إليكِ زنجبار نشد الرحال

يوميات مسافر إلى زنجبار "أندلس أفريقيا".

🇹🇿
يحيى المعشري
✍️
كلما أحاول التملص من اللحظات السابقة التي لا زالت عالقة في مخيلتي أعود مجددًا لتحديث بياناتي في سجل الزيارات إلى بر الزنج "زنجبار" كيف أتى قرار زيارة هذه الجزيرة التي هام فيها أسلافنا ذات وقت وتركوا الوطن الأم ولا زالوا يتقاطرون عليها بين الفينة والأخرى؛ بين مؤيدٍ ومعارض؛ فقد شارفت العاصمة مسقط على موسم الشتاء الجميل ولا يمكنني أنَّ أغادرها طالما هي بهذه الأناقة فقد مرت عليّ معلومة من أحدهم أنَّ مسقط هي أجمل العواصم في الشتاء بينما أراها هي الأجمل على الإطلاق هل بسبب مولدي وارتباطي التاريخي بها أم ثمة سببٌ آخر- لا يهم المهم أنني أراها هكذا.

في إحدى الليالي الديسمبرية خرجت من مهد طفولتي بلدة "بوشر" إلى منطقة الخوير وكلاهما في العاصمة العُمانية مسقط؛ فإذا بصديق السفر خالد العنقودي يعرض عليّ اقتراح مشاركته زيارة زنجبار وهو العارف بشؤونها وقد تردد عليها كثيرًا، بادرته بالإيجاب؛ لأسبابٍ كثيرة أهمها أنَّ الناقل الوطني "الطيران العُماني" أطلق عروض مغرية إلى وجهات كثيرة منها زنجبار تبقى عليَّ أنَّ أتمكن من إنهاء بقية الإجراءات واستحدث منها التأمين الطبي الكترونيًا ولا أعلم ما الدافع إلى هذا الإجراء الذي أحدث الكثير من التساؤلات والكثير من عدم القبول وهو متاح من المطار كما عرفت فيما بعد؛ أما التأشيرة فبالإمكان استخراجها من المطار والجزئية الأخيرة وهي الأهم الحصول على إجازة من العمل وبعدها كل شيء سيأتي في حينه- ها أنا ذا أخطو مرةَ أخرى إلى زنجبار والمعروفة بأندلس أفريقيا" وذلك عبر الناقل الوطني الذي كان كريمًا معنا في هذه الرحلة وقبل السفر عليّ العودة لكتبي المحفوظة في الرفوف وفيها الكثير من المعلومات التاريخية التي أحتاجها عن زنجبار قبل الزيارة؛ أتت هذه الزيارة بعد ثمان سنوات من زيارتي الأولى التي ألقت بظلالها على المستوى الشخصي بالكثير من الكتابات عن يومياتي في زنجبار؛ متنقلًا بين "أنجوجا الجزيرة الأكبر وبيمبا الجزيرة الخضراء كما يعرفها العُمانيون والعرب وكنت أصفها دائمًا بأرض القرنفل أو هكذا عرفها من وطئت قدماه هذه الأرض والقرنفل الذي يفوح عبقه في كل زاوية من زوايا هذه الأرض هو أحد أهم المحاصيل الزراعية في زنجبار وهو المحصول الذي يسجل تاريخيًا بحسب الشهادات والروايات والمصادر أنَّ من أدخله إلى زنجبار هو الشيخ التاجر صالح بن حرمل العبري فأتحسس في مكتبتي الصغيرة كتاب "البوسعيديون حكام زنجبار" لمؤلفه الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي- قاضي قضاة كينيا طبعة وزارة التراث والثقافة سابقًا؛ أستشعر هذا الكتاب بين يدي فأمر على هذا النص "الشيخ صالح بن حرمل العبري أول من أدخل شجرة القرنفل إلى زنجبار عندما هرب إلى ساحل "مريما" إلى أنَّ التقى برجل فرنسي يدعى "مسيمو سوسي" فذهب معه إلى جزيرة "ريونيون" الفرنسية، حيث رأى منطقة أشجار القرنفل ولما حان موعد مغادرته أخذ معه كمية إلى السيد سعيد بن سلطان فسر منها وكان نقطة تحول لهذه الجزيرة في ذلك الوقت في عهد السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي سلطان عُمان وزنجبار وهو السلطان الذي دعم زراعة هذا المحصول الذي ساهم في تحسين حياة العُمانيين في زنجبار؛ فأضحت أكبر منتج للقرنفل في العالم كما هو وارد، أحدق ببصري إلى محطتنا الأولى التي اختفت من تذكرة الحجز وهو مطار جوليوس نيريري الدولي في دار السلام فأطل من الطائرة بغصة لم أستطيع إخفاءها نعم وهو شعور غير مرتبط بمشاعر علم النفس وإنما عارض وقتي ينم عن أحداث تاريخية قرأتها وسمعت عنها وبمجرد قراءتي للاسم تسلل إلى جسدي هذا الشعور، كان يجلس بجانبي أحد أبناء جلدتي وهو من ولاية نخل العُمانية ومعه في هذه الرحلة أحد أبناءه وعدد من الأصدقاء وهي زيارتهم الأولى إلى زنجبار ووعدونا أنَّ نلتقي في فرضاني
ولا أعلم إن كانوا يستشعرون ذات الشعور اللحظي فتحلق الطائرة مجددًا إلى زنجبار بعد ساعة توقف لتحميل وتفريغ الركاب وهذه المرة نحط الرحال في مطار عبيد أماني كرومي الدولي الذي يقع في قرية "كيسواني" في زنجبار فأستعيد أحداث الثاني عشر من يناير 1964 تلك السنة النكبة في تاريخ هذه الجزيرة التي لفظت أبناء عُمان والعرب فأتهجد اسم كرومي أو كارومي" الذي أسس وحدة تنجانيقا لتولد الجمهورية التنزانية الحالية؛ فأحاول إزالة ما تبقى في الذاكرة من ما قرأت وما سمعت وما شاهدت في زيارتي الأولى؛ لأنتصر لتجربتي الحالية التي وضعت مخططها أنَّ تجمع بين السياحة والاستكشاف والتعرف على ما تبقى من تلك الأزمان؛ على أنَّ أقيم ليلتي الأولى في قرية "كيمبي سماكي" القريبة من المطار في بيت أحد أفراد أسرة صديق السفر خالد وهو ذاته الذي خفرني رحلتي الأولى إلى زنجبار أما في كيمبي سماكي بدى لي الانطباع الأولي أنَّ زنجبار التي زرتها قبل سنوات لم تتغير كثيرًا في البنية التحتية؛ هل ستكشف لي الأيام عكس هذا الانطباع في قادم الوقت؟
في المطار كان الأغلب يتسابقون على الخروج من الطائرة وكأنهم في مارثون الأول فيهم يظفر بالغنائم ويحصل على أكبر قدر من التشجيع والثناء. ساروا نحو مقدمة الطائرة فقد أعلن الليل سدوله بانتظار أنَّ تبزغ بدايات النهار الأولى فأمامهم ساعات نوم قادمة وأماني مؤكد أنها تختلف عن أمانينا وأحلامنا- يطغى على الطائرة الزي العُماني والرؤوس المكورة بالعمامة أما أنا فقد انتصرت لعمانيتي فالدشداشة كانت رفيقتي والكمة كذلك قررت أنَّ تكون حاضرة في اليوم الأول واليوم الأخير وهو يوم المغادرة؛ وصلنا قرية "كيمبي سماكي" في الحقيقة لم يداهمني النوم بعد لكنني قررت أنَّ أمد عنقي على أريكة جانبية بدأت أرمي كل أشيائي بدءًا من حقيبة السفر والحقيبة الصغيرة للظهر وهذه الحقيبة ستكون رفيقة المشاوير في الطلعات نعم ستجدونها معي كالظل في أغلب الأوقات؛ فهي التي تحفظ أشيائي وقليل من التمر جلبته من سلطنة عُمان وشيء من اللوز ما إن وضعت رأسي حتى راودني حلم أنّي أسكن في جزيرة منتعشة؛ أعلق سلاح من نوع كلاشنكوف بين أغصان شجرة القرنفل وحولي أشجار أشبه ببيوت المتصوفين وأشجار جوز الهند الفارعة الطول ومشهد أشخاص من سحنات مختلفة ومشارب شتى يجتمعون على شخص ينادي بصوتٍ عالٍ، يغني ويرقص ويردد عبارة "هاكونا ماتاتا" ثمة فتيات شقراوات يتمايلن حوله ويرددن ذات العبارة؛ يصوبن هواتفهن عليه لا أعلم كم من ا لوقت استغرقت في النوم لكن الذي أعلمه أنَّ الصوت المتسلل هو صوت العم خميس والمعروف باسم "خميس مجومبو" في قرية مقاطعة "كيزمباني" وكأنه النداء القادم الذي ينحت جدار العزلة وكنت أتساءل ما هو الرابط بين هذا الحلم وزيارة العم خميس في مقاطعة "كيزمباني" وهي إحدى المقاطعات التي وُزع عليها كمية من أشجار القرنفل الذي أتى بها الشيخ التاجر صالح بن حرمل العبري، أسوة بالمتوني- في منتصف النهار أخبرت "خالد" بالحلم هذا فأومأ حتمًا سيكون العم خميس مجومبو ضمن قادم الزيارات وبدأنا أولى خيوط الحكاية في زنجبار؛ فهي لا زالت أمامي كالكتاب المغلف أنتظر أنَّ أفتح صفحته الأولى.











تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر