في الطرقات نفتح نافذة أخرى بين مازندران وكيلان.
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

كنّا كالمجانين نطوي حقائب السفر التي لم يطل بها المقام كثيرًا في فندق "كارن" في مدينة رامسر المتكئة على ضفاف بحر قزوين وجبال البرز المخضبة بالاخضرار ونحمد الله أنَّ السماء اليوم لم تشهد هطول الأمطار؛ لكنها كانت ملبدة بالغيوم؛ وأيُ مجانين نحن الذين نطالع حقائبنا التي ما برحت أنَّ استقرت في مكانٍ حتى حزمنا أمتعتنا عليها متوثبين للوصول إلى الوجهة القادمة في جولتنا السياحية والاستكشافية في الرحاب الإيرانية وكأن الحقائب تشكو كي جسدها بسياط لا يرحم وهي تتدحرج في الممرات وبين الطرقات وتُحشر بين عربات السيارات والباصات؛ كمن يقتات الحيرة والقلق من تعدد الوجهات- أخذنا نربت على حقائبنا بحنان رأفةً بها؛ فالمشاويـر القادمة بحسب مخطط الرحلة أكثر جمالًا وأكثر إثارة.
مط "فهد" شفتيه وهو يناظر الغيمة وهي تتكوم فوقنا فيما بدأ "ناصر" يطالع ذات اليمين وذات الشمال ونحن في طريقنا للبحث عن سيارة أجرة تقلنا إلى محافظة كيلان وهي الوجهة القادمة؛ فيما بالأمس القريب كان قرارنا أنَّ نبحث عن سيارة أجرة من ميدان "الخميني"؛ ولأن اللحظات تتغير كالأفلاك حتى قراراتنا قد يطرأ عليها ذات التبديل والتغيير وفق مقتضيات اللحظة والظروف فقد أنهينا المخالصة المالية مع الفندق من أجل شد الرحال إلى محافظة كيلان"؛ مدركين أنَّ القادم من وقت يحمل مفاجآت سارة، هتفت نعم مؤكدًا إنّها سارة؛ نعم إنّها سارة، هكذا كان هدفنا الأسمى من هذه الرحلة في الحواضر والمدن الإيرانية.
انطلقنا مع أحد سائقي سيارات الأجرة وهو إيراني الجنسية تبدو عليه أمارات الوقار، حليق اللحية، يرتدي قميص أبيض اللون، لا يتحدث كثيرًا؛ وكأنه وقع معاهدة مع الصمت؛ لذلك لم يصرح باسمه؛ لكنه يخفي أشياء لا يمكن معرفتها من الوهلة الأولى وهي طباع لم أفهمها جيدًا في بادئ الأمر، الطريق من رامسر إلى رشت ساعتان وعشرون دقيقة بحسب خرائط الأقمار الصناعية، تنفسنا بارتياح فالمسافة قريبة والطريق أشبه بالوشاح المخضب بالاخضرار، اتفقنا أن يقلنا إلى مركز مدينة "رشت" بسعر (٣٠٠) تومان ونحن في الطريق مررنا على عدد من الباعة ومعهم طفلًا صغيرًا؛ يعرضون بعض المنتجات الإيرانية في أوانٍ زجاجية والأغلب أنّها أعسال ومخللات وبعض الاحتياجات التي تعينك في الطريق؛ فآثرت تصوير المشهد دلالةً على الكفاح والبحث عن لقمة العيش الحلال؛ في الحقيقة توثيق تجليات الحياة اليومية في الرحاب الإيرانية هي الهوية الثقافية التي أبحثُ عنها في السفر وليست المجمعات التجارية ولا براندات الموضة؛ فهي منتشرة في دول المنطقة وكثيرة حدّ التخمة وفي عديد من الدول التي زرتها سابقًا- رفعتُ هاتفي خلسة لألتقط ذلك المشهد ومررنا بالسيارة في طريقنا مسرعين؛ قلت: للسائق بلغة أجنبية مكسرة غلبَ عليها لغة الإشارة متسائلًا هل يمكنني نشر المقطع المرئي هذا؛ في البداية لم ينبس ببنت شفة وتمتم بعبارات لم أفهمها في بادئ الأمر فأردف يقول: أنتَ في إيران في بعض الأماكن ُتعد مثل هذه التصرفات من السياح طبيعية؛ نعم هي طبيعية قلت؛ لكنني أنا عُماني وعمانيتي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان وأنَّ القيم هيّ القيم في الوطن وخارجه وحريٌ بي أنَّ أستأذن قبل أنَّ أُقبل على أشياء لا أعلم عواقبها وأهم العواقب هو تأنيب الضمير ومساءلة النفس؛ بدى يلوح بكلتا يديه غير عابئ بالأمر مستدركًا تلك الحركة لقد توارينا عن الباعة بعيدًا بينما أنا ضللتُ متمسكًا بمبدأ الاستئذان فألقيت ذلك المشهد في خانة المحذوفات وليس ضروريًا إشعاره بالحذف طالما أنّه غير عابئ وليس مهتمًا بالأمر.
قبل الوصول إلى مركز مدينة "رشت" في محافظة كيلان، حدث ما لم نتوقعه لقد وصلنا إلى نقطة بين تقاطع مروري، أخذ السائق يتمتم بعبارات مكررًا إيّاها وكأنه يتلو الغياب، تبدلت تقاسيم وجهه فجأة وكأنه أخطأ معادلة من معادلات السعادة؛ بعدها أوقف سيارته جانبًا طالبًا منّا النزول، بدأ القلق يساورنا وبدأنا نناظر بعضنا البعض متسائلين كيف لنا النزول هنا في هذا الشارع ونحن نبحث عن مركز المدينة- قلت للأصدقاء "ناصر" و "فهد" أين الميدان- نحن نبحث عن الإقامة في الميادين وأماكن الوجود البشري والسائق هذا طلب منا النزول في هذا المكان المقطوع وهو قبالة دوار وشارع ممتد وأبنية متفرقة وأشجار ظليلة خضراء وهي عزاءنا في هذا المكان؛ أمّا الحياة لا توجد حياة كالحياة التي نبحث عنها للإقامة.
شيءٌ من الوجوم خيّم على المكان وبلغة عجولة قال "فهد" رافعًا هاتفه على صورة أحد الفنادق ويسمى فندق "صبوري" مبينًا رغبتنا الوصول إلى هذا الفندق في هذه المنطقة؛ عقب السائق سأقلكم إلى هناك؛ شريطة أنَّ تدفعوا المزيد من المال لم نرفض طلبه فالخيارات المتاحة في هذا المكان لا تصب في صالحنا إمّا القبول أو النزول بحقائبنا في هذا المكان المقطوع، أومأنا له بالموافقة فالمبلغ بمقاييسنا يبدو زهيدًا لكننا أحسسنا بشيء من عدم تقبل المعاملة هذه بغض النظر عن المبلغ المالي الذي سندفعه، ها نحن ندنو بالقرب من مدخل مدينة "رشت" فتبدى لنا مبنى طويل؛ صرخ "فهد" هذا هو الفندق الذي نبحث عنه أنزلنا حقائبنا المترعة بملابسنا وأشياءنا ودفعنا أجرة السائق لكنه أسرع إلى الفندق قبلنا عرفنا وقتئذ أنّ غايته الخروج ولو بقليل من المال جرّاء إقامتنا في هذا الفندق وهي سمة تعرضنا لها في قليل من المواقف؛ يتّبعها الكثيرين من سائقي سيارات الأجرة ولا أعلم هل هي تقع ضمن ضوابط وقيود أم تصرفات تجري في شرايين البعض خلفها دوافع لا نعلمها.
توارينا عن السائق هذا؛ لذنا لبقالة صغيرة تسكن في الجوار بها أحد الإيرانيين وهو شاب لطيف في منتصف العقد الثالث من العمر؛ أنيق ولطيف المحيا أخبرناه بقصتنا هذه المليئة بالمفارقات الغريبة واللطيفة مبدئًا رغبته الجادة في مساعدتنا فدعانا للمكوث معه في دكانه الصغير. يمضي معنا في فصول المشاهد القادمة؛ كالقارئ الذي يسافر مع أحداث الرواية وشخوصها وهو وجهٌ آخر من الوجوه الجميلة والكثيرة جدًا التي التقينا بها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام