن على مسامعنا كل مرة" تفتيش، تفتيش"، أي نقطة تفتيش والحقيقة أن مكان انتظار شرطة التفتيش أو شرطة الأمن وكأنه سجن قسري على طريقٍ صحراوي يلفه الغبار وتغازله أشعة الشمس الحارقة من كل جانب، ثمة شرطيًا يترك قنينة الماء في واجهة كابينة الانتظار وقد أشفقت عليه؛ فالقنينة تبدو لي أكثر سخونة من مياه عين الحمام في ولاية بوشر، وبدون أن يتوخى حذر نيام الأطفال بدأ ينادي بصوت أعياه التعب، تفتيش، تفتيش- يا رباه الهواء البارد المنبعث من الباص وكأنه ديدان ضخمة بدأت تنهش جسدي، وفي لحظة خاطفة امتزجت المشاعر بين البرد القارس وتسلل الخوف علينا، لعلّنا اقترفنا جرمًا ما استدعى رجل الأمن أن يطلب إبراز هويتنا وبدون مراعاة لمشاعرنا ودون إعارة لصراخ الأطفال وهمهمت النساء، خرج رجل الأمن دون أن يلقي علينا كلمة الوداع؛ بعد أن أنهى مهمته وساء بنا الحال، فقد أعقب هذه المحطة محطات تفتيشية أخرى وفي بعض المحطات يتم إفراغ الباص من الركاب وجميع الحقائب التي يتم بسطها على الأرض، يا لله أصبحنا وكأننا باعة متجولين يفترشون الأرض، يعرضون بضائعهم علّ هناك محسنٌ تأخذه بهم الرأفة ويتبضع منهم وهكذا كان يرد سائق الباص عند الوصول إلى المحطة التي تعقب المحطة الأولى "تفتيش، تفتيش"، توارينا خلف كثبان التفكير، بين من يُطمئننا بلحظة الوصول وبين الطريق إلى شرم الشيخ الذي لا يريد أن يبلغ منتهاه، قبل أن يصيح سائق الباص بالجميع، لديكم ساعة استراحة لمن يود أن يأكل أو يحتسي القهوة أو يرتشف قطرات الشاي بتتابع ومن تستهويه معاقرة الدُخان أو من يرغب بالخروج للاستمتاع بهجير الشمس؛ لكسر لفحات البرد الشديدة المتدافعة علينا في الباص، جلستُ والرفاق على طاولة الطعام وتركتهم برهة من الزمن؛ أسرح في مكاتب السفر التي يبدأ منها الجنون منذ القرار الأول بالمرحلة أو المغامرة إن جاز القول، أُرتل عليهم ترنيمات العزاء على موت اللحظات المسروقة، على الوقت المهدور، على الطريق الطويل، على التململ الذي بدأ يسري في عروقنا ومن يصحبنا في الباص، فقلت في نفسي- تبدأ المغامرات عندما تتخلص من زحمة التساؤلات والتخلص من ذلك التيه في الداخل الذي يحاول أن يرجئنا في لحظة ضعف؛ حتى لا نقحم أنفسنا تحت رحمة التجارب الغير معلومة ونحن نتكبّد الترحال الغامض، عدنا مجددًا أدراجنا، كلٌ في مقعده، نخترق السراب إلى شرم الشيخ، نتأهب لفحات البرد القارس إلى الهواء المنبعث من أعلى ثقوب الباص، ونحن نسير في حالة توهان، شيئًا فشيئا، لاحت لنا لوحة كبيرة أشبه ببوابة المدن، فرح الجميع وتهللت أساريرهم وفجأة وبدون سابق إنذار سمعت صراخ أحدهم وهو ممسكًا بقبضة يديه الحديد الفولاذي الذي يقطع الباص نصفين، صحى الرفاق "ناصر وقيس وفهد" على وقع الصوت الذي أطلقه الرجل بلا هوادة، عقّب أحد الرفاق، لا أدري من يكون فقد كنتُ أجلس القرفصاء، ضامًا كلتا قدماي ومحكمًا بكلتا يداي عليهما ولا أعلم إن كان عدم معرفتي بمصدر الصوت سببه النوم المتقطع وقضاء الفجر وأتبعته منتصف النهار بأكمله وأنا أنافح البرد وإجراءات رجال الأمن وصراخ الأطفال والطريق الصحراوي الطويل وزحمة التساؤلات.
على مشارف الدخول
 
الوققوف بجوار الاستراحة
 
خريطة توضح الطريق من القاهرة إلى شرم الشيخ
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر