من فومن إلى ميدان شهرداري نحث الخطى إلى أصفهان
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

في السادس عشر من مايو صحا "ناصر" باكرًا كعادته قبل أنَّ يعبث الضوء بآخر النجمات ومن شرفة الفندق استهل إطلالاته على الحقول الخضراء حاثًا إيانا على أداء صلاة الفجر؛ على المستوى الشخصي وفي الأسفار التي يصحبني فيها "ناصر" أُوكل له مهمة مواقيت الصلوات؛ فقد تزاملنا في عدة سفرات إلى عديد من الدول في عدد من القارات أولى خيوطها في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ فمملكة تايلاند وجمهورية مصر العربية وجمهورية أذربيجان في منطقة القوقاز وفي الخليج دولتا الكويت والإمارات العربية المتحدة والأخيرة وبسبب القرب الجغرافي تناوبنا على زيارتها كثيرًا؛ إضافة للرحلات الداخلية في ربوع سلطنة عُمان من أقصاها إلى أقصاها وكان "ناصر" المبادر الذي يحثنا على عدم تفويت الصلوات في أوقاتها.
يمضي المرتحل في سفره إلى حيث يشاء؛ حيث المتوقع وغير المتوقع، يصمت تارة ويتحدث كثيرًا ويقابل هذا وذاك وفي كلِ الأوقات يسافر كورقة خفيفة تطوح بها الرياح على حافة الطرق وبين الأحراش وفي المسالك والدروب؛ لكنه يعود إلى حيث سكونه وهدوءه؛ حيث يجد للصلاة مكانًا في تطوافه؛ أليست الصلاة مطهرة للنفس وهي مدعاة للسكينة وتُمحى بها الخطايا والذنوب؛ لقد كان ناصر هو المحرض الدائم للصلاة؛ يردد بين الفينة والأخرى في الصلاة تتطهر القلوب ويغفر الله بها الذنوب وبها تُرفع الدرجات وهي المسلك الآمن في طريق المرتحل وقد يدفع الله عنك البلاء أو الأحداث الغير متوقعة في طريقك، الصلاة منجاة وهي التي تحفظك في كل الأوقات أخذ "ناصر" يسهب في حديثه عن الصلاة؛ فيما كنت و "فهد" لا نزال نتدثر بالفراش الوثير؛ تتلوى أجسادنا بين الفرش؛ ككحلٍ ينساب داخل عدسة العين؛ أنهى هو صلاته وتناوبنا بعده كما كنا نفعل كل يوم؛ أما في المساجد والمصليات التي زرناها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية فقد حرصنا على أداء الصلوات بها، هذا ولله الحمد والمنة.
لم تعد الأسفار شاقة بتلك المشقة التي كان أسلافنا قد عايشوها في الماضي؛ فنحن نطير في الطائرات الفخمة والطائرات الاقتصادية التي تخطب ودّ أصحاب الدخل المحدود ومحبي التوفير ونتحرك في الحافلات المريحة وإن طالت المسافات فلا شيء يدعو للقلق نحن نسافر لا على نمط واحد وكما يقال- نقطِفُ من كلِ بستانٍ زهرة- تلك كانت آخر أحاديثنا في بهو فندق "الكوثر" في مدينة فومن؛ لقد طلبنا من موظفة الفندق الاتصال بالسائق فهو لا يجيد التحدث عدا بلغة قومه وهو ذات السائق الذي أوصلنا إلى قلعة رودخان وقرية ماسولة ونحمد الله أنّه قابل الاتصال بالإيجاب طلبنا منها أنَّ يأتي متى يفرغ من أعماله فنحن لم نلتزم بموعدٍ مع أحدهم؛ أتت الموظفة الجميلة بالشاي الأحمر والسكر المزعفر ذا العود الطويل وهي ضيافة تعودنا عليها في هذا الفندق؛ أظهرت ارتياحها لنا وفي ذلك الوقت بدأنا نبحث عن خطة بديلة ومغامرة جديدة نسبر أغوارها، قال "فهد" نريد الذهاب إلى مدينة "أصفهان" هل ثمة قطار يقلنا إلى وجهتنا القادمة؟
أخذت الموظفة ترفع سماعة الهاتف من مكتب إدارة الحجوزات "الاستقبال"؛ لتجيب عن سؤال "فهد"؛ باحثة عن إجابة تدور في خلدنا؛ عاجلًا أتاها الرد عليهم التوجه إلى محطة الحافلات "Rasht Bus Terminal" فمحطة قطار رشت لا تعمل؛ في هذه اللحظة وفور تلقينا الرد بدأنا وكأننا نسير في موكبٍ ضبابي تجره جِمال في عرض الصحراء؛ في الحقيقة الأخبار المخالفة لتوقعاتك التي تتلقفها في السفر تحدث فيك قليل من الندوب والربكة؛ تضطر بعدها إلى إعداد خطة بديلة، انتابنا شعور غير مريح فأملنا أنَّ نجد فرصة لتجربة القطار في إيران وكانت محطة رشت للقطارات هي واحدة من المحطات التي عقدنا عليها أمل التجربة.
قطعنا مسافة ثلاثين كيلو مترًا بالسيارة متجهين إلى محطة "الحافلات" في مدينة رشت، كم تمنيت أنَّ نُبقي شيئًا من حلوى بوشر" وهي واحدة من أنواع الحلوى الشهيرة محليًا ومقرها في العاصمة العُمانية مسقط؛ كما أنّها تمتاز بجودة عالية، إضافة إلى أنَّها رفيقة المسافر؛ كونها تحافظ على جودتها لفتراتٍ طويلة؛ كنتُ أتمنى أنِّ نهديها هذا السائق اللطيف أو موظفة الفندق الجميلة المتعاونة معنا وهو عربون امتنان وشكر، ها نحن ندنو من محطة الحافلات ومن الوهلة الأولى انهالت علينا العروض من سائقي سيارات الأجرة طالبين إيصالنا إلى أي المدن الإيرانية التي نشاء، تجاهلنا ذلك العدد الكبير من العروض والطلبات والأصوات العالية وهي طلبات تخضع لقانون العرض والطلب في عديد من المدن التي زرناها فيما مضى؛ أما "محطة رشت للحافلات" هذه؛ تتكون من مبنى أرضي وعدد من الأعمدة مطلية باللون الأبيض، تحيط بها مساحة خضراء من الأشجار ومحال تجارية؛ أما الشارع الخارجي وهو نفس الشارع الذي أنزلنا به السائق يفضي إلى داخل المدينة ومن قاعة لشركة "إيران بيما رشت" وهي ذات الشركة التي حجزنا رحلتنا عليها من طهران إلى مدينة رامسر يبدو أنها الأخرى تتوافق مع رغباتنا في هذا التطواف؛ دفعنا مبلغ 900 تومان مقسمة على ثلاثة أشخاص ثمن تذكرة صعود الحافلة، إلا أنَّه ما زال باكرًا على موعد انطلاق الحافلة؛ فقد كان أنسب وقت لرحلتنا إلى أصفهان وجهتنا القادمة هو السادسة مساءً والساعة الآن تشير للعاشرة والنصف صباحًا- قلت للأصدقاء لماذا لا نتجول في مدينة رشت طالما لم تسمح لنا الظروف البقاء بها وقت مجيئنا ومنها نستفيد من الوقت المتبقي للتجول في المدينة وقع علينا اقتراح أحد العاملين في مقهى في الجوار التوجه إلى ميدان "شهرداري" في مدينة رشت؛ باركنا الفكرة، أقل من ساعة ونحن في الميدان أما الميدان لم نخفي اندهاشنا به وبجماله وكم تمنينا البقاء به ليلة أو ليلتان.
حينها أخذ "فهد" يقلب هاتفه المحمول على محرك البحث ليقرأ عن هذا الميدان قائلًا: "يعود ميدان شهرداري إلى الفترة البهلوية الأولى، فترة رضا بهلوي (1304/ 1320) وهو مبني على نمط أوروبا الشرقية وفيما مضى كان يعرف باسم ساحة درب الديواني خلال فترة القاجار وسبب التسمية يعود إلى شكل المباني على النمط الديواني- استرسل "فهد" يقول: تم تسجيل هذا الميدان أو الساحة كأحد الأعمال الوطنية الإيرانية في مدينة رشت في محافظة كيلان في 26 ديسمبر 1356 وتضم بين جنباتها، أي هذه الساحة- قصر البلدية ومتحف البريد ومبنى فندق إيران القديم وعديد من المباني التي مررنا عليها في جولتنا هذه؛ منها تعرفنا عليها سابقًا ومنها سقطت في زحمة المشاوير وضيق فترة الإقامة.
أمعنا النظر مجددًا في المكان الذي أنزلنا فيه سائق سيارة الأجرة وهو منحنى محاط بالأشجار وضعت أمامه أعمدة حديدية تمنع السيارات من الدخول؛ استطرد "فهد" يسترسل في القراءة "يعتبر ميدان شهرداري من الميادين الشهيرة وهو مركز مدينة رشت وبينما نحن نمضي بين جنباته قابلنا أحد كبار السن الإيرانيين، غزا الشيب لحيته؛ رجل وقور أهم ما ميزه رحابة صدره؛ حدثنا عن الميدان وكأنه أحد المرشدين السياحيين- هو يتحدث بالمعلومات التي يعرفها عن الميدان ونحن نستمع ونلتقط بعضًا مما يقول وفي ختام حديثه أخذ يقول من أين أنتم؟ رف جفنه حين سمع كلمة "عُمان" وفغر فاه حين سمع عبارة السلطان قابوس يبدو أنَّ سلطنة عُمان ارتبطت عند البعض بالسلطان قابوس رحمة الله عليه.
قطفنا الفرصاد "التوت" والفرصاد هذا يبدو أنّه منتشر في كل مكان في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبالإمكان قطفه وهو متاح للجميع وستشاهده على لونين الأسود والأبيض أما الميدان فيه أكثر من ساحة كما تبدو مدينة رشت محاطة بالغابات الكثيفة، لم نرَ المطر ساعة زيارتنا فقد سمعنا أنَّ مدينة رشت تعرف بالمدينة الممطرة؛ لأن سماءها تزف المطر فتتلألأ البيوت والميادين والأبنية والأرض بلون المطر ورائحة كرائحة الأرض عندما تختلط بالماء؛ أما النباتات بأنواعها وأصنافها تجدها في كل مكان هنا وما يميز المدينة وقوعها بين جبال البرز وبحر قزوين- قال "ناصر" ليتها تمطر لنتعرف كيف يتحرك الإيرانيون وقت المطر وكيف تبدو طباعهم لربما تختلف عن طباعنا وعن طباع التايلنديون وأخذ يضحك في وجهي قائلًا أتذكر عندما كنّا في تايلاند كيف يفر التايلنديون من المطر وكيف تغلق المحال وتختفي أنشطة فيما تنشط أنشطة باعة المظلات فتجدهم يخرجون من كل حدب وصوب كطرب القلوب المسكونة بالطفولة.
تبقى قليل من الوقت قررنا أنَّ نتذوق طعام المدينة في هذا الميدان ومن الأكلات التي أعجبتني وجبة كباب رشت (الكباب الحامض) المكون من اللحم ودبس الرمان والبهارات التي تتميز بها مناطق الشمال الإيراني؛ تلمظنا قليل منه قبل الاستمرار في الأكل؛ فإذا به يتشابه مع وجبة المشاكيك عندنا في سلطنة عُمان والمكونة من اللحم المدهون بالبهارات والصبار الحامض؛ أما المشاكيك هذا تذوقنا طعمه في مدينة "فومن"؛ عند عودتنا من ميدان "ولي عصر" والغريب هنا أنك تأخذ طلبك سواء "لحم أم دجاج" وتقوم بشيه وحدك وإذا أردت من أحدهم أنَّ يقوم بالمهمة عنك عليك أنَّ تدفع له نظير خدمته لك. وهذا الأمر يختلف عنا في سلطنة عُمان؛ فالقائم عن الكشك أو المحل هو من يخدمك!
أنهينا تجوالنا في ميدان شهردري خوفًا أنَّ يدركنا الوقت وقد تبقى لنا على موعد انطلاق الحافلة قرابة ساعتان وبضع دقائق؛ وعند وصولنا بقينا في محطة الحافلات نتأمل الناس والحراك؛ هذه المحطات تأسرني ولا أخفيكم يا أصدقائي كنت أتحدث مع الأصدقاء "ناصر" و "فهد" عن سر الإعجاب بأصوات الناس وضجيجهم والضوضاء الخارجة من صف الحقائب في الحافلات، مشهد الناس وهم يمشون بين الحافلات وهم يتأملون وهم ينتظرون عائلاتهم وأحبابهم وهم يلوون ألسنتهم ويزمون شفاههم وهم يحزمون أمتعتهم وأخيرًا لا يمكننني إخفاء اندهاشي بالساحة المليئة بالحافلات ومنظر الدراجة لنارية الكلاسيكية من نوع هارلي التي أصر مالكها على تحميلها في مكان خصص لحمل أمتعة المسافرين وقد تبين لي جدوى الدراجات النارية الكلاسيكية في مدينة أصفهان. والجانب الآخر من هذه المحطة منظر سيارات الأجرة بألوانها الصفراء والسوداء؛ أما المشروبات وغيرها من أطعمة في الحقيقة لم ترق لي بداخل هذه المحطة والمحطات العامة التي سبق لنا زيارتها؛ قياسًا بالمحال والمقاهي الخارجية، تأخر موعد تحرك الحافلة؛ لكنها تحركت على كل حال وسرنا فيها في تجربة جديدة، جلسنا في مؤخرة الحافلة وأثناء جلوسنا قرأت عليهم هذه القصيدة لأحد الشعراء والأرجح هي الشاعرة "ميسون السويدان" وكأن الأقدار هي التي أوقعتنا في اختيار هذا التنقل في هذه اللحظة على الأقل وقد شارفت إيران أنَّ يخيم عليها الظلام.
"قُل لي.. لماذا اخترتني؟
وأخذتني بيديكَ من بين الأنامْ
و مشيتَ بي..
ومشيتَ..
ثمّ تَركتني
كالطفلِ يبكي في الزّحامْ
إن كنت- يَا مِلحَ المدامعِ- بِعتَني
فأقلّ ما يَرِثُ السكوتُ من الكلامْ
هُو أن تؤشّرَ من بعيدٍ بالسلامْ
أن تُغلقَ الأبوابَ إن قررتَ ترحلُ في الظلامْ
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام