من درجاني، أقرأ نصوص السيد خليفة بن حارب البوسعيدي في فرضاني.
يوميات مسافر إلى زنجبار
يحيى المعشري
في كلِ يومٍ أخرج فيه من الفندق بين أروقة المدينة الحجرية أحرص على زيارة سوق درجاني وأختتم الزيارة في اليوم نفسه في ساحة فرضاني؛ لسبب مهم أنّي أقيم في الوسط بين السوقين وبإمكاني الوصول إليهما مشيًا على الأقدام- أمّا المختلف على المستوى الشخصي تقتصر تنقلاتي في سوق درجاني بمفردي سواءً في الفترة الصباحية أو عندما ينتصف النهار؛ أمّا في فرضاني فهناك ألتقي بالأصدقاء خالد وناصر وابنه نصير متى سنحت الفرصة، كما التقيت بشخصيات عُمانية شاطروني الزيارة غالبيتهم كانوا معنا في نفس الطائرة التي أقلتنا من سلطنة عُمان وبعضهم ممن يتناوبون على زيارة زنجبار من المهجر خارج الشطر العُماني وينتشر في سوق درجاني الباعة في كل مكان كالعقد المنثور؛ تراهم، أما أصواتهم تصدح في الأرجاء في كل مكان فطبيعة هذه الشعوب التعبير عن تفاصيل حياتهم برفع الصوت والخشونة ولأني لا أجيد اللهجات السواحيلية أكتفي بالتخاطب معهم ببعض المفردات التي حفظتها أثناء تعاملي مع الذين يجيدون التحدث بها من أبناء جلدتي ويقال أنَّ اسم "درجاني" نسبة إلى الدرج من الصعود والنزول وهذا يؤكد التمازج والتشابه اللغوي بين اللغة العربية واللغة السواحيلية بسبب التاريخ العريق والعلاقات العربية والعُمانية مع شرق إفريقيا والحال ينطبق على كلمة "فرضاني" التي أتت من فرضة البحر وهي الميناء الصغير أو المكان الذي تفرّغ فيه البضائع وتحمّل وهي المكان الذي ترسو فيه القوارب والسفن.
في كلِ صباح أبدأ يومي في سوق درجاني؛ حيث يعتبر واحد من أقدم الأسواق التقليدية والشعبية في أنجوجا زنجبار وأول ما أفعله بعد تناول وجبة إفطاري في مطعم لقمان احتساء شراب قصب السكر اللذيذ؛ يبدو السوق بسيط في كل تفاصيله وتبدو الحياة فيه شعبية جدًّا ويعتبره الزنجباريون القلب النابض- أدنو بخفة بين الباعة من سوق المأكولات البحرية وعلى جنباته يصطف الباعة بحيوية ونشاط يعرضون بضائعهم وفي الخلف توجد أسواق ممتدة يبيع فيها الباعة التوابل بأنواعها المختلفة وأثناء تجوالي بالزي العُماني التقليدي أحدقُ في وجوه الكبار وكأني أراني أعبث بأوراق الطفولة؛ لربما ذلك الرجل الكبير الذي يستند على ناصية بالقرب من بائع الكميم "الزنجبارية" يتذكر عند رؤيتي بهذا الزي من لعبوا معه وهم صغارًا من أبناء جلدتنا أو أنّه يرتبط بعائلات اختارت العودة إلى أرض الوطن "عُمان" بعد الغزو في 1964 وهل يستطيع المرء نسيان أو تناسي طفولته التي لا زالت تحكيها الأرصفة وتُكتب في دفاتر من نوافذ الذاكرة كما أفعل أنا اليوم محاولًا التطفل على من تميزوا وتفوقوا من الرواة وحفظة التاريخ وما أكثر الذين خطوا حروفهم عن الحضور العُماني في زنجبار، أتنقل بين الأرصفة في سوق درجاني؛ تارةً بالزي العُماني وتارات بالملابس التي أتتنا من خلف القارات لتكون رفيقة الأسفار ومعشوقة العدسات، إبريق قهوة وجمع من الناس يتقاطرون على المقهوي وغالبًا ما يكون رجل كبير السن؛ يحتسونها كالعابرين الذين لا يعترفون بالكنبات الوثيرة ولا مقاهي البراندات التي تخاطب الجيوب، تمتاز الحياة في هذا السوق بالبساطة، فأزقته ضيقة وممراته ترابية ومتعرجة، أما المعروضات من خضروات وفواكه طازجة، شيئًا منها وضع في أكياس وبعضها في صناديق خشبية، ومنتجات معروضة في العراء قد لا تعجبك ولا يروق لكَ منظرها فأنت محاصر بين الأطعمة الصحية والمواصفات القياسية- في درجاني النساء يرتدين الملابس الزنجبارية التقليدية ويتشاركن مع الرجال دفة الأعمال والبيع والشراء- أعترف تختلف حالة التفاوض معي حينما أكون وحيدًا في الأسواق الزنجبارية، لكنني أتحين الزيارات المتكررة للسوق ليس بدافع الشراء فحسب بل يتعدى ذلك إلى فضول التعرف على اللقاءات الاجتماعية التي يتبادلونها وغالبًا الأسئلة الشائعة بينهم- السؤال عن الأهل والأقارب والزيارات المتبادلة بينهم بين جزيرة بمبا ودار السلام وموانزا والجزر المتفرقة في تنزانيا، في حين أكتفي بتبادل الابتسامة معهم كعصفورٍ مهاجر يطرب ويغني ويتوارى بعد حين- أعرج بين الممرات المتداخلة في أرجاء السوق فأضيع كثيرًا وأتساءل هل ما زالت زنجبار لا تعترف بخرائط جوجل أم أنّي أتسلّى بالضياع كالشمس التي تتوارى خلف الظل وتبوح بأسرارها وأختفي بعيدًا- رائحة "القرنفل" تتسيد المشهد في درجاني وليس غريبًا تسمية الجزيرة باسم جزيرة القرنفل أو جزيرة البهارات، حيث تجد في هذا السوق وفي كل زاوية القرنفل والقرفة والهيل والفلفل الأسود والزنجبيل وفي الخارج على قارعة الطريق يجر بعضهم عربات ُصنعت من الخشب، توجد بها إطارات تستخدم لتحميل البضائع وتحت الأشجار المعمرة تجد المحليين يفترشون الأرض لبيع المنتجات المحلية ويتسلّون اللعب والحكايات، يشاركهم البيع قبائل الماساي الذين يُعرفون بمظهرهم المميز وأزيائهم الحمراء المزركشة يقومون ببيع الحلي والأساور والقلائد وبعض القطع التي تمثل رموزًا ودلالات اجتماعية وأعشاب طبيعية والجانب المهم هو الابتسامات التي يوزعونها والحكايات التي ينثرونها كرحل جاءوا من براري زنجبار ومن أكناف جبال كلمنجارو؛ لا تفارقهم العصي التقليدية التي يستخدمونها للرقص ورمز للقوة واستخدامات أخرى ومن الأشياء التي استرعت انتباهي كثرة المحال التي تبيع بطاقات الهواتف وشحنها وهي عبارة عن كابينات صغيرة من البلاستيك الشفاف والخشب أشبه بأكشاك متنقلة، بالداخل شباب وفتيات منهم من يقوم بخدمة الزائرين المحليين والسيّاح، أمّا الفتيات فهن محجبات وبين خدمة الناس وتبادل الأحاديث والضحكات تشعر أنَّ الكابينة ليست مجرد محطة شحن، بل تعدت ذلك إلى مساحة لقاءات اجتماعية وتبادل أخبار- أحيانَا تجدها فكرة بسيطة جدَّا لكنك وأنت تمرق قبالتها تجدها مليئة بالروح والحياة البسيطة وصورة صادقة لحياة الزنجباريين اليومية.
من المظاهر التي اعتدنا عليها في زنجبار زيارة سوق أو ساحة فرضاني وحديقة فرضاني وينطقها المحليين "فوروداني" وفي هذه الساحة يتوافد المحليين على نصب أكشاكم من العصر إلى العاشرة مساءً وذلك لشي اللحوم والدجاج والأسماك الطازجة التي يبيعونها للزائرين؛ إضاقة إلى المأكولات البحرية بالنكهات الزنجبارية الممزوجة برائحة التوابل في مشهد مليء بالروائح الشهية، في ساحة فرضاني كأني أرى زنجبار تخرج من بيوتها وأريافها وقصورها للمشاركة في هذا التجمع اليومي.
في كل مرة أخطو فيها داخل أروقة "فرضاني" في زنجبار، أشعر أن الزمن يتباطأ، وكأن المكان يحتفظ بذاكرته الخاصة، وبين هذه الساحة في تفاصيلها البسيطة أتحين الوقت لأمر على شريط المحيط الهندي قبالة المدينة الحجرية فأرمق البيوت السلطانية التي لا زالت شاهد حي. فرضاني ليس مجرد سوق؛ إنه حكايةٌ تنبعث من دخان الشيّ، من النكهات المتفردة من البهارات التي ترحل في الأفق مع الدخان، من أعين الباعة الذين وجدوا منه سانحة لخلق مزيدًا من الحكايات والقصص.
يقع هذا السوق المفتوح قبالة بيت العجائب الذي شيد في عهد السيد برغش بن سعيد بن سلطان البوسعيدي، وكأن بينهما حوارًا مستمرًا منذ زمن السلاطين ومن عاشوا معهم. أزوره كلما اشتقت لتلك اللحظة التي تذوب فيها رائحة اللحم المشوي مع نسمات المحيط، كلما رغبت في الكشف الشيفرات التي تتطاير مع الدخان وترتسم في الجلسات التي يحيكها العُمانيون.
هناك، عند زاوية غير بعيدة من السوق، تنتصب لوحة خشبية قديمة، نُقش عليها أن السيد خليفة بن حارب البوسعيدي هو من أمر بإنشاء هذه الحديقة وجمع فيها الباعة، ليكون هذا السوق مركزًا للقاء، للحياة المشوبة بالحنين والأشواق، أفضّل التجول وحيدًا لمسافات ممتدة لعلي أجد الإجابة عن تساؤلات كثيرة عالقة في وجداني بين حياة الأمس واليوم وكيف خطرة في بال السيد حارب أنَّ يبقي المكان ذاكرة جمعية لا تنسى ولا تطويها رحى الأيام.
ها هي ساحة فرضاني اليوم وقد أصبحت بهذه الطريقة تعد أكثر من مجرد مكان إنها طقس من طقوسي اليومية كما هي طقس من طقوس من رأيتهم من أبناء جلدتي، هنا أسعد بلقاء الأصدقاء خالد وناصر وتعرفت فيه على محمد علي" وهو أحد العُمانيين الذي وجد زنجبار مكانه المفضل بعد حياة التقاعد هو يمتلك بيتًا فيها كما يمتلك روحًا جميلة جدًّ وشخصية مرحة لا يمكن أنَّ أتجاوز الحديث عنها في معرض سطوري المبعثرة هذه. وفي نهاية المساء، حين تخف الضوضاء، وتنتشر أعواد المشاكيك وبقايا الأطعمة في الأرجاء، أودع سوق فرضاني بجلسات حميمية مع الأصدقاء نتناوب على تذوق الأكلات الشهية ونحكي أسرار المكان لمن يأتوا بعدنا، وفي نهاية المساء يتوجه خالد وناصر وابنه نصير إلى كيمبي سماكي وأعود أنا من بين أزقة المدينة الحجرية إلى مكان إقامتي في سكون الظلام والهدوء الذي الذي لا تشاكسه أضواء النهار.
في البداية أرفق لكم مجموعة صور من سوق درجاني في زنجبار
بمناسبة اليوبيل الفضي في زنجبار
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام