في كلاردشت مع "نبي" نكشف أوراق محبّرة بالأنين.
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

دفعتنا هذه التجربة بدون مترجم في الرحاب الإيرانية للتعرف على كثير من الإيجابيات في السفر؛ أهما أننا استطعنا أنِّ نتحرك بحرية وأنَّ تخرج قراراتنا متى ما عزمنا التنقل من وإلى أي مكانٍ آخر بحرية وفق الظروف وإذا ما طرأ جديد على جدول الرحلة نحنُ أحرار ونحن من نقرر دون أنِّ نتلقى خطط مجدولة وفق رغبات الآخرين؛ تلك كانت حواراتي الجانبية مع الأصدقاء "ناصر" و "فهد" في المقهى الذي اعتدنا احتساء قوتنا الصباحية به في "ميدان الخميني" بمدينة رامسر" في محافظة مازندران وهذه المرة طلبنا من مُعدّ القهوة "البارستا" اللطيف بعد تلمظ "الكابتشينو المخفوقة بالحليب الطازج واللاتيه مع الرغوة الكثيفة" مساعدتنا في التفاهم مع السائق المزمع قدومه فور ضغطي على زر "سناب" (snapp) وهو تطبيق خاص بالتنقل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما تحدثت سابقًا.
الثالث عشر من مايو هو يومنا الأخير في محافظة مازندران، الصباح لطيف ومحفز للمشي هذا اليوم وقد شارفت السماء أنَّ تمطر أو هكذا يبدو من الوهلة الأولى التي دنت منّا قطرة مطر مهذبة تمسد على وجوهنا في أجواءِ الربيع وتحنو على الممرات التي بدأت أقدامنا تتخطاها؛ المطر في الخارج ينبئ أننا أمام مشهدٍ ماطر، طلبنا بإلحاحٍ مهذب من "البارستا" إعلام السائق عن موقعنا؛ فنحن نضع أول الاحتمالات أنِّه لا يتقن لغة غير اللغة الفارسية، ربع ساعة وإذا هو في الخارج والمطر تجاوز حد التنبؤ إلى الهطول بخفة وحنان على الأرض ونحن نناظر في أرجاء ميدان الخميني المكتظ بفرح كنظرة شغوفة يخبئُها الصغار في عيونهم العسلية- ركبنا السيارة على وجه السرعة والطرقات تمشطها زخات المطر بتقطع؛ في هذا الوقت تذكرت أيامنا الجميلة في رحلة شبابية إلى محافظة ظفار مع أجواء الخريف في جنوب سلطنة عُمان، طلبت منه قبل أنَّ يبدأ حديثه أنَّ يربط هاتفي بسيارته ليطربنا بأنشودة المطر للسيّاب بصوت عرّاب الطرب محمد عبده، ترنمنا مع كلمات السيّاب "أتعلمين أيُ حزنٍ يبعث المطر؟ وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟ كأن طفلًا بات يهذي قبل أنَّ ينام إلى أنَّ وصلنا إلى ومقلتاكِ بي تطيفان مع المطر- وعبرَ أمواج الخليج تمسح البروق شواطئ الخليج بالنجوم والمحار كأنها تهمُ بالشروق- أصيحُ بالخليج يا خليج ويرجع الصدى كأنه النشيج"- كانت السماء تسح والأرض تستقبل المطر كالطفل الذي تفرحه هدية أبيه بعد طول غياب، هل يعقل أن هذا الطفل هو الفرحة الوادعة التي تُرافق عشاق المطر أينما حلوا وارتحلوا؟ فنحن القادمين من السلطنة التي ترتفعُ فيها درجات الحرارة في هذا الفصل نفرح عندما نستقبل مثل هذه الأجواء اللطيفة والنسائم الباردة.
في الحقيقة لم نشعر بالوقت لقد مضى ونحن نسير مع هذا السائق ساعتان من الوقت ونحن على مشارف الوصول إلى أول مدخل مدينة "كلاردشت" وهي الوجهة التي ذاع صيتها وهي المكان الذي يتصدر صفحات الإعلانات لدى المرشدين السياحيين والشركات السياحية عندما تتحدث عن الشمال الإيراني ولم تكن هي خياري الأمثل في هذه الرحلة بصريح العبارة؛ لربما يعود السبب إلى التخمة التي أصابت عيوني- أليس النظر للشيء كثيرًا مرارًا وتكرارًا اعتياد وقد يخبو ويخفت ذلك التوقد والتوق مع زيادة التركيز على الشيء ذاته- أما سائقنا اليوم فهو من نوعٍ مختلف وهو يختلف عن أغلب السائقين الذين قابلناهم في تطوافنا خلال هذه الرحلة ويدعى "نبي صادق" وهو إيراني الجنسية في منتصف العقد الخامس من العمر؛ بدين الجسد، مفتول العضلات؛ تتدلى كرشه قليلًا للأسفل؛ خفيف الظل ويطرب للغناء والرقص- لقد ترنم من "أنشودة المطر" ولحنها وصوت المطرب محمد عبده على الرغم أنّه لا يفهمها؛ كما أنَّه كثير البوح والكلام وكأنك تعرفه منذ سنوات؛ بدأ أحاديثه معنا من الوهلة الأولى عن حياته الشخصية؛ يقول أنا لا أعمل كنت مزارعًا في بدايات شبابي رفقة إخوتي ووالدي والآن أعمل سائقًا ومرشدًا سياحيًا؛ في بدايات شبابي كنت ملاكمًا وشاركت في العديد من البطولات؛ محليًا وخارجيًا وبدا ذلك فعلًا من خلال الكدمات التي تتجلى على وجهه؛ يتحدث تارةً بفرح وتارة أخرى بلوعةٍ وحسرة، أحاديثه بدأت تسري في نفوسنا فتخفي أسرار جمال الطبيعة الخلابة في الخارج، يدير مقود السيارة بحذر للأمام ويسدد علينا من المرآة الأمامية نظرات غير مفهومة، فكأني لم أخرج من الحبس إلا قريبًا؛ هكذا استمر يتحدث وهو يكز على أسنانه- قلتُ ولماذا الحبس يا "نبي" قال في شرود: أنا متهم أنّي معارض للنظام فيما مضى وأخي الأكبر نُفذ في حقهِ حكم الإعدام لذات السبب- هذا الذي كنّا نتحذر منه يا أصدقاء، الحذر كل الحذر من الخوض في مثل هذه النقاشات لكنه أردف يقول بصوتٍ أجش به حشرجة تخفي طيف الابتسامة التي تتسلل علينا فجأة حينما نناظر جمال المناظر الخارجية في "كلاردشت" وهواءها العليل البارد والمنعش على وقع أصوات زخات المطر - هل تعرفون اللاعب الإيراني "علي كريمي"؛ هذه المرة كان الرد مني ومن لا يعرف علي كريمي وهو واحد من أفضل اللاعبين الذين مثلوا المنتخب الإيراني وأفضل اللاعبين في آسيا في الماضي وهو المحترف في نادي بايرن ميونخ الألماني، قاطعني "نبي" لم يترك لي المجال لأن أُكمل مداخلتي عن "كريمي" قائلًا: إنه أحد المطلوبين من النظام في الخارج رفقة عدد من اللاعبين الدوليين وهو على رأسهم بسبب آراءهم السياسية- كان الجو في الخارج باردًا وجبال البرز تكتسي بالأشجار الكثيفة والمطر بين الغزيز وخفف الغزارة؛ لا توجد أقدام بشرية تعبث في الخارج كما هو الحال في بلدان شرق آسيا حينما تهطل الأمطار أما الأبقار هنا تتحصن بالمسطحات الخضراء والطريق الذي سلكناه منذ قدومنا من مدينة "رامسر" إلى هذه السهول الخضراء في "كلاردشت" ذا مناظر طبيعية من الصعب تجاهل الطبيعة في هذه البقعة ومن الصعب الخوض في شيء يخالف اسمهما "الجنة المفقودة" دانة من الطبيعة لذلك علينا أنِّ لا نترك "نبي" يتحدث عن ماضيه فنحن الآن أمام لوحة من الطبيعة الربانية أتيناها ضيوف عابرين لساعاتٍ معدودة؛ قد نعود إليها وقد لا نعود؛ لذلك ليس من الملائم خدش هذه اللوحة بالحديث عن السياسة وما تخلفه السياسة وأثناء دخولنا ممر الغابات الكثيفة في طريق "عباس آباد" بين المنحدرات والمنعطفات؛ نستأنس قليلًا بتمعن في رؤية "بيوت الشاي" و "المطاعم المحلية" يأسرنا دخان اللحوم الطازجة والكيزان المشوي المتطاير في السماء ومن الجميل الذي لا يغيب عن الناظر التحديق بحب للأراجيح المتصلة بالأشجار الطويلة والمعمرة كنجمة ارتدت قمصان الشتاء- طلبنا من "نبي" أن لا يشغلنا بالسياسة وهمومها وأنَّ يختصر علينا عناء البحث عن مواقع قد تكون مناسبة لزيارتها في هذا الجو الماطر ونحن نعلم صعوبة ذلك فغزارة الأمطار في ازدياد وسيارة "نبي" من النوع الصغير ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنَّ السيارات الإيرانية تختلف عن السيارات التي نقودها في منطقة الخليج من ناحية قوة المحرك والعزم والمواصفات.
بدأنا نتنفس الهواء بملء صدورنا والشوارع غارقة بالماء لدرجة أنّك لا تستطيع رؤية الخارج- هذه كلاردشت يا أصدقاء قال "نبي" مردفًا سؤاله- من أين أنتم لم يخطر في خلد "نبي" سؤالنا من أين نحن إلّا في هذه اللحظة وقد استفتح حديثه بسرد ما يخصه دون الاكتراث أننا أتينا للسياحة فحسب وعدا ذلك كانت كل الأشياء الأخرى في ذيل القائمة في رحلتنا هذه وهذا أمر بالغ الأهمية في السفر ففي زياراتي السابقة عاهدت نفسي أنَّ لا أعير أمر السياسة أهمية ألبته؛ هذا من جانب والجانب الآخر لا أتحدث عن المذهبية وهي شأن لا يعنيني كذلك طالما أنّي أستطيع التنقل بحرية وأحظى باحترام وتقدير وأستطيع أنَّ أؤدي صلواتي المفروضة في أيِ مكان أرغب وللأهمية وبفضل الله تعالى في رحلتنا هذه كنّا نصلي صلواتنا المفروضة في المساجد سواء داخل المراكز التجارية أو في الخارج أو بالقرب من المواقع السياحية وتسمى عندهم باسم "نماز خانه" لم يتلكأ "ناصر" رد على وجه السرعة نحن من "سلطنة عُمان" أومأ "نبي" برأسه دلالة على أنَّه يعرف "السلطنة" مواصلًا حديثه يقصد "كلاردشت" عدد كثير منهم وهي من الوجهات المفضلة لديهم؛ خاصة العائلات التي تستهويها الطبيعة والأنهار والبرك المائية، لكن "ناصر" ألقى بسؤالٍ مليء بالدهشة عليه بنوع من الدعابة؛ كيف له أنَّ يحمل لقب "نبي" وهي كلمة مشتقة من اسم "النبي" وهو أرفع خلق الله، لم يفهم "نبي" السؤال وهو أمرٌ متوقع للغاية أمّا "نبي" هذا فيتمتع بشخصية مرحة ويمتاز بالطيبة وحسن التعامل- قال أنا من مدينة "رامسر" ومازندران هي المحافظة- ضحك قليلًا وبدأ يزفر دخان الضباب متمتمًا أنا أحب هذا المكان كثيرًا وأحب طبيعة بلدي أكثر من أي شيء آخر واصفًا إياها "جنة الله في الأرض" وأخذ يشير بسبابته إلى الطبيعة الغنّاء في الخارج يا سبحان الله كنا نشاطره الانطباع، كان صوته يتسرب إلى أذننا قويًا- عواطف مختلطة يطلقها "نبي"؛ هادرة ومكبوتة هل للطبيعة الخلابة دور لكلِ هذا البوح والروح المرحة التي يتمتع بها رغم كل الظروف التي مرت عليه وعلى أفراد أسرته؟
تناولنا وجبة الغداء في أحد المطاعم وهو يفضي للشارع ويقابله عدد من المطاعم والفنادق كانت الوجبة عبارة عن قطعة دجاج ورز بالزعفران وروب لكل منّا وهي وجبة شهيرة في الطبق الإيراني قلت: يا سبحان الله لكل دولة عاداتها وثقافتها وأسلوبها الخاص في المأكل والمشرب حتى في الطبق الذي يعرض على مائدة الطعام يختلف من دولة إلى دولة أخرى؛ أما في إيران إضافة إلى الكباب تنتشر هذه الوجبة في المطاعم والمنازل الإيرانية- طلب "نبي" غداؤه وطلبنا نحن قليل من الخبز "البربري" الشهير مع اللحم الطازج وبضع قطع من الدجاج.
قلتُ لـ "نبي" لم نرَ "كلاردشت" بعد مثل ما كنّا نسمعُ عنها والنهار شارف على الانتصاف وأنت تقول أنّها "جنة الله" في الأرض- كان رده سريعًا وصريحًا الأجواء الماطرة وأشار بكلتا يديه تاركًا مقود السيارة يطوح يمنةً ويسرةً؛ في اللحظة تلك دبّ الخوف في قلوبنا وسرى في دواخلنا شيء من الارتعاب والارتياع انجلى ذلك الشعور حينما طلب منّا النزول أمام مشهد جميل من الطبيعة كلوحة مرسومة بإتقان خلفها جبال مخضبة بالاخضرار تتلألأ على سطوع ضوء خفيف بدأ يكشف السماء الملبدة بالغيوم.
كنتُ حائرًا أتمتم بيني وبين نفسي ما الذي يدفعني لتصديق جمال "كلاردشت" من الذين يمكثون بها أيام وليالٍ وهل هو شعور المرتحل حقًا؛ لقد تنقلنا كثيرًا في الربوع الإيرانية؛ ركبنا سيارات الأجرة التقليدية والخاضعة تحت رحمة التطبيقات الالكترونية الحديثة؛ كما ركبنا الباصات السياحية واخترقنا الطرقات الملتوية التي تعبر بنا سلاسل جبال البرز ومشينا طويلًا في الممرات وخضنا الميادين والشوارع؛ بعد كل ذلك هل سيروق لنا البقاء هنا في "كلاردشت" والطبيعة هي ذاتها التي رأيناها وقد نراها في تطوافنا المستمر في المدن والحواضر والأرياف الإيرانية.
سدد "فهد" إليّ نظرات بعد انَّ مر سريعًا على معلومات تخص مدينة "كلاردشت" قائلًا: قرأت أنّها كانت فيما مضى تدعى "كلير" وكلمة كلير في الثقافة الفارسية تعني "الذئب والضفدع" مشيرًا إلى أنّه؛ أي هذا المكان هو عبارة عن سهل تتجمع به أنواع الضفادع ثم أضيف عليها كلمة "داشت" لتصبح بعد ذلك "كلاردشت" في الحقيقة كان "فهد" يقرأ علينا هذه المعلومات وقد عقب عليه "نبي" الأهالي هنا لا يستخدمون المراوح ولا المكيفات في بيوتهم بسبب الأجواء التي تمنحك الشعور بالبرد، أما الحياة فهي حياة ريفية وكما تشاهدون لا توجد هنا المجمعات التجارية ولا توجد الحياة المدنية التي تشاهدونها في العاصمة "طهران" على سبيل المثال؛ لذلك الباحث عن البساطة والهدوء والطبيعة عليه أن يأتي إلى هنا- تركنا "نبي" لوحده بعد أنَّ فرعنا من أداة صلاتيّ الظهر والعصر ونزلنا إلى قرية صغيرة بها بيوت قديمة؛ يخترقها نهر جارٍ به مياه صافية، أثناء تجولنا بين بيوت هذه القرية شاهدنا أحد الشيوخ الكبار يجلس في مقدمة أحد البيوت القديمة وهو بيت بسيط جدًا وتقليدي تستطيع أن ترى داخله وأنت تمضي بمحاذاته؛ أمامه قليل من الفواكه وقمر الدين، أما الأطفال فكانوا يلعبون ويمرحون في صحن البيت ويصدرون أصواتًا تعبر عن نشوة الفرح وفي داخل البيت النساء يقمن بإعداد الطعام وتبادل الأحاديث الجانبية، كما وجدنا بعض الحيوانات والدواجن تعيش معهم في نفس البيت؛ أما البيوت فأغلبها متداخلة بالكاد تستطيع التفريق بين البيت والآخر؛ لم نطرق الأبواب لكننا نبصر القريب والبعيد في هذه القرية الصغيرة الوادعة؛ لننهي جولتنا القصيرة مع "نبي" في "كلاردشت" كطيف بهي ونستمع لحكايات الطريق معه إلى "رامسر" كأوراق محبرة بالأنين.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام