من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة
يحيى المعشري
الثلاثاء 24 سبتمبر 2019م
..... /////.....
مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا
..... /////.....
..... /////.....
مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا
..... /////.....
وفي ذات هداية كنا قد أتممنا صلاتيّ الظهر والعصر بعد يومٍ جهيد قضيناه بين أنياب التعب، قاطعين أزقة الإسكندرية مشيًا على الأقدام إلا مع قليل من التنقلات بالأوتوبيس والترام وبعد إن انفض المصلون من هجعة المحاريب في مسجد سيدي أبو العباس المرسي، وهذا الاسم يعود إلى أحد العلماء الأتقياء الذين وفدوا الإسكندرية ذات زمن، قادمًا من الأندلس بالتحديد في مدينة "مرسيه" وإليها نسب اسم هذا العالم، هنا أصوات المصلين الذين ملئوا المسجد وفناءه الداخلي تضّج بالدعاء والتسابيح ومذاكرة المتصوفين، ثمة أصوات تتعالى وثمة دموع تذرف من أفئدة مرجت الضريح من كل مشارب الأرض، تركنا الدمعة عذراء وهنا لم نتمكن من خرق القواعد ولم يتداعى علينا العالم بأسره وتركنا العجوز وطفلها الرضيع يلتقطون السيلفي في الباحة الخارجية لمسجد سيدي أبو العباس المرسي، وفي تلك اللحظة كان الباعة الجائلين يعرضون أمتعتهم في الجهة اليمنى من المسجد بعد دخولك من البوابة الرئيسية المطلة على جهة البحر الأبيض المتوسط وفي ساعة استرخاء بعد تطواف في أروقة المسجد، ألقينا أجسادنا على المفارش الناعمة، نتأمل ألوانها المتمازجة، نحدقُ إلى الثريات المتدلية وأضوائها تزاحم الجدران الإسمنتية، تتراقص الطيور في الأعلى، حاملة أعشاشها إلى نواقيس المآذن وبينما كان النوم قد تمكن منا، ألقى ناصر نظرة خاطفة على الفناء الداخلي في المسجد، محدقًا في الأعمدة الرخامية وأخذ يغمغم في ذهول ويلقي عليّ تساؤلات، مباغتًا إياي، أفقت على إثرها وقد تملكني ذات الذهول الذي داهم ناصر وكأن لطمات المتصوفين تباغتني، يبدو أن الزخرفة الأندلسية مثار اندهاش لي وناصر والرفاق وقبل أن نترك تلك التساؤلات والإيحاءات التي ألقاها ناصر تمور بداخل أروقة المسجد، هرعنا نهم بالخروج وكان علينا أن ننقد البواب الذي نودع عنده الأحذية بمبلغٍ مالي بسيط والأغلب بين خمسة إلى عشرة جنيهات؛ نظير حِفاظه على أحذيتنا وخدمة تُقدم لرعاية المسجد قبل أن يطبعنا بابتسامة معبرة ودعاء أشبه بدعاء الأمهات عندما يودعن أبنائهن إلى مقاصدهم في رحلة سفر طويلة قد تطول وتطول، حالة من السكينة داهمتنا بعد أن فرغنا من أداء الصلاة والحصول على هذه الكلمات اللطيفة من البواب، ونحن نمرق المارين الذين يتحينون الفرص من أجل الولوج إلى المسجد هرعنا مسرعين إلى أحد الجالسين في المقاهي المنتشرة في الخارج، نسأله عن بيت "ريا وسكينة" وبنظرة تعجب أو ازدراء لا يهم، المهم أننا لمحنا على وجهه علامات الاستغراب وكأن الدبابير خرجت من عشها وتكومت على وجهه،حينها احتقن وجه ناصر وقال: لنتركه ونذهب إلى أقرب سيارة أجرة تقلنا إلى مقصدنا، فالخيارات هنا كثيرة والاهتمامات متباينة، كان فضول قيس أسبق إلى لسانه وقبل أن يسأل السائق عن ثمن "التوصيلة" من مسجد "أبو العباس والمرسي" إلى حيثُ يقبع مكان فصول حكاية من حكايات تاريخية لطالما تابعنا أحداثها في المسلسلات والأفلام المصرية ذات زمن، بدأنا نمرق أزقة أحياء الإسكندرية رفقة "فرغلي" أحد سائقي سيارات الأجرة وهو في العقد الرابع من العمر كما يبدو، أخذنا مدة لا بأس بها في عملية البحث، أسئلة استدلالية يلقيها "فرغلي" على المارين والجالسين في المقاهي وأغلبهم ينفون معرفتهم بالمكان، وفي زحمة البحث بدأ الملل يدّب في فهد وناصر، حوقلا وبدأ الوجوم يمرج وجوههم وكانا قد اتفقا على إثباطنا بعد أن باءت محاولات "فرغلي" بالفشل عند توجيهه أسئلة على البعض ليدلونا على المكان، حينها أيقن قيس بأن "فرغلي" لا يعرف أين يقع بيت "ريا وسكينة" ، ربت على كتفي وقال هامسًا قل له أن ينزلنا في هذا الحي الشعبي ومن هناك نجر خطواتنا لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ولتكن خطواتنا أسرع؛ لربما من بعد تجاوزنا هذا الحي تتكشف لنا الأمور ونجد من يزودنا بالمعلومات الكافية والوافية التي توصلنا إلى هذا البيت المشئوم، نعم مشئوم، أيعقل أن نبحث عنه كل هذا الوقت المهدر بينما بإمكاننا أن نستثمره بقراءة كتاب أو احتساء فنجان قهوة أو حتى الذهاب إلى مطعم كبدة أولاد الفلاح الذي يعد الكبدة بطريقة عجيبة لم أتذوقها في حياتي من قبل ومنه بدأت أعشق الكبدة، أيعقل بأن قاطني الأحياء المجاورة في المنشية لا يعرفون البيت وهو يمثل حاضنة تاريخية قد تكون مؤلمة وقد تكون غير محببة للبعض، لكننا لا يمكن أن نخفي التاريخ ولا يمكننا أن نتنصل من واقعنا، لماذا كل هذا التوقد منا للذهاب بيت السفاحتين، لماذا نتحرق شوقًا لرؤيته عن كثب وما الدافع الذي يشغلنا لكي نرى ما يحويه ومن يسكنه ومن يقطنه في الوقت الراهن وماذا يقول عنه ساكني الحيّ، هتفت على حين غرة في حماس وقلت للرفاق قد نكون من ذات المكان ولأننا مهتمين بشؤون أخرى عن الأشياء المحيطة نفقد حاسة الإدراك في الأماكن المحيطة بنا وبمرور الوقت والسنوات المتوالية تغيب عنا المعلومة وتصبح إرشيف غير مهم بالنسبة لنا، استطردت قائلًا: إن لم نعثر عليه يكفينا شرف البحث قلت لـ قيس الذي بدى أكثر إصرارًا للذهاب إلى بيت "ريا وسكينة" وهو المتابع الأكثر للأحداث في الشارع المصري وبينما نخترق أحد الأسواق الشعبية لاح لنا هذا السوق بمشاهد كثر الحديث عنها وكثر الولوج في تفاصيلها، قلت للزملاء هذا السوق يعرف باسم "زنقة الستات" ويرتبط بنسيج الحكايات التي رويت عن قصة السفاحتين "ريا وسكينة" وفي نهاية السوق، فمنه يتم استدراج الضحايا رأيتني أتمتم على استحياء وقد كان الرفاق على شفا التراجع، حينها وجدت أحد الباعة الجائلين الذين يعرضون منتجاتهم من ملابس داخلية واكسسوارات وبعض المشغولات اليدوية، أين بيت "ريا وسكينة" قلت، قال: ونبرة صوته تتعالى شيئًا فشيئا، أنتم بالقرب من موقع البيت وفي هذا الحيَ أشهر مكانين هما "زنقة الستات" وبيت "ريا وسكينة"، عليكم أن تركبوا إحدى سيارات الأجرة؛ لتقلكم إلى المكان، فورًا وبلا تردد، حتى لا نضيع الوقت؛ لأن خيط الغروب بات يتسلل في الأفق ونحن مرتحلين علينا أن لا نكثر البقاء في الأماكن التي لا نعرفها، بالأخص في الأحياء الشعبية الضيقة، تلكَ كانت النصائح من بعض الذين مروا بتجارب في السفر، لم نفوت الوقت قال قيس: وبدون مقدمات بيت "ريا وسكينة" علت على وجه سائق سيارة الأجرة ابتسامة ساخرة في تلك اللحظة، كنتُ منتشيًا راودتني شرورًا، هكذا كانت وجوهنا متهالكة بين اليقظة والنوم ولا توجد لدينا طاقة للحديث والدخول في تفاصيل رغباتنا وكأن السائق قد قرأ ملامح التعب على وجوهنا أو إنه عرف بأننا لم نعد قادرين على مواصلة الحديث، نعم أعرف المكان، قال: هيا اركبوا فقد بدت عليه أمارات الاستعجال، وأخذ يسترسل في الحديث وأطرق قائلًا: الدخول إلى أحياء المنشية بطرقاتها الضيقة وكثرة المواصلات بمختلف أنواعها تحتاج إلى صعوبة وصبر، أزقة متهالكة، خطوط الطرقات متشابكة وضيقة، أبواق السيارات لغة مفرداتها نغمات تطن الآذان وقد اعتاد عليها الناس كلغة تخاطب عوضًا عن الصراخ والمناداة رغم أن قانون المرور يجرم الاستعمال العشوائي بهكذا طريقة؛ لأضرارها الصحية على الناس والسياح وأسباب أخرى أبخس مني بها من بيده القرار، سنتيمترات بسيطة بين السيارة والأخرى، كنا نمسك المقبض العلوي للسيارة بقوة، كالقابض على الجمر، العرق بدأ يتصبب من مسامات اليد، عضلات البطن بدت منقبضة، الوجوه مشدودة ووجلة، في هذه اللحظة وحتى أخفف من وطأة الموقف قلت للرفاق نحتاج إلى قهوة سادة أو مضبوطة أو على الريحة أو حتى عصير قصب السكر؛ ليمدنا بالطاقة التي تعطينا القوة والقوة التي تعيننا على تحمل المداخل الضيقة وطول الطريق رغم أن محيط المنطقة التي يقعُ بها بيت "ريا وسكينة" بحسب الوصف الذي أخذناه من البائع لا يتجاوز الأمتار "صبرًا آل ياسر"، تلوت أبيات محمود درويش من ديوانه "فلسطين" موهبة الأمل- (كلما فكّر بالأمل أنهكه التعب والملل، واخترع سرابًا، وقال: بأي ميزان أزنُ سرابي؟ بحث في أدراجه عمَّن كأنه قبل السؤال، فلم يعثر على مسودات، كان فيها القلب سريع العطب والعطش) وقد شارفنا على فقدان الأمل بالوصول. وصلنا، وبنبرة حادة وكأنها لحظة انتصار من بعد حرب ضروس قالها سائق سيارة الأجرة، باغتنا بها وكأنها نسمة باردة تهب فتطفئ حرارة الصبر الذي شارف على الانتهاء، استعدنا طاقتنا وكأن كل المشاوير المتعبة الذي قضينها طوال اليوم قد أفلت وبدأنا نحملق في حيّ اللبان الذي به بيت "ريا وسكينة" نحدق في وجوه الناس فقد تجمعوا في ساحة خارجية أمام منازلهم لقضاء سويعات النهار التي شارفت على المغيب في شرب القهوة ومعاقرة الدخان فأثره بدأ يلوح في الأفق، فجأة ووسط كل هذا الضياع شعرنا أننا على شفير إضاعة الوقت دون الوصول إلى البيت والوقت يداهمنا وفي حين أصوات الناس تتعالى، هنا العالم مليء بالتناقضات، فأجد البساطة قد ضربت مفاصل الناس وعلى الرغم من ذلك هم يصنعون النكتة، هل هذه هي المواساة للذات فعلًا أم أن الإنسان في حالة العوز يتصرف بلا مبالاة، فجأة ولأن سحنتنا تبدو مختلفة انبرأ الحاج "متولي" وهو المتعهد بتعريف السياح ومن على شاكلتنا، لا نعلم إن كنا سياح أم مغامرين أم عابري طريق تستهويهم هذه الأمكنة وتثير فيهم الشغف أم هو الفضول لرؤية ما تحت الظاهر وما تعرضه السينما وتخفيه خلف الشاشات، بدأ الحاج "متولي" يسرد الحديث والأحاديث عن هذه القصة الدامية حول سفاحتّي الإسكندرية "ريا وسكينة" حاولت الاندفاع واستباق حديثه فقد كنتُ ملهوفًا لسماع الحقيقة منه، كانت عباراته تخرج بأسلوب بلدي بسيط ولأنه ملم بأغلب تفاصيل القضية وملم بالمسلسلات والأفلام المعروضة عن هذه القصة المفجعة، فقد كان العام 1920 من الأعوام الدامية في تاريخ مصر كما تشير الروايات بتهمة القتل من أجل المال، أزحت ستار القتل وحاولت التنصل لكن الحاج "متولي" كان يشرح باسترسال وكان قيس منصتًا ومستمعًا جيدًا بكل حواسه، سبعة عشر امرأة عن ضحايا السفاحتين في الفترة التي كان الإنجليز يقبضون بمفاصل الأمور، استعدت وعيي فلم أعد أتقبل فكرة القرب من المكان الذي ارتكبت به أفضع الجرائم في تاريخ مصر على الاطلاق في ذلك الوقت وأنا المغرم بأمكنتها وشخوصها، تركت الحاج متولي يواصل شرحه وسرحت في الإنجليز بتاريخهم الخبيث فهم الذين يطمسون الحقائق ولنا العمانيون في تاريخ زنجبار خير مثال، تموت الحقائق بفضل الإنجليز هكذا كنت أقول للحاج "متولي" وهو يعرف ذلك وهو مدرك ما أحاول أن أرمي له لأنهم بارعين على طمس الحقائق وتدليس التاريخ منذ عصور خلت، فالإنجليز بتاريخهم السيئ أينما دخلوا في بلد عاثوا فيها ونسفوا بذور الحق وأوغلوا الحقد في قلوب الندماء، ألقيت بنفسي في أحد المعارض الذي يكتنز بداخله صور الضحايا والسفاحتين، سألته عن وثيقة الإعدام قال: فيها خلد كيف تُفنى روح المغدور وكيف تتوغل بواعث الحقد والطمع، ظهر المكان وكأن نعش الموت يمر في أحد الأفنية، يالله يالله ما أعظم الحياة وما أفجع أن تشعر بأنك على شفير الموت وفي غمرة الهدوء الذي سكن المكان قبيل أن تصدح المآذن بأصوات المؤذنين قفلنا عائدين بعد أن ألقينا تحية الوداع الأخيرة على الحاج "متولي" الرجل الودود البشوش آملين أن نلتقيه في زيارات لاحقة بعون الله تعالى.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام