من طهران إلى رامسر بالباص السياحي نعبث بخيوط الظلام.
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

أتظن هل سنعود قريبًا إلى طهران وهل ستجمعنا الأيام بهذه العاصمة المكتظة والأنيقة مرةً أخرى وهل سنعبث بأقدامنا يومًا في شارع ولي عصر وهو أحد الشوارع الذي تمضي بين جنباته محاطًا بالأشجار الظليلة وعلى مسافاتٍ طويلة وينتشر على أطرافه وفي وسطه الباعة المتجولين وباعة الكتب والكراسات والرسومات وباعة العصائر الطازجة والآيسكريم والفالودة الإيرانية التقليدية والمواعيد الغير متوقعة مع أناسٍ يروحون ويجيئون في الطرقات؛ تلتقيهم مرارًا وتكرارًا بالنظرات والإيماءات؛ كانت تلكَ هواجس مسافر يجلس في أحد كراسي "محطة الباصات" وحوله أناسٌ من كل الأجناس ومختلف الطوائف؛ صحوت من غفوتي محاطًا بأحلامٍ وردية؛ أتحسس حقيبتي وأشيائي وبجانبي يمضي صديقي "ناصر" في غفوته بطريقة النائمين على الطرقات؛ هي غفوة نستجمع فيها قوانا بعد يومٍ طويل قضيناه بين أنياب التعب والمتعة في العاصمة الإيرانية طهران؛ نعم المتعة التي تلاحق المسافر بعد يومٍ شاق هي ذاتها التي تهمس في أذن الطالب المتفوق خلال سنوات دراسة قضاها بين الدفاتـر والكتب والمراجعة وكتابة المسودات؛ بين سطور الأوراق وحواشيها- تلكأت قليلًا أتحين الوقت فأمامنا وقتٌ طويل حتى موعد رحلتنا القادمة؛ استلم "فهد" تذاكر صعود الباص الكبير؛ ألقى "فهد" على مسامعنا موعد المغادرة قائلًا الساعة (5:30) مساءً سننطلق بعون الله تعالى؛ حدثنا عن سعر التذاكر اليسير جدًا بمقاييسنا وقد كنت أتمتم بيني وبين نفسي أنا الذي زرت أماكن كثيرة؛ عواصم وبلدان وحواضر وقرى وأرياف ولم يكتب لي أنَّ أعود إليها مجددًا، بعض الدول كالكتب نقرأها مرةً واحدة وبعضها نعود لقراءتها مرات ومرات؛ أما طهران لا أعلم هل سأعود إليها مجددًا أم ستكون هذه الزيارة هي الأولى والأخيرة؛ كالصفحات المطوية؛ كانت تلك هواجس مسافر أثناء جلوسي على أحد كراسي محطة الباصات وتسمى محطة "أزادي تيرمينال" وهي واحدة من أكبر محطات الباصات في العاصمة الإيرانية طهران وتستخدم كنقطة انطلاق ووصول للحافلات للعديد من المدن الإيرانية"- صاح "ناصر" في وجه "فهد" بصوتٍ مثقلًا بالحماسة طالبًا منه القدوم؛ مبدئًا رغبته في احتساء القهوة؛ في الحقيقة أصبح فهد فور استلام البطاقة البنكية هو المتعهد بالإجراءات المالية في هذه الرحلة بدون مترجم وأنيطت به رأسًا العديد من المهام أهمها متابعة الصرف من الريال العُماني أو الدولار إلى التومان الإيراني عن طريق محفظة "نيو كاش"؛ تقبل فهد مهامه الجديدة بصدرٍ رحب دون تذمر أو تبرم ولا وجهٍ مكفهر؛ يُتقن المسافر بعض المهارات الجديدة في ترحاله وفيها يختبر قدراته؛ إما أنَّ يتمرس أكثر وأكثر أو أنَّ يصبح رهين عدم الدراية الكافية وتسقط عنه المعلومات كما تسقط في الصحاري عتمة الليالي على أضواء النهارات؛ بالتالي تزيد مهمته تعقيدًا وينعكس ذلك على أداء الرحلة؛ ارتشف "ناصر" قهوته قبل أنَّ ينادي أحد العاملين في شركة "إيران بيمان" وهي الشركة التي ستقلنا إلى وجهتنا القادمة مدينة رامسر في محافظة مازندران على ضاف بحر قزوين، وتعتبر شركة "إيران بيمان" إحدى الشركات الرائدة في مجال النقل البري في إيران وما جعلنا نختار هذه الشركة الأول بسبب توفر خطوط مناسبة حسب مخططنا في هذا التوقيت بالتحديد والسبب الثاني نظافة الباصات وتعامل الموظفين في نوافذ بيع التذاكر.
سرنا مع جمع من الركاب أغلبهم إيرانيين والصمت يتلفع أرجاء الباص، يبدو أن الشعب الإيراني يميل للهدوء كثيرًا؛ أما نحن فقد كانت الحماسة فينا تشعل نشوة التجارب الجديدة، جال بنا سائق الباص مخترقًا الطرقات الطويلة والضيقة؛ نتتبع نحن معه اللوائح المرشدة في الشوارع وبين الجبال الشاهقة في طريقنا هالتنا تلك الأنفاق التي تخترقها الشوارع بأشكالٍ مستوية وحلزونية وما زادنا ذهولًا أكثر القمم الجبلية التي أضحت بين عشيةً وضحاها مسرحًا للتنقل اليومي لدى الإيرانيين، ثمة طرقات ضيقة وهي ما يعبث بمشاعرنا أثناء التنقل، يبدو أن الإيرانيين في الباص معنا لم تعد تعنيهم هذه المشاعر التي تتسلل علينا وتسري في ذواتنا لقد كانت مشاعر مشوبة بالخوف والدهشة؛ لربما لاعتيادهم المشاهد بينما نحن كنا نتهامس كيف لنا أن نعبر هذه الطرقات الملتوية بين هذه الجبال دون أن نشهد مشهدًا مأساويًا- طاف بنا السائق مسافات قبل أن يأتينا أمر النزول في إحدى المحطات أو الاستراحات وهي محطة اتخذها الإيرانيون مكانًا متعارفًا عليه للاستراحة من مشاهد الطريق وحمدنا الله أنَّ رحلتنا هذه كانت ليلية هذا من جانب لكننا مؤكد سنشهد مفاجآت أهمها أين سنقيم ليلتنا هذه بعد كل هذه المشاوير- نادى "ناصر" فجأة يوجد مصلى في هذه المحطة فأدينا صلواتنا المفروضة، ومن إطلالة على سفح وادٍ نحن أمام مشهد غريب حيث ينزل المحليين جيئةً وذهابًا في الأسفل مشيًا على الأقدام في طريقٍ مظلم لا تبارحها أضواء قمرية وكأنهم يستريحون في أحد المباني؛ لم نتيقن جازمين من المشهد عدا أننا عرفنا لاحقًا أنهم عاملين في المطاعم والمقاهي والأكشاك في هذه المحطة وهذه المحطة وكما يبدو هي اتفاق سابق مع سائقي الباصات لاستراحة المسافرين وتأمين سير بأمان وسلام؛ كحكايات الجدات على خدر الطفولة.
صور متفرقة لجولتنا الجميلة من طهران إلى رامسر
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام