قبل أن نغادر العاصمة طهران رسائل مبعثرة.
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

أقبل علينا صباح يوم جديد في شارع ولي عصر" حمدنا الله أننا استطعنا خلال هذه الفترة الوجيزة زيارة العديد من المعالم المهمة في العاصمة الإيرانية "طهران" ويمكنني أن أصنفها على أنها معالم سياحية ذات طبيعة خلابة ودينية وثقافية وتاريخية؛ هذا الثراء أضفى عليها رونقًا أخاذًا وجمالية لم أكن أتخيلها؛ بالتالي كنت أردد على الأصدقاء "ناصر" و "فهد" خلال زيارتنا هذه؛ العواصم في دول العالم فيها مركز الحكم وقد يأتي أمرًا عاجلًا يؤثر على الحراك البشري وقد يسري علينا ما يسري عليهم؛ كما أنًّ العواصم مقرًا لأهم المؤسسات الحكومية؛ وهي مركزًا اقتصاديًا وثقافيًا، حيث المتاحف والمعارض والمؤسسات التعليمية والمنشآت الرياضية والصحية المهمة وفيها التنوع الثقافي مثل التبادل الاجتماعي والديني وهذه سمات قد تجعل؛ أقول قد تجعل سمات العواصم مختلفة عن بقية المدن والحواضر في الدولة الواحدة وقد يعيب البعض على طهران الزحام الشديد وهذا أمرٌ طبيعي لم نلحظه كثيرًا في فصل الربيع هذا، لكنها كتجربة سياحية وثقافية لا يمكن تجاهلها لأي سببٍ كان ويتجلى ذلك كمشهد لافت في المواسم وهي كثيرة وجميلة في ذات الوقت وليست كما صُور لنا قبل أن نشد الرحال إليها من مسقط رأسنا العاصمة العُمانية مسقط؛ مررنا كثيرًا على أهم معالمها وهي مساحة بوح حاولت أن أتحدث عنها قدر الإمكان؛ أسقطها عليكم كما تسقط أشعة الشمس على شفاه النهار ومن المعالم التي تقف نقطة ارتكاز في طهران "برج ميلاد" وهو وأحد أو أعلى أبراج البث في العالم؛ ناهيك عن إطلالاته الرائعة التي تكشف العديد من المعالم في العاصمة الإيرانية طهران وفي جولاتنا بالسيارة للأماكن السياحية كان برج ميلاد أحد شواهد طهران البارزة والشاهد الآخر هو جسر الطبيعة" في شمال طهران، ومن اسمه تتجلى الطبيعة في كل تفاصيله عدا المادة الفولاذية المصنوع منها؛ شُيدَ جسر الطبيعة حديثًا وهو أكبر جسورها وأحد الرموز الحضرية في العاصمة طهران؛ تنتشر على جنباته الأشجار ويفضي آخره إلى حديقة "طالقاني" وهي شبيهة بالغابات؛ كما أنها من المتنزهات القديمة في منطقة "عباس أباد" وتحوي مماشي تتيح لك المجال لأخذ جولة سياحية رياضية بين أحضان الطبيعة؛ وقد حضينا بزيارته والاطلاع على تصميمه الفريد وحضور الفعاليات المصاحبة والاستماع إلى العازف الإيراني وهو يجلس القرفصاء على قارعة الطريق وهي معزوفات تتكرر في أغلب الأماكن التي تشهد رواجًا سياحيًا، في حقيقة الأمر "جسر الطبيعة" هذا تحفة معمارية فريدة خرجت من مهدها بطول ٢٧٠ مترًا من قبل المعمارية الإيرانية "ليلى أرغيان" وقد فاز الجسر بالعديد من الجوائز وهذا يعزو إلى إتقان الفنانة المعمارية وتميزها في هذا التصميم الفريد، وهو نموذج للجسور التي تعبث بمشاعرك وأنت تخط خطاك بين ممراته المتداخلة لتأخذ زاوية تصويرية توثق فيها لحظاتك أسوةً بالكثيرين من الإيرانيين والسيّاح الذين يتوافدون عليه.
ولا يفوتني أن أذكر أحد المهرجانات التي مررنا عليها وقد أقيم في إحدى الساحات العامة وهو مهرجان الورود؛ الوردة حاضرة هنا في كل زاوية وفي كلِ مكان ولها قدسيتها ورمزيتها للإيرانيين؛ حتى العشاق وجدوا ضالتهم بالتصوير بين الورود؛ يتدثرون بالأمنيات بين أقواسها؛ مضينا بين الجموع كريش الحمام فرمقنا عددًا من معامل الورود؛ وُضعت في آنية معدنية أنيقة؛ يشرح فيها أحدهم الطريقة التي يتم فيها استخلاص ماء الورد الإيراني وتصاحبه مراسم تقليدية وأهازيج طربية ومن الحدائق التي شهدنا فيها هذا المهرجان حديقة "آب و آتش" أي الماء والنار ومن حسن الطالع أن نشهد هذا الاحتفال ومن خلاله تعرفنا عن قدسية الورود لدى الإيرانيين، حيث تُصدر الورود الإيرانية لعدد من الدول والمدن، أهمها وأقدسها مدينة مكة المكرمة في المملكة العربيةالسعودية؛ حيث يرسل الإيرانيون أجود أنواع الورد للكعبة المشرفة؛ كنت والأصدقاء "فهد" و "ناصر" كمن يقطف نجمات عابرة في حضرة الحشود التي انخرطت في الاحتفال صغارًا وكبارًا ومن كلا الجنسين. وفي زاوية مظلمة بين معمل الورود وجسر الطبيعة يقفُ شاب وفتاة في ريعان العمر- يقفا كالتمثال الحجري تشتبك أياديهما ببعضها البعض، تصوب الفتاة نظراتها كالسهام الجارحة في عينيه وكأنها تناجي فيه لواعج الهيام- وبينما كنتُ أمر بعدسة هاتفي في الظلام شدني ما رأيت فأشحت ببصري إلى الفضاء الخارجي فأخذتُ أجر قدمي خارجًا من باب الحديقة، لم أكن أعلم ماذا أفعل عدا أن تركتهم يعبثون بمراهقتهم خلف الأسوار وبين الظلام.
حزمنا أمتعتنا؛ فهذا اليوم هو اليوم الأخير لنا في طهران ويترتب عليه إضافة للاستعداد التام للمغادرة وضع خطط بديلة لأي طارئ وكما أسلفت سابقًا الرحلة بالمترجم تختلف مليًا عنها بدون مترجم في إيران، الحياة رحلة قصيرة قد تتجلى أمامك بعض تفاصيلها ويغيب عنك الكثير؛ ثمة أمرٌ مهم ألا وهو استلام البطاقة البنكية من بنك "سبه"، فاليوم الثالث لنا في العاصمة طهران هو موعد استلامها وكان لنا ما أردنا بفضل الله تعالى؛ كما كان علينا أن نتخير وسيلة التنقل من طهران إلى رامسر في محافظة مازندران، محطتنا القادمة وجرى الاتفاق على التنقل بالباص السياحي من محطة ميدان أزادي "أزادي تيرمنال" وهو القريب من "برج ميلاد" فأسرع بنا سائق سيارة الأجرة لنطوي فصل مهم من رحلتنا هذه؛ لكنّ الحكاية كما يبدو لا تريد أن تنتهِ عند هذا الحد فالسائق قادنا إلى محطة أخرى وهي خاصة بسيارات الأجرة لا الباصات حسب الاتفاق؛ هل كنا على عجلة من أمرنا أم أننا لم نستطع إيصال رسالتنا لهذا السائق ولا يخفى عليكم كان السائق دمث الخلق معنا ويبدو أن لغة التخاطب بيننا لم تكن مفهومة كما ينبغي؛ لربما سوء الفهم من أوقعنا في هذا الأمر وصلنا المحطة وفي الخارج بدأ سائقو سيارات الأجرة يدلقون علينا العروض إلى مدينة "رامسر في الشمال الإيراني وإلى العديد من المدن الأخرى مع اختلاف الأثمان والمسافات؛ كنا نعلم أننا لا يمكننا الحجز لهذا المشوار من أي سيارة في الخارج، فاستأذنت الأصدقاء أن أسأل أحد العاملين في المحطة فإذا به يخبرني أن محطة الباصات في محطة ميدان أزادي تيرمنال" وهذه المحطة لسيارات الأجرة فحسب وهي تعارض مخططنا الذي وضعناه، فورًا ودون سابق إنذار وقفنا على أحد الأرصفة من الجهة المقابلة لنستقل سيارة أجرة تقلنا إلى المحطة القادمة ومنها حجزنا رحلتنا القادمة من طهران إلى مدينة "رامسر" عروس المدن الإيرانية على بحر قزوين- إلى هذا الحد تسير الأحداث في رحلتنا مثل أي حدثٍ عابر قد يعترض المرتحل لكننا هل نستطيع أن نشتري الوقت؛ نعم ذلك الوقت الذي بنى عليه الناجحون والفلاسفة والمتفوقون التوازن وإنجاز الأعمال في أوقاتها وما يترتب على ذلك؛ لم أكمل حتى تحليل فلسفة الوقت وسيكولوجية التعامل معه فقد باغتني "ناصر" مستطردًا، علينا أن نتدارك الوقت فأمامنا ساعات طويلة والتأخر عن موعد وصولنا إلى مدينة "رامسر هذا أمر والأمر الآخر ليست لدينا حجوزات سابقة ولا نعلم الظروف التي ستواجهنا عند وصولنا إلى هذه المدينة التي لم نعرف عنها عدا اسمها في خريطة إيران وجرت العادة أن أضع احتمالات كثيرة قبل الشروع لتنفيذ أي مخطط للسفر، نقتحم المستحيل بروحٍ يشوبها الأمل ودهشة التجارب.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام