رامسر رفيقة الظل.


يوميات مسافر إلى إيران
🇮🇷
يحيى المعشري
✍️
غططنا في نومٍ مشوب بالسهاد والأرق بعد رحلة دامت زهاء خمس ساعات، نخترق طرقات سلسلة جبال البرز وعلى السهول والمنحدرات نتأمل إطلالات جبل "دماوند" أحد المصادر الطبيعية والمذهلة في مقاطعة "مازندران وهو الذي يهفو إليه المتيمين بالرياضات الجبلية والباحثين عن الجديد في سجل المغامرات؛ كما أنّه أحد أعلى القمم في غربي آسيا وأوروبا ورمز العظمة والمجد للإيرانيين في الأساطير الفارسية؛ نظرت إلى وجوه الأصدقاء "ناصر" و "فهد" بشيء من الغرابة المصحوبة باللطافة؛ نعم هكذا كان شعوري لحظتها وهو شعور يشيء بأن ثمة خطب يلوح في الأفق القريب؛ تناهي لي صوت يهمس في الجوار وضحكات مكتومة تأتي كالبريد الغير معنون من الكراسي الجانبية في الباص ويتكئ عليها شابان إيرانيان في مقتبلِ العمر، يرتديان ملابس توحي أنّهم من أسرٍ بسيطة جدًا؛ تنسدل رجل أحدهم من أعلى الكرسي، يبدو نائمًا أو يتظاهر بالنوم مثلنا؛ أخذ أحدهم يمطرنا بالأسئلة؛ هل وصلنا وكان يتثاءب دون أصوات بوضع سبابته على فمه من التعب- لم نفهم حديثه فهو لا يجيد العربية ولا نحن نتقن اللغة الفارسية ورحمة الخالق أنَّ جعل اللغات متعددة وجعل الناس ألوانًا كذلك؛ لكننا نسافر لنتعلم أيُ شيءٍ يسجل في رصيدنا؛ فأومأت بسبابتي إلى أحدهم في الكرسي الأمامي وهو إيراني الجنسية مبينًا للفتى أنَّ الإجابة عنده، مبتسمًا في وجهه وتبين أنًّ الفتى كان يسأل إن كنا قد وصلنا مدينة رامسر أم بعد، بدأ الركاب يهمون بالنزول والخروج من الباص ويجرون خلفهم حقائبهم وأشياءهم وبقينا نحن الخمسة نناظر بعضنا البعض؛ فيما بدأ أحد القائمين على الباص إعلامنا بصوت خافت أننا قد وصلنا وهذه المحطة هي المحطة الأخيرة للباص.

نظرنا في الخارج وتكشف لنا أنَّ المحيط الخارجي مظلم ولا يوجد ضوء يسقط على المكان عدا الضوء البعيد الخافت من الشارع الجانبي؛ ألقى "ناصر" عبارة متعجلة؛ يبدو أن المكان هذا خالٍ من الحياة؛ استلمنا حقائبنا فإذا بأحدهم يلوح لنا " رامسر، رامسر مواصلًا صراخه، أدركنا في حقيقة الأمر أننا في عِداد الضائعين؛ كأحرفٍ منسية في صفحات كتاب، أكثر الشاب من نداءه وكان يشير على الجهة اليمنى من الشارع وهي الجهة المعاكسة لمحطة الباصات هذه ولا يمكن أن أطلق عليها محطة، فهي أشبه بطريق الضائعين؛ فجأة انبرى أحد سائقي سيارات الأجرة أحس بالحيرة التي تختلج مشاعرنا عارضًا علينا إيصالنا إلى مركز المدينة- لم يترك لنا المجال للحديث موجهًا لنا سعره (مليون تومان) وقبول العرض هذا ليس بتلك السهولة كما يتصور البعض؛ لأننا لا نعلم وجهتنا في مدينة "رامسر" بعد وليس لدينا حجزٌ مسبق عدا أننا عرضنا عليه النزول في مركز المدينة- لم نَعُدْ الدقائق والساعات وهو يطوف بنا الشوارع وكمن يمضي في طريقٍ لا يعلم متى ينتهي ولا إلى أين مداه ومنتهاه- بعد ساعة أو أقل بقليل وصلنا إلى دواخل مدينة "رامسر" في وقتٍ متأخر وقد أعلن الليل سدوله ومن اللّافت أنَّ أشير إلى أنَّ الحياة الليلية في مدينة "رامسر" هادئة جدًا في أغلب المواقع البعيدة عن الميدان وبما أننا اخترنا أو وصلنا هذه البقعة الهادئة قبالة "بحر قزوين" وهذا ديدن الحياة في المناطق هذه التي تعتمد سياحيًا غالبًا على أوقات النهار؛ بضع كراسٍ وصبية يلعبون في سياراتهم قبالة بحر قزوين وعاشقين يتلذذون بمراهقتهم على أنغام أغنية المطربة الإيرانية حميرا "لحظة خدا حافظي"؛ يخيل إلينا من الوهلة الأولى أننا نعيش في بيتٍ مهجور عدا سائقي سيارات الأجرة الذين بدأوا يدلقون علينا عروضهم ( شقق، منتجعات، فلل...) أحد الأصدقاء لانت سريرته وفضّل الانصياع لهذه الإغراءات خاصةً أن الليل داهمنا وفي العادة الأوقات المتأخرة من الليل في السفر غير محبذة للمرتحلين؛ فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالبحث عن مأوى وفي هذا الوقت المتأخر من الليل؛ المساء رفيق الموجوعين ككهلٍ يتجول في حقول الياسمين؛ يتلقفه طيف القمر وأغنية شجية تنبعث من بين أكاليل الورود وبقايا انكسارات تنتظر الشروق.
هنا أنزلنا سائق سيارة الأجرة ولم يترك لنا خيارات أخرى؛ أحس أحد العاملين في أحد المقاهي المواربة أننا في حيرةٍ من أمرنا كالعالقين في جدران الفراغ، فهرع إلينا حالًا مشيرًا إلى أحد الفنادق فألقينا بسهام نظراتنا في الجوار؛ فتكشف لنا فندق "كارن" وهو من الفنادق التي رشحها لنا تطبيق أو محفظة "نيو كاش" وما يميزه بنيانه الطولي وهو من فئة ثلاث نجمات- دلفنا الفندق بسرعة كالمتلهفين على جرعة ماء في وسط الصحراء؛ لم يطل الأمر طويلًا اتفقنا على الإقامة فيه ثلاث ليالٍ ومنه نبدأ التخطيط لباقي جولاتنا والتي حمدنا الله أنّها على الرغم مما اكتنفها من أحداث إلا أنّها كانت متوقعة وفيها من المواقف اللطيفة والمدهشة والمفاجآت، فالنهايات دائمًا تكشف لنا حجم المتعة والإثارة في السفر- أنهينا إجراءات السكن في فندق "كارن" وارتمينا بين أروقة أحد المطاعم المجاورة على طاولاتٍ وثيرة لنتذوق البيتزا الإيرانية والتي أحبها الأصدقاء كثيرًا وأصبحت سرًا من أسرار يومياتنا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
لم يخفى علينا جميعًا أننا في رحلتنا هذه قد حسمنا بعض الجوانب ولم نستطع بطبيعة الحال تغطية كل الأماكن السياحية؛ فقد أرجأنا بعضًا منها للزيارات القادمة ومنها مدينة "رامسر" هذه وهي "عروس المدن الإيرانية" وإحدى أجمل المدن الشمالية على ضفاف بحر قزوين والجميل أنّها تجمع بين البحر والمدينة والجبال المخضبة بالاخضرار وتتمتع بمكانة سياحية مهمة وقد وضعناها في جولتنا هذه نقطة انطلاق من وإلى المدن الأخرى في مقاطعة "مازندران" وسنأتي عليها تباعًا بعون الله تعالى ومن المواقع التي شدتني كثيرًا في مدينة "رامسر" ميدان "إمام الخميني" حيث التجمعات والسوق والجسر المميز والممرات الخضراء بين الجنبات ونحن في طريقنا من مقر السكن إلى الميدان؛ ناهيك عن المطاعم والمقاهي والباعة المتجولين ويكثر في الميدان بيع التوابل والبهارات وقمر الدين وهو ينتشر كثيرًا في هذا الميدان وبقية الميادين كسمة تتميز بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ أما "ميدان الخميني" هذا فكنا نقضي به ساعات ما قبل التحرك إلى وجهاتنا وهو الإمضاء الذي يخول لنا إرسال بريد اللحظات من وإلى أرجاء مقاطعة "مازندران" من بواكير الصباح، حيث سيارات الأجرة في الميادين كثيرة جدًا وهي رفيقة الدرب والمشاوير، تعرفنا فيه على شخصيات غالبيتهم من سائقي سيارات الأجرة؛ تبادلنا الفرح والصمت وحشرجات موجوعة يدلقها لنا بعضهم في الدروب التي نطويها والطرقات التي نسلكها؛ في ميدان "الخميني" هذا نحتسي القهوة ونتلمظ مراراتها على سكنات المزاج وأحاديث الفرح مع "البارستا" اللطيف الذي رسم لنا خريطة أخرى تتبدل بها قناعاتنا وأثناء العودة من جولاتنا في المدن التي نزورها يوميًا في هذه المقاطعة في العادة نختتم يومنا بتذوق الفواكه والمجففات وشراء اللوازم اليومية التي ترافقنا اللحظات وتمضي معنا في رامسر؛ كالظل.
ملحوظة: البارستا؛ هو الذي يُعَدُّ الْقَهْوَة...
















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر