في مقاطعة مازندران نتتبع مستوطنة "نمك آبرود".
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

بلعتُ ريقي في اللحظة التي كنّا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى المدخل الذي يفضي إلى مستوطنة "نمك آبرود" في رحلة دامت زهاء ساعة ونصف الساعة قادمين من ميدان الخميني في مدينة "رامسر" في محافظة مازندران في الشمال الإيراني وكأني أطالع لوحة خضراء من الطبيعة وروضة من النباتات تتشكل على قمم جبال البرز؛ قلت بينما الأصدقاء "ناصر" و "فهد" يصوبون وميض هواتفهم باتجاه اللوحة الخضراء وقد سبق أنَّ تحدثت سالفًا عن مقر السكن في فندق "كارن" في مدينة رامسر قبالة بحر قزوين ومنه نتحرك إلى ميدان الخميني مشيًا على الأقدام في أجواءٍ ربيعية ننتشي معها طربًا دون كللٍ أو ملل؛ بين الممرات والأشجار الظليلة؛ نطلُ تارةً على البيوت المخضبة بالاخضرار ونحدق تارةً أخرى للعارضين الإيرانيين الذين ينتظرون السيّاح لتأجيرهم منازل وشقق وفلل عُرضت للإيجار وهذه الطريقة متبعة في أغلب المدن والحواضر الإيرانية؛ يقفون أمام العقارات وفي الشوارع؛ تحت المطر والرذاذ، في حين إن لاحت أشعة الشمس تجدهم يستظلون تحت الأشجار وهم يمسكون لوحة كُتب عليها أرقام التواصل للمنتجعات والشاليهات وتكثر هذه السمة غالبًا في الأرياف في الشمال الإيراني؛ تستقطب الباحثين عن الاستجمام والاسترخاء من صخب المدينة وضجيج الميادين.
كنّا نتحرك من بواكير الصباح نحتسي القهوة الصباحية بعد وجبة إفطار في الفندق؛ وقبل الحديث عن القهوة في حقيقة الأمر لا يروق لي كثيرًا طعام الفنادق القادم وفق رغبات الآخرين لكنه الزاد الصباحي والمعين لتكملة سويعات الصباح الأولى على الأغلب ومن "ميدان الخميني" نبدأ عملية البحث عن سيارة أجرة ترتحلُ معنا وسائقها إلى حيث المروج الخضراء الإيرانية وهذه المرة اخترنا مستوطنة "نمك آبرود" وتعني بالفارسية "نهر الملح" ولا أعلم كيف أتت التسمية وأين هو النهر والملح الذي بالإمكان رؤيته في هذه الواحة الخضراء من الطبيعة بعيدًا عن المحيط الممتد بالقرب من "بحر قزوين"؛ لاحت لنا لوحة كتب عليها اسم المستوطنة، وتحت ديمة مطر عابرة تنامُ نهارًا رغم البرد القارس، أهدتنا من وقتها صورًا يتيمة كما تهدي الفراشات بين ثقوبها الدفء وخلفها وردة تبرق عندما يسقط عليها الضوء وحفيف نسمة تتهادى خلفها الوريقات المتساقطة و وقد وقع اختيارنا على مستوطنة "نمك آبرود" محض صدفة تستقبلنا أشجار "الشمشاد" أو "الشمشار" العملاقة وهي نوع من أنواع النباتات المعمرة، حيث يزيد عُمر بعضها على 700 عام؛ نستلقي على ظلالها في أجواءٍ ربيعية بديعة؛ نتجاذب أطراف الحديث ونتبادل الصمت في حضرة الطبيعة؛ نحن القادمون من السلطنة وهي الدولة الخليجية التي تتسم طبيعتها بأجواءٍ شبه جافة، تبعد مستوطنة "نمك آبرود" وهو المنتجع الصيفي المحاط بالغابات بحسب محركات البحث 12 كيلومتر غرب مدينة "جالوس" وهي من أبرز الأماكن طبيعةً في محافظة مازندران في الشمال الإيراني.
لم تختلف جولاتنا في إيران إلى هذه اللحظة عن سابقاتها "بدون مترجم أو مرشدٍ سياحي" فقد بدأنا نصوب عدسات هواتفنا على اللوحة التي كتب عليها اسم هذه المستوطنة لنتخير الصور كما يتخير الشاعر قصائده بعنايةٍ فائقة ومنها بدأنا نذرع بقية المواقع، في هذا الوقت تمنيت أنَّ أجد لوحة لهذه المستوطنة للمصور الإيراني محمد رضا دوميري وهو المصور الذي زين صفحات إيران بأجمل الصور معماريًا وهندسيًا وسياحيًا فبدأ يرسل بحس عدسته ما يسلب الأنظار فارتحل بالمتمعن في الصور على أنماط الأسقف والأعمدة والمعابد في المدن والحواضر الإيرانية وبتقنيات ديناميكية ذات نطاقات واسعة- وكان سؤالي للسائق قبل أنَّ نهّم بالنزول إن كان يعرف المصور محمد رضا فأجاب بالنفي أم عدم فهمه سؤالي والأخير هو الأرجح كما يبدو فأسرعنا نتجول لكي نستفيد من الوقت في حضرة المكان والطبيعة التي تسلب الألباب.
ومما شاهدناه في محيط مستوطنة "نمك آبرود" أنَّ الأهالي يتجمعون في جلساتٍ مهيأة بها معدات تصلح للشي وغالبًا يمكثون في أماكن معينة بالساعات بالقرب من الخدمات الأساسية وهذا الأمر كما يبدو دارج في الكثير من المواقع؛ الدخان يتطاير في الأرجاء وروائح اللحوم تغرينا كثيرًا والأطفال يسرحون ويمرحون ونحن لا نملك إلا النظر خلسة والتحرك بينهم إلى الأنشطة الأخرى في هذه المستوطنة؛ كقطع الشطرنج في رقعة مليئة بالاخضرار.
تجاوزنا هذه المشاهد المثيرة إلى حيث القاطرة المعلقة أو العربات المسحوبة "التلفريك" لنمارس الشقاوات ونعبث بالتحديات مثل المغامرين المنتصرين على "فوبيا" الارتفاعات في أعلى "تليفريك" في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما تشير المصادر، حيث يبلغ ارتفاعه (970) مترًا عن سطح الأرض في رحلة تنقل بين قمّتي "ديو حمام" و "مدوبن" وهذه القمم تقع ضمن سلسلة جبال "البرز".
في الأعالي وبين السماء والأرض نتحدثُ كثيرًا بداخل كبينة "التلفريك" ظاهريًا ونتمتم خفية بما تيسر من سور قرآنية نحفظها كتمائم منجية فلا مجال للأخطاء هنا، زادت نبضات القلب وبدأنا نتصنع الفرح إلى دنونا من القمة وهناك بدأت أهفو بسرعة وتركت "ناصر" و "فهد" كلًا يرسم لوحته ويعيش أجواءه فإذا برجلٍ وامرأة شابان يبدو أنهما زوجان يخوضان مغامرة الحبل المعلق في رياضة إلى جانب تميزها بالإثارة فهي لا تخلو من المخاطرة، بدأت أتسلل بين الغابات في هذه القمة الشاهقة بين الكبار والصغار وكنت أتساءل ما الذي أتى بهم إلى هنا فإذا بأنشطة أخرى تصنعها إيران في هذه القمة ولم ينتهِ الأمر إلى هذا الحد بل وفرت الخدمات اللازمة من جلسات ومقاهي وبيئة جذابة تدهشك وتبتلع مشاعرك كما تبتلع العصافير الحبوب من أعشاش الصفصاف وبقيت وحدي أنسج حكايات تشبه مذاقات حبات المطر التي بدأت تتساقط من السماء فاحتميت بإحدى الجلسات ومعي أحد الإيرانيين ويدعى "مهدي" وهو في العقد الخامس من العمر؛ تبادلنا أطراف الحديث قليلًا وسريعًا جدًا؛ ليسرد لي شريط ماضيه في القارة العجوز والغربة التي ذابت فيها سنوات عمره، يحدق في السماء ويتفاعل مع تساقط حبات المطر على الأرض والصوت المنبعث في الأرجاء؛ مستطردًا بعد أنَّ تنفس بعمق قائلًا: لقد تذوقت الغربة مثل الكثيرين من أبناء جلدتي وحاولت أنَّ أستورد سيارة من أوروبا ذات مواصفاتٍ خاصة وذات جودة أعلى من السيارات الحالية في بلدي إيران، اعتدل صوته وكأنه يخبئ ورقة في كتاب قائلًا: نحن نعاني من ارتفاع كلفة السيارات المستوردة من الخارج؛ بسبب الظروف التي تحيط بنا والشروط المفروضة علينا في الداخل، أخذ يمسد على عمود منتصب في هذه الجلسة الجميلة المصنوعة من السجاد الإيراني الخالص قبل أنَّ يتوقف المطر في تلك اللحظة هاتفني الصديق "ناصر" قاطعًا علي سماع براءة الماضي ووهج الحاضر مستأذنًا "مهدي" بالانصراف لقد بدأت النور تطوي ما تبقى من نهارات وأمامنا طرقات وأسرار يخفيها القدر وتطويها ساعات هادئة كما أردناها في جولتنا هذه بالجمهورية الإسلامية الإيرانية.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام