دار السلام.. بين لحظة الحياة وصدمة الفقد وداعًا يا "سعيد.
يوميات مسافر إلى دار السلام

يحيى المعشري

ها أنا ذا أفتح أبواب النهار في دار السلام، وبعد أنَّ احتسيت أنا الشاي بالزنجبيل وناصر القهوة بالزنجبيل والزنجبيل كما أسلفت باللغة السواحيلية يعني "تنجويزي" على قارعة الطريق تحت ظل شجرة فارعة الطول؛ بانتظار الصديق "خالد" الذي آثر القيام ببعض الزيارات قبل أنَّ يلتحق بنا، في دار السلام حيث تنساب الحياة في منطقة إلالا" بهدوء على إيقاع المحيط الهندي، على عكس الاكتظاظ الذي رأيناه عندما خرجنا من الميناء من الوهلة الأولى؛ البشر هنا يتدحرجون جيئةً وذهابا؛ كالأوراق المتساقطة التي تحركها الرياح النشطة.
وفور التحاق خالد بنا تنقلنا بين أزقة مدينة إلالا؛ نتحرك بحذر فالشوارع الداخلية تحتاج إلى تركيز أكثر، السيارات والدراجات تسابق الرياح من جانبي الشارع، همهمة من "ناصر" سنتناول القهوة في بيت أحد أفراد عائلتي هنا، في هذه اللحظة لم أكن أتخيل أنَّ لـ"ناصر" أقارب هنا في دار السلام، إذًا أنا وقعت في فخ التوقعات المسبقة التي تشكلها الصورة الذهنية والنفسية والثقافية عن مدينة دار السلام، تناولنا القهوة وهي لا تخرج في طابعها وتقديمها عن السمت والعادات العُمانية، كان اللقاء حميميًا، امتلأ بحديث الذكريات، وضحكات تمازجت بنكهة القهوة التنزانية المخضبة بعبق الهيل العُماني. يحرص من تبقى من العُمانيين والعرب في دار السلام على إحكام غلق أبواب منازلهم بالأقفال؛ عندما يُشرعون على مغادرة منازلهم؛ سواء لزيارة أقاربهم في زنجبار أو بمبا أو تخفق أجنحتهم في أرجاء المدن والقرى في الرحاب التنزانية وخارجها أو السفر إلى عُمان أو حتى جولاتهم وزياراتهم في أرجاء دار السلام.
رغم أنّي رأيت أنَّها مدينة آمنة نسبيًا ولا يمكنني تفسير الأمر في زيارة خاطفة لربما الأمر لا يعدو أن يكون جزء من العادات والتقاليد في الثقافة العربية أم لأنهم ينتمون إلى أسر تجارية عريقة، ما يجعلهم حريصين على حماية ممتلكاتهم وهو أمرٌ طبيعي في كل البلدان وقد يكون سائد بين معظم سكان دار السلام؛ سواءً كانوا محليين أم عرب.
بعد الزيارة، انطلقنا في جولة سياحية، نحمل في قلوبنا نشوة الاستكشاف والتعرف على نوعية وأحوال البشر هنا، وأقدامنا تمضي على إيقاع المدن التي تحتضن الغريب كما تحتضن أهلها. مررنا بأسواق تضجّ بالحياة وأكشاك أقل ما يمكن القول عنها أنها بسيطة في كل شيء، وأزقة ضيقة تتناثر فيها روائح البهارات وأصوات الباعة وذكريات السيد "ماجد بن سعيد بن سلطان البوسعيدي المؤسس للمدينة. البحر كان قريبًا، يحمل معه نسمات عليلة، وكأن الأمواج تحكي قصص العابرين من أسلافنا. في السيارة التي يقودها "سعيد" وهو أحد أفراد عائلة "ناصر" قلت وأنا في غرفة منزل "أخ" ناصر الذي نسكن به تنبعث أصوات قعقعة اهتزاز عجلات قطار؛ هل ثمة سكة حديد هنا، أجاب "سعيد" نعم هي المحطة المركزية التي تقع في منطقة "مشافوكوجي" في إلالا ومسار هذه السكك الحديدية المركزية إلى مدن تابورا وموانزا والأخيرة أرنو إلى زيارتها في قادم الوقت إذا سمحت الظروف.
امتدت جولتنا هذه بين الشواطئ تناولنا فيها قليل من الوجبات الشعبية قبل أنَّ نتجه إلى أحد المطاعم لتناول وجبة الغداء على أنغام الطرب الشرق إفريقي تحت الأشجار الظليلة على طاولات مصنوعة من الخشب الخالص، وجدت في هذا المطعم تناغم غير عادي وفيه الناس من مختلف الأجناس والجنسيات إلا أنَّ حرارة الجو مزعجة نوعًا ما- بعدها توجهنا إلى "مكمبوشو" Makumbucho وهي واحدة من أشهر معالم دار السلام وتعني "متحف القرية" وفيها ولا يخفيكم وجدت تجربة ثقافية متفردة؛ تعرفت فيها رفقة من يخفروني على منازل الشامبالا والهايا القديمة في تنزانيا، وكيف كانت حياة الناس فيها وما هي العادات والتقاليد التي يؤمنون بها في ذلك الوقت، وأثناء تجوالنا لمحنا لوحات ورسومات من الطابع الإفريقي لا تنفك أنَّ تتجاهلها العين من فرط جمالها وشدة تناغمها، وفي نهاية الجولة استقبلتنا فرقة لعروض الرقص الحي وفيها تعرض الفرقة ثقافة الرقص؛ على إيقاعات يتميز به الشطر الإفريقي وإن كنتَ من محبي الرقص ومشاركة الشعوب التجربة تتفاوض معهم مقابل مبلغ معلوم وتنطلق كالعصافير من أعشاش الهيام.
لكن اللحظة التي كانت تغمرني بسحر المكان، مزّقتها رسالة هاتفية حملت معها نبأ كالصاعقة. قرأت الاسم، ثم الكلمات التي لا تفسح مجالًا للشك: "سعيد الجابري في ذمة الله". للحظات، تجمد كل شيء في عروقي. وسرت في داخلي أنّات وآلام؛ كنت هناك في دار السلام، لكن عقلي شدّني إلى مسقط رأسي، عُمان. شعرت وكأن الزمن توقف، وكأني أتغطى بغطاء حريري شفيف من شدة البرد والمدينة التي كانت تعجّ بالحياة أصبحت صامتة، تلاشت نشوة الرقص الإفريقي وإيقاعاته بعد أنَّ وصلني نبأ رحيل الصديق "سعيد الجابري" عن عالمنا، وبينما كانت أصابع "مكتوم الوهيبي" تعبث بمشاعري في الغربة، هو بطبيعة الحال لا يعلم أنَّي خارج المحيط في هذا الشطر لكنه يعلم تمام العلم علاقتي بالراحل "سعيد" والستارة التي كانت تغطي الأوجاع انكشفت وأظهرت قالبها الحقيقي؛ حتى أصوات أصدقائي تلاشت وكأنهم يعيشون الذهول والصدمة، آثرت عدم إبلاغهم بالنبأ؛ لكي لا أعيش عمق الحزن والقلق معهم، تملكني شعور بالذنب أني خارج أرض الوطن ولا يمكنني تشييع صديقي "سعيد" ولا أشارك أحباءه وأقرباءه إزالة التراب وهو يهال على جسده الطاهر، لحظتها عشت وجع الدموع الصامتة، لكنها الأقدار لا تعرف القريب والحبيب؛ نعم نحن نؤمن أننا في الحياة نمتلك قلوبًا تحمل كثيرًا من الود والذكريات الجميلة لمن معنا فكيف هو الحال عن من رحل عنّا.
عدنا إلى منطقة "إلالا" وطلبت من ناصر وخالد أخذ جولة انفرادية ؛جلست تحت ظل شجرة "الباوباب" التبلدي، ذات الجذع الضخم أحتسي القهوة بالزنجبيل وفي عموم تنزانيا سواء في زنجبار أو دار السلام يستغلون هذه الأشجار المعمرة كما يفعل هذا الشاب الذي يقدم الشاي والقهوة للمحليين والعابرين من خلف القارات أمثالي، بدأت أحدّق في الأفق البعيد، أحاول استيعاب وقع النبأ. كان سعيد أكثر من مجرد صديق، كان روحًا نابضة بالحياة، غالبية من تعرف عليه من الوسط الرياضي في "شاطئ القرم" في محافظة مسقط.
شعرت أنني عالق بين عالمين: عالم يحيطني ببهجته وضجيجه في دار السلام، وعالم يئنّ بالحزن هناك في عُمان. تذكرت لحظاتنا معًا، ضحكاته، كلماته التي كانت دومًا تحمل طاقة الحياة. شعرت بثقل الفقد، لكنه كان يومًا يحمل معه دروسًا عن الحياة والفقد، وعن اللقاء والوداع. وداعًا يا صديقي أنت في عالمنا كالحياة التي تسكن الكتب والأقلام الصادقة التي تنثر حبرها على صفحات البياض- وداعًا يا "سعيد" وداعًا يا "سعيد".
في متحف القرية القديمة مكمبوشو" Makumbucho في دار السلام
محطة الشاطئ وهي واحدة من محطات دار السلام
سعيد وخالد
أقف أمام لوحات ورسومات ذات الطابع الإفريقي وهي شائعة في عموم تنزانيا
ناصر أم بيت في المتحف القديم وفيه أسرار وحكايات
تحربة مشاركة المحليين شيء من عاداتهم
داخل أروقة أحد البيوت في "متحف القرية
تحت شجرة معمرة نتناول الشاي والقهوة بالزنحبيل والزنجبيل في لغة السواحل يعني تنجويزي
من ذكريات المرحوم سعيد الجابري رفقة قيس الجابري
هذا هو الصديق سعيد لحظات كنا نتشارك معًا بهجة الحياة

تغريدتي الأخيرة وكانت لحظة الوداع التي كانت من دار السلام
رحمة الله عليك أيها الصديق الوفي
أسألكم الدعاء
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام