في ماسولة نطوي آخر صفحات محافظة كيلان.
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

دخلنا بين الغابات الخضراء في محافظة كيلان في الشمال الإيراني يرافقنا الرذاذ المتطقع وتؤنسنا الخيول التي تقطع جنبات الطريق وهدهدات ندية عبقة بالمطر؛ بعد أنَّ أنهينا جولتنا في قلعة رودخان التاريخية واعدًا نفسي أن أمنحها مزيدًا من الوقت في قادم الأيام إن شاءت الظروف وسنحت الفرص؛ فأمامنا ستًا وأربعون كيلو مترًا وهي المسافة التي نلملم فيها ما تبقى من وقت قبل الوصول إلى قرية "ماسولة" الساكنة تحت سفوح جبال طالش؛ طالبين من السائق الإسراع ونحن نعلم أنَه أحرص منّا للوصول في أسرع وقت ولم نشأ أنَّ نسأله عن السبب وراء ذلك؛ لإدراكنا أنَّ أمامه التزامات أسرية تحتم عليه العودة باكرًا وبفضول المستكشف والنرجسية الساكنة في المسافر الباحث عن تفاصيل الجمال دون إعارة لأهمية الوقت للآخر، خيّم الصمت في أرجاء السيارة في حين بدأ "ناصر" يمطرنا بأسئلته عن سر كثرة السياح العراقيين في مدن وأرياف إيران في بلد مليء بالظواهر والأسرار التي يصعب علينا عدّها وحصرها في زيارة عابرة.
قاطعته بعد أنَّ تبادلنا نظرات سريعة دون أنَّ ينبس أحدنا ببنت شفة ضاغطًا على محرك البحث؛ مبصرًا أغنية الروح والحنجرة وهي القادمة من مدينة "المسيب" عروس الفرات العراقية بصوت المطرب "ناظم الغزالي" مذعنين للصوت والكلمة- "ميحانه ميحانه.. ميحانه ميحانه.. غابت الشمس وللحين ما جانه.. حيك حيك يابه حيك.. ألف رحمة على بيك.. هذوله العذبوني.. هذوله المرمروني.. وعلى جسر المسيب سيبوني.. هز السائق رأسه مذعنًا رغم عدم فهمه للكلمات؛ لربما شده الصوت الخارج من المحيط لناظم الغزالي الذي تسرب ذات زمن إلى البيوت العُمانية في ذاكرة الآباء والأجداد، هذا الصوت والنغم العراقي الأصيل رافقنا الطريق في تطوافنا هذا فألزمنا الصمت والترنم طربًا لنبوح بأسرار الفن خلف الغابات وبين الطرقات؛ لقد صال وجال بنا ناظم بصوته الأصيل؛ كما نتجول نحن بين الرحاب الإيرانية لنواصل السير نحو قدر آخر كنورس يحلق بأريحية، لوح لنا السائق بالوصول ولم يطلب منّا الإسراع في إنهاء الجولة بين جنبات قرية "ماسولة" قائلًا سأنتظركم في الجوار في ساحة مخصصة للسيارات، وملامح وجهه السعيدة تخفي هدهدة حزن لا نعلمها.
في الحقيقة كان الصديق "فهد" يطلب منا أنَّ ننهي جولتنا هذه قبل أنَّ يعبث الليل بخيوط النهار وقبل البدء في الدخول إلى القرية قال "ناصر" نحتاج بضع دقائق من الوقت لنغتسل ونبدأ صفحة جديدة ننهي فيها المشاهد السابقة فالواضح أنَّ أمامنا ما يدعو للإدهاش في هذه القرية.
بحق السماء توقفوا؛ قلت للأصدقاء أن يتمهلوا قليلًا عند هذا المنظر الخلاب في تلويحة عجولة وقد أشرت في معرض حديثي ونحن نمرق الطرقات أنّها غارقة تحت الضباب؛ قررنا الدخول للمدخل المفضي للقرية فإذا بمجموعة نساء إيرانيات لا يرتدين اللبس التقليدي وهو السائد في مثل هذه الأماكن، يقفن على قارعة الطريق أمامهن لوحة دعائية لنزل إقامة- هرع "ناصر" و "فهد" على مشهد آخر وهو نهر جارٍ يسمى نهر "خان" وهو ذات النهر الذي رافقنا الطبيعة في قلعة رودخان قبل مجيئنا إلى ماسولة، يخترق هذا النهر القرية وصوت مياهه يصدح في الأرجاء وعلى مسندٍ خشبي رأيت الأصدقاء يلتقطون الصور الضوئية؛ فيما بدأتُ أخوض حديث عابر مع فتاة عامرة بالفرح ذات وجهٍ بشوش تعتمر قبعة من الصوف، تقتات ألوان الفرح في يومها من الحصول على زبائن للإقامة ليلة أو ليلتان في نزل تعمل به، استأذنتها أنَّ أشارك أصدقائي الصور التذكارية مبينًا لها أننا في رحلتنا هذه مرتبطين بكلِ شيء حتى في أدق التفاصيل ولربما نأتي ذات وقت لنقيم معكم ليلة نخلدها في ذاكرة المكان والزمان.
يمرُ الناس أمامنا ومن حولنا جمع من الإيرانيين مشغولين بحياتهم ومن اللافت أنّهم لا يركزون كثيرًا فيك وأنت بينهم؛ احترامًا لحريتك الشخصية في التحرك وقد تلاحظ اتجاه أحدهم ناحيتك لكنه لا يعترضك وهي ظاهرة عامة في إيران- في الحقيقة نحن نميل إلى هذا النوع من التعامل من مبدأ الخصوصية وحرية التحرك وأريحية التأمل والتناغم مع الناس والطبيعة؛ لأننا فضلنا ذلك قبل أنَّ نحزم أمتعتنا من مسقط رأسنا في محافظة مسقط في سلطنة عُمان وأعيد أن ضمن أولوياتنا في رحلتنا هذه أنَّ لا يخفرنا أحد من المترجمين ولا المرشدين السياحيين؛ نعم، نحن نشتري حريتنا في كل شيء وهذا لا ينفي احترامنا لكل رأي أو توجه أو دماثة خلق الكثيرين من المترجمين الذين تعاملنا معهم في زياراتنا السابقة المقتصرة على شيراز مركز إقليم فارس، ففي السلطنة مثلًا الناس يتعاملون بنفس الطريقة ويهبون لمساعدتك حال طلبتهم ذلك وقد يضيفونك في منزلهم الخاص ويعدونك كأحد أفراد عائلتهم فأنت في ضيافتهم أمّا المرشدين السياحيين وسائقي سيارات الأجرة فطباعهم في التعامل تشوبها المادة وأنت بالنسبة لهم عملة مالية في جيبهم.
أما قرية "ماسولة" هذه فقد خصها الله بالجمال الطبيعي؛ كما أنّها تحكي قصص التاريخ بين جنباتها؛ حيث أنَّ وكالة الأنباء والتراث الثقافي وحماية البيئة في إيران عدّتها أول مدينة حية في البلاد وأدرجت لاحقًا إلى قائمة التراث الوطني الإيراني منذ 30 أغسطس 1975 كموقع تراث عالمي ويعود تاريخ قرية "ماسولة" بحسب المصادر إلى ثمانمائة إلى ألف عام. وتجلى التاريخ في النظام العمراني للبيوت التي استغلها البعض لإقامة السيّاح ومطاعم تقدم المأكولات الإيرانية.
صعدنا بادئ ذي بدء على درج وهي ليست سمة جديدة على إيران فخلال زياراتنا لبعض القرى الإيرانية التي تتشابه مع طبيعة "ماسولة" يُلحظ وجود مثل هذه الدرج في أغلب المواقع أمّا البيوت هنا فهي مبنية على أكناف الجبال وقد حافظت على مكنونها الريفي وطبائع أناسها أما الاختلاف بين الزمنين في الملابس وقد شاهدنا أحدهم يقوم بتصوير فتاة غاية في الجمال على حواف أحد البيوت بزيها التقليدي الإيراني المطرز بالألوان والألوان هذه تدل على الروح والحيوية وهي مزيج من ألوان مختلفة تدل على عمق جذور الثقافة والتراث الإيراني وأثناء قربنا من البيوت شاهدنا الأهالي يخرجون من البيوت المتلاصقة ويمارسون حياتهم اليومية على الرغم من كثافة الحركة السياحية ووجود غرباء بينهم لكنهم لا يكترثون؛ بخلاف ملّاك النزل والباعة.
تفرقنا ومثل أي المواقع التي زرناها سابقًا فلكل منا زاويته التي يفضلها في مثل هذه الأماكن أما أنا تستفزني الجبال الخضراء ومشهد الضباب في الأعالي وعلى حواف البيوت القديمة، وثبت على درج مفضي لبازار قديم وأمام هذا المشهد فضلت إشراك الأصدقاء "ناصر" و "فهد" في هذه الجولة في هذا السوق وهو شبيه بسوق وكيل في شيراز، فصعدنا أحد المباني القديمة وهو مبنى معشق بالخشب وقد استغل مطعمًا وهو محاط بأنواع الشجيرات والمزهريات الملونة؛ يتخللها أضواء متناغمة؛ أما الجلسات فهي مطلة على جلسات ومنازل في الأسفل والأدخنة تتعانق مع الضباب وفي هذه الجلسات في هذا المطعم تتكشف لك سلسلة جبال طالش المكسية باللون الأخضر ونهر خان" والباعة والناس؛ من مقيمين وزائرين الذين تعبث أقدامهم بين السكيك والأزقة والمحال التجارية والزخارف والمزهريات. كما وجدنا حرص الأهالي على بناء غرف شتوية منفصلة خلف بيوتهم القديمة بجدران من الطين يستعملونها عندما تشتد عليهم البرودة ويبدأ الثلج في التساقط وهذا البناء شيده السكان أنفسهم والمواد المستخدمة ونوعية البناء متوافقة مع البيئة والمناخ وحياة الناس.
ومن المظاهر التي ألقينا عليها نظرة وجود كيس خبز في حائط أمام أحد صناديق القمامة وهي ثقافة إيرانية فالإيرانيون عندما يرون قطعة خبز في الأرض يلتقطونها ويضعونها في كيس ويعلق الكيس على حائط ويقبلونها؛ لأنهم يؤمنون أنّها بركة من الله.
كما أنَّ رائحة الدخان المنبعثة من المطاعم وكأنها تختلط برائحة الطين فما أشبه هذه الحياة بالحياة اليومية للأسواق العُمانية فيما مضى إلا أنَّ إيران في الحقيقة استطاعت المواءمة بين الزمنين والمستقبل وقبل انتهاء الجولة في قرية ماسولة" قررنا إسكات قرقرة البطون بقليل من الأطعمة الإيرانية التقليدية فوقع اختياري على وجبة (غورميه سابزي) المكونة من اللحم وخليط من الخضار المتبل والبصل والكزبرة وشاي مع عود سكر إيراني بالزعفران والأخير منتشر بصورة لافتة في إيران ويقدم في الفنادق والمطاعم والبازارات.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام