من القناطر إلى المنزفة أتجول في الفراغ بين قرى وأفلاج ولاية إبراء

جولات في ربوع عُمان
🇴🇲
يحيى المعشري
✍
يدرك الإنسان متأخرًا أنَّ شيئًا ما في حياته يستحق التضحيات وهذا الأمر لا يعدو مجرد شيئًا عابرًا كما يظن البعض وإنما أمرٌ يستحق وكل طريق يقطعه في سبيل أنِّ يشكل هذا الأمر جزء من ذلك المشهد ويشكل المشهد في داخله شيئًا راسخًا يتذكره مع الأيام وقد يرويه لأحدهم يومًا ما قصة أو حكاية مروية من شرفة الذاكرة أو يرسله نصًا كما أفعل الآن في بريد الأيام.
دسّ أحدهم في جيبي تذكرة حضور نهائي كأس صاحب الجلالة لم تكن مجرد مباراة بين لاعبين وحضور جماهيري غفير وأرضية ملعب خضراء؛ بل هي تفاصيل أخرى تعبث بأوراق المشاعر وعالم من التحدي بين الأخوة الأضداد؛ حضرتُ كغيري في مشهدٍ ملون في مجمع ولاية إبراء؛ كان قلبي معلقًا كالجرم بين هذا الفصل والفصل الأهم وهو زيارة المعالم التاريخية في هذه الولاية أخذت التذكرة ودخلت حينها مواقع البحث لأسترجع ما قرأت وما علق في ذاكرتي عن أهم الأعلام الذين تشرفوا وتشرَفت بهم هذه الولاية العريقة وهي واحدة من المراكز التاريخية والعلمية التي لا يأتي ذكر ولاية من ولايات عُمان إلا وكانت حاضرة؛ فهي في الجانب الديني والأدبي موطن العديد من الأئمة والأدباء والعلماء الذين كانت لهم بصمة راسخة في تاريخ عُمان- أحرك جفني قليلًا بداخل الرواق الداخلي في فندق المستقبل للشقق الفندقية في صناعية إبراء وبجواري الصديق "فهد البلوشي" يُنهي إجراءات الإقامة لليلة واحدة وعبرَ بريد الأشواق للتاريخ أمعن النظر في لوحة قرابة المصعد الكهربائي في الفندق تشير إلى أهم الأماكن التاريخية والمعالم السياحية في هذه الولاية العريقة وبينما الصديق فهد ينتصب أمام موظف الاستقبال وهو عُماني المنبت والمنشأ؛ يبدو أنّه في عقده الثاني من العمر، تعرف على اهتماماتنا وأرشدناه إلى أنَّ أمثالك من أبناء جلدتنا في الفنادق والنزل التراثية هم واجهة السياحة ومعرفتهم ولو بالقليل عن تاريخ وإرث الولاية أمرٌ مهم جدًّا- يعلم "فهد" أنَّ الأماكن هذه هي جزء لا يتجزأ من اهتماماتي؛ بادرت فورًا بالقول سنزور قرية "المنزفة" وأظن أنَّ الرابعة عصرًا هو الوقت المناسب للزيارة إلى حين موعد المباراة، ساعتين من الوقت نحكي مع الأرصفة ونستظل بالمقاصير" ونذوب في طرقات الحواري ونشاكس خطوات الأطفال ونمحو صراعات الساحرة المستديرة ما قبل النزال.
عَبثت أصابع الصديق "فهد" بخرائط جوجل ماب باتجاه قرية "المنزفة" فأدرت بدوري مقود السيارة لتبتلعنا الشوارع والجدران والأرصفة؛ دخلنا بين "المقاصير" نشاهد أسرار هذه الولاية ونذوب في أعماق التاريخ وبين الحقول الخضراء والشوارع الترابية أقدام صبية صغار تعبث بمياه الوادي ورجلٌ كبير السن يمسح الطريق جيئةً وذهابا. نسأل الصبية عن المدخل القرية بحثنا عن اللوحة التعريفية وكانت منسية بين المكاتب الحكومية وستائر الشرفات الوثيرة والفُرش المخملية.
يشاكسنا الصبية بتفاخر إنّها "القناطر" وأنتم بداخلها، نعم نحن الآن بداخل قرية "القناطر" هكذا بدأ يدلق "سالم" الذي ظهر لنا فجأة من بين إحدى الضواحي "سالم" هذا شاب في عقده الرابع كما يبدو، يرتدي الدشداشة العُمانية ويعتمر الكمة ولد في هذه القرية في بيتٍ قريب بداخل سور قرية القناطر وغادرها قبل عقدٍ من الزمان إلى مكانٍ آخر ومن طريق تحفه المزروعات والنخيل لوّح لنا إلى فناء داخلي قائلًا: هذا هو سوق القناطر القديم؛ أدهشتني الأعمدة التي لا زالت تتنفس رائحة الأجداد وكأنهم لا زالوا يعبثون بأقدامهم بداخل السوق، قال سالم: القناطر هذه مثل كل القناطر في عديد من البلدان وتعني الجسور أو القنوات المائية وتستخدم للري وهي كلمة دارجة في أفلاج عُمان يستخدمها العُمانيون في إدارة الموارد المائية ونستخدمها نحن عندما نعبر ضواحي بلدة بوشر في محافظة مسقط، قلنا له قبل مجيئنا رششنا وجوهنا من فلج بومنخرين بعد البوابة بقليل، الذين كان يسقي المزارع والبساتين وقد جف بريقه وقلت مياهه وكأنه ينتظر غيمة تنزف على كف الأفق؛ يتحدث سالم وصدى صوته يتردد في الأرجاء وأنا والصديق "فهد" نصيخ السمع لبحة صوته وكأنه يعتب على الإهمال الذي طال البنيان والأعمدة وغرف البيع والشراء ( المحال التجارية)؛ يسترسل "سالم" في الحديث بينما عدسات هواتفنا لا تريد أنَّ تفارق المشهد؛ مجددًا قوله، يعود السوق إلى مئات السنين؛ أمامكم تلك الجبال بقت شاهدة على حوارات الأجداد؛ تشاهد الجبال تراكم الغبار بين الممرات وتأوهات الجدران، التقطت صورة الجبال وبقت في ذاكرة الهاتف لوحة من الطبيعة متمازجة بين الأودية الخضراء وتكوينات الجبال الصخرية وتفاصيل غائبة لا تبوح بأسرار الماضي؛ يذرف "سالم" دمعًا على القرية في مسرح النسيان ويجهش قلمي بكاءً على هذا المشهد التاريخي العظيم المهمل فأعاتب نفسي، لقد تحدثت كثيرًا عن حواضر ومدن خارج المشهد العُماني ونسيت أو تناسيت هذه المشاهد التي لا تقل عظمة في عمق قرية "القناطر" المنحوتة بالطين والجص وأخشاب نخرتها ديدان لم تتجرأ لتفعل ذلك لولا رحى الأيام وأعمدة سامقة ترسم ملامح الأمس.
المنزفة...
تجاوزت والصديق "فهد" قرية القناطر ووعدنا سالمًا على أنَّ نعود لها مجددًا ونحتسي القهوة معه في مقهى الصَّفح تحت إدارته بداخل سور قرية القناطر وبين الحقول وجدران الطين وضفائر الجدات نخطو مثل الكثيرين الذين أتوا فرادًا وجماعات من أبناء جلدتنا ليدهشوا وإيانا بحياة الأجداد، هذه هي قرية "المنزفة" تلوح في الأفق القريب كالتوأم التي التصقت بشقيقتها القناطر وتبدو أحدث في عُمرانها ومن الوهلة الأولى نمرق طريقٍ ترابي؛ نحث الخطى بين التاريخ في سياق ثقافي وعُمراني تقليدي يتقاطع مع ما عشناه في صبانا في بلدة "بوشر"، أمّا الشريط الجبلي وكأنه لوحة خرجت من رحم التاريخ.
تفتح قرية "المنزفة" أبواب العصيرة ويفتح الصديق "فهد" مواقع البحث لعلنا نجد شيئًا لم يكتب في واجهة البوابة، حيث أنها كانت تعتبر الثقل التجاري في ولاية إبراء بسوقها المتفرد وتمكنت من استقطاب الرحالة والمؤرخين وهم بدورهم وصفوها بأجمل القرى العربية التي تحمل الطابع الإسلامي والعربي وهي مزيج عُمراني بين الهندسة العُمانية بطابعها وهندسة بلاد الرافدين وفي مخطوطة البوابة الإعلامية يُذكر أنَّها احتضنت أول مستشفى في المنطقة الشرقية الذي كانت تشرق قواريره الوردية في عام 1967 أي قبل النهضة المباركة بثلاث سنوات.
دخلت و "فهد" بوابة كتلك البوابات التي شاهدتها منذ أسابيع في المدينة الحجرية "الستون تاون" في زنجبار فتراءى لي بالداخل مبنى أشبه بالبيوت السلطانية، تمنيت أنَّ أجد في واجهته معلومات بسيطة عن تاريخه وعن الذي بناه وإلى أي العصور يعود، مثلت دور الممثل في مشهد الأجداد، تجولت بين جدرانه الطينية أتحسس الأرواح التي لامست جدرانه وأعمدته وكأني أصيخ السمع إلى أحد القضاة الذين يفصلون في قضية من القضايا المدنية وقتئذ- أمثل دور الرسام فأحمل فرشاتي وألواني لأرسم مشهدًا لجلسات تعليم القرآن والتجويد بداخله، قاطعني "فهد" ماذا تعني "المنزفة" يا يحيى تجاهلت سؤاله برهة حتى لا يغيب المشهد ومثلت دور الراوي الذي يستل يراعه ليكتب فصلاً من فصول هذه القرية العريقة أبدأها بأنظمة الري التقليدية التي تنزف من جريان المياه كنزيف الجرح الغائر في يدِ حسناء مضرجة بالدماء، أكتب عن ملامح العِمارة التقليدية في قرية "المنزفة" وفنون البناء من المواد المحلية كالطين وجذوع النخيل ومواءمتها مع الظروف البيئية وتقلبات الطقس ولا زالت الدهشة تخبرني أنَّ التوأمتين "القناطر" و "المنزفة" ترسمان لوحة فنية من التراث يجب أنَّ تخرجا من قائمة الدراسات ومحطات الانتظار.

تجدون التغطيات في حسابي في التك توك
مقتطفات صور موزعة بين قريتي القناطر والمنزفة في ولاية إبراء


















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر