رحلة في قلب المحيط.. من أنجوجا إلى دار السلام

 يوميات مسافر إلى زنجبار 🇹🇿

يحيى المعشري

لقد أمضيت ثلاثة أيام بلياليها في المدينة الحجرية وكانت شاهد صمت على تنقلاتي بين أزقتها الضيقة؛ حيث أبوابها العتيقة تحكي حكايات تجار ومهاجرين مروا من هنا، لقد شهدت عثراتي وتأملاتي وحيرتي كمن يحمل بريد في غابة؛ بينما الصديق خالد بقي على عهده في منطقة "كيمبي سماكي" بعيدًا عن صخب السياح وضجيج الموانئ وأصوات الباعة من هنا وهناك وبين خيارات التنقل كان اتفاقنا إمّا التنقل من أنجوجا وهي جزيرة زنجبار التي سكنت فيها إلى الجزيرة الخضراء بمبا أو إلى دار السلام رمى خالد القرار في ملعبي وقد وقع اختياري على دار السلام؛ لسببين الأول أنّه سبق وقد زرت الجزيرة الخضراء بمبا بمعيته قبل زمن وتعرفت على الكثير من قراها منها على سبيل المثال لا الحصر مكواني وهي الشريط البحري والزراعي التي أنزلتنا به السفينة قادمين من جزيرة أنجوجا مرورًا بعدد من القرى وسط التنوع الجغرافي محاطين بالمزارع والبساتين نتأمل شجرة القرنفل التي تتوزع في كل مكان ومنها تنقلنا إلى شاكي شاكي وهي العاصمة الإدارية للجزيرة وأكبر مدنها وفيها تعرفنا على سوقها التقليدي وتذوقنا طعم الحلوى التي تعد على النمط القديم الذي يتشاطر مع النمط العُماني وهذا يدلل على أنَّ العمانيون كان لهم دور بارز في انتشار الحلوى في هذا الريف وأرياف وجزر زنجبار والسبب الآخر من دواعي السفر وهو الأهم في أسفاري؛ التعرف على أماكن جديدة تشبع فضولي ومنها إرضاء نفسي أنَّ الحياة جديدة تقبل الجديد حيث تنقلب الصفحات كما تنقلب أمواج المحيط الهندي تاركة لجبًا ولوحات البيوت والقصور وكأنها مرسمًا نحت في ذاكرة الزمان.

وفي خضم المشاروات بما أنّي قريب من الميناء وأغلب مشاويري بالقرب من مركز الثقل السياحي في شريط "فرضاني" قررت الذهاب لتفقد المكاتب التي تحجز تذاكر هذه الرحلة البحرية من جزيرة زنجبار إلى عدد من الجزر بالداخل ومنها إلى بعض الدول المجاورة كـ دولة كينيا بالسفن وشاءت الأقدار أنَّ وجدت أحد المكاتب وفضلت إخبار "خالد" بالمكتب وعرجت على الرحلات اليومية المجدولة التي تجوب المحيط الهندي، مكثت فترة أتأمل الجداول اليومية لرحلات السفن والخيارات المتاحة وقد اتضحت لي الصورة جلية مثل أشعة الشمس في رابعة النهار.

وفي اليوم الموالي هاتفني "خالد" وناصر مورابو أنهم بالقرب مني؛ فحثثنا الخطى ومعنا أشياءنا التي نحتاج لزيارة "دار السلام" دون حجزٍ مسبق؛ فكانت الساعات القادمة شاهدة على مفاجآت مثيرة قد لا نلقي لها بالًا في حينها، تأملنا تذاكر الحجز ومواعيدها وقد أعدّ لنا "ناصر "مورابو" مكان الإقامة ومن المفارقات التي تعرفت عليها حديثًا أن لـ ناصر أخ مقيم مع عائلته في دار السلام في منطقة تسمى "إلالا" ilala يعمل في تجارة التمويل وهو واحد من العُمانيين الذين آثروا التنقل بين عُمان وشرق أفريقيا ووجد في الأخيرة مصدر رزقه وحياته التي يرسم فيها خيوط الأمل على ضفاف المحيط الهندي.

أنهينا إجراءات الحجوزات من أحد مكاتب النقل البحري وهو قريب من الرصيف وفي الخارج يجلس المحليين محملين بأشيائهم وحاجياتهم وزادهم وتسمى المؤن التي يحملونها "بالزواد" وهي كلمة مشتقة من الزاد، مررنا عليهم، نصيخ السمع إلى أصواتهم وكأنهم في طابورٍ صباحي كلًا ينتظر دوره وفي الطريق ونحن نحث الخطى باتجاه العبّارة وجدنا النساء يبعن "الأمبويو" وهي شجرة محلية معروفة في سواحل زنجبار وطعمها مزيج بين الحلو والحامض ومنها يستخلص المشروبات التقليدية وهي كما يبدو ليست مجرد شجرة ومحصول يباع بل هي جزء من الثقافة الزراعية والتجارية للسكان كما يقبل عليها السياح أمثالي يخبرني "ناصر" أنّهم يتناوبون على أكلها في منازلهم كما أنّهم يهدون ضيوفهم منها عند مغادرتهم زنجبار إلى أوطانهم، همست له بابتسامة وهل ستهديني منها عندما أعود إلى عُمان بانت على وجهه ابتسامة خجولة، ورفع حاجبيه كأنه يطمئنني- عقب يقول "بلا" أنتم في الحسبان وخالد يعرف هذه العادة عندنا ونسميها الـ "زواد" وهو الذي يحمله الضيف معه من زنجبار فتذكرت رحلات والدي ووالدتي الشهرية لأسواق مطرح والسيب في العاصمة العُمانية مسقط وهما يحملان زوادهم التي يوزع جزءًا منها لأطفال الحارة.

قاطعنا "خالد" قائلًا السفينة على وشك التحرك وفي الداخل قد لا تجد مكان تجلس فيه وقبل دخولي شريط فحص الحقائب هتف في أذني أحدهم أنت عُماني قلت "نعم" قال أنا سعيد وقبل فترة كنت في منطقة المعبيلة في محافظة مسقط في زيارة عائلية كنت أتحدث معه وأحدق في التوافد البشري على السفينة؛ استأذنته الرحيل فإذا بنا نصعد سفينة "كلمنجارو" التي بدت وكأنها تحمل أحلام أهل زنجبار ومن أتوا من البر الأفريقي وفي الأفق كانت الشمس تودع الجزيرة، تعكس ألونها الذهبية على صفحة الماء، وبينما نبحث عن مكان يحتوينا في هذه السفينة الكبيرة كان البحر يتلو قصصًا لا نهاية لها عن الذاهبين والآيبين. جلس "خالد" و "ناصر" في كراسييهم وبقيت أنا في سطح السفينة التي بدأت تمخر عباب المحيط الهندي، أناظر الأمواج الهادرة أتبادل الأحاديث مع أحدهم ننبش صفحات جديدة في مسارات جديدة وأسرار جديدة تخبئها دار السلام "جنة تنزانيا الساحلية التي وصلناها بعد ساعات قضيناها في عرض المحيط وعند وصولنا دار السلام بدى الميناء يعجُ بالحركة، وبدى الناس يتسابقون على فراقها للخروج وكانت تلفظ الأجساد الواحد تلو الآخر وهي ذاتها التي كانت قبل ساعات تتسابق على الارتماء في أحضانها، حملنا حقائبنا ومن الوهلة الأولى انكشفت لنا ملامح المدينة، سائقي سيارة الأجرة يتناوبون على خدمتنا كنا نتجاوزهم ونقف منتصبي القامة أمام الباعة الجائلين في طريق الخروج من الميناء، وقف "ناصر" أمام متجر صغير يقصده المسافرون كان المتجر ينبض بالحكايات وكل زاوية فيه تحمل قصة عن الهجرة والرزق ومآلات الحياة- دهشتُ من كمية المنتجات المعروضة، أمّا التوابل فكانت تفوح بروائحها العميقة ورفوف المتجر تنفث روائح القرنفل والهيل والفلفل الأسود وكأننا نتتبع حكايات أناس جاؤوا من مسقط وظفار وصور ودواخل عُمان؛ لينصعوا لهم موطنًا آخر في هذه البقعة ويتركوا أثرًا يمتد عبر الأزمان...

 




من هنا أبدأ التجوال في دار السلام









تعليقات

  1. مبدع و مدونة جذابة في السفر إلى زنجبار

    ردحذف

إرسال تعليق

مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر