من مدينة فومن إلى قلعة رودخان نتدثر بالمظلات ونرسل رسائل مع حفيف الأشجار.


يوميات مسافر إلى إيران
🇮🇷
يحيى المعشري
✍️
على مائدة الإفطار في فندق "الكوثر" بدأنا نعدُ العدة للتجربة القادمة وهي زيارة موقعين سياحيين قرأنا عنهما أنّهما وجهتان لهما محبيهما ومريديهما وتختلف فيهما طرائق التعامل والتحرك من نشاطٍ إلى آخر وهما قلعة رودخان التاريخية وقرية ماسولة التي تسكن تحت الضباب، هذا من جانب والجانب الآخر والأهم بالنسبة لنا في جولتنا هذه في الرحاب الإيرانية بدون مترجم أنَّ نتفق مع سائق يقلنا إلى الوجهتين إن كانتا بالقرب من بعضهما البعض؛ لجأنا بعد أنِّ قضينا ساعات الصباح الأولى نتجول بميدان ولي عصر، نعم لربما هو اتفاق أجمعنا عليه بصفة غير رسمية وهو التوجه للميادين حيث نرى الناس بمختلف أصنافهم وأمزجتهم ومشاربهم ولغاتهم.
أما ميدان ولي عصر هذا فهو لا يختلف عن بقية الميادين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلا من حيث صغر المساحة والبشر الذين يحجون إليه كل يوم؛ لكن أهميته تكمن في التواصل البشري اليومي وهو دأب بقية الميادين.
في الحقيقة الناس هنا يخرجون ليلًا ونهارا والسيارات تجدها في كل مكان والمحال التجارية تنشط نهارًا وتهجع في الهزيع الأخير من الليل عدا المطاعم ومواقع شي اللحوم وأكشاك العصائر والآيسكريم؛ بعدها احتسينا قهوتنا الصباحية في أحد المقاهي في الجوار؛ لنبدأ عملية البحث مجددًا؛ لم يدرك البعض متعة البحث وسبر أغوار الشوارع والمشي بين الأبنية أنّها جولة أخرى غير مخطط لها في أجواء ربيعية لطيفة وفيها تفكر وتأمل في المحيطين وتدبر في هندسة الشوارع والبنيان والمماشي الصحية وما أكثرها، بالقرب من ساحة تقف بها سيارات أجرة اتفقنا مع أحدهم على زيارة الموقعين، ونحمد الله أنّه وافقنا على شروطنا التي بدأ "فهد" يدلقها عليه بإيماءات وتلويح على الصور في الورقة التي حصلنا عليها من الفندق؛ أما السائق فهو في نهاية العقد الرابع من العمر ومن محاسن الصدف أنَّه أصبح رفيق المشاوير في جولة قادمة ومهمة في رحلتنا هذه في الشمال الإيراني في محافظة كيلان.
السائق هذا بدا هادئ الطباع ويمتاز بميزة الصبر ولا يعبأ كثيرًا بالوقت في المواقع التي سنزورها وتجلت لنا تلك السمات في هذا الشاب من خلال التجربة في حينها تذكرت قول مأثور حفظته ذات زمن للإمام علي بن أبي طالب "الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها التجارب". الناس بالأفعال والمواقف يا أصدقائي وهذا بالضبط ما حصل معنا رفقة هذا الشاب الطيب الخلوق في جولاتنا معه إلا أنَّه لا يجيد غير التحدث بلغة قومه.
عاجلًا انطلق بنا السائق إلى قلعة "رودخان" وتبعد القلعة بحسب محركات البحث عن مركز مدينة "فومن" قرابة أربعون دقيقة بالسيارة- قاطعًا بنا مسافة عشرون كيلومترًا جنوب غرب المدينة ذاتها، ما أثار إعجابي ودهشتي أنَّ هذا السائق لا يتحدث إلا حينما نبدأ الحديث معه؛ مبتسم وتبدو على وجهه أمارات الرضا؛ هكذا كنت أتمتم بيني وبين نفسي، فيما الأصدقاء "ناصر" و "فهد" كانا مشغولان بالمناظر الخارجية، ما أجملها من مناظر هذه قال "ناصر": لقد أدركنا الوقت ونحن نمعن في الخارج؛ فالطبيعة آسرة والسماء ترافقها الغيوم والرذاذ يتسلل بين الفينة والأخرى من بين ثقوب نوافذ السيارة؛ ويزهو بأناقة بين الأشجار وعلى الطرقات- كم تمنيت أنَّ يطول بنا الوقت ونحن نطوي الطرقات مع هذا السائق اللطيف وهو شعورٌ مؤكد أنّه ينافي رغباته؛ لربما لديه موعدًا لشراء هدية لابنته أو طفله حال عودته نهاية اليوم أو لديه مهمة شراء أدوية لكبير سن لديه في المنزل وعلى مشارف الدخول إلى بداية معقل قلعة "رودخان" توجد بوابة قديمة بنيت من الحجر ومواد أخرى تجدها في غالبية الأبنية في إيران- لم نعلم عن هذه القلعة عدا أنِّها قلعة عسكرية تاريخية قديمة تنتمي للعصر الساساني وقت الغزو لإيران وأعيد بناؤها خلال فترة العهد السلجوقي وبها عدد من الأبراج والتحصينات وهي واحدة من أكبر القلاع التاريخية في إيران، كما توجد بها آثار وطنية نفيسة مؤكد أنّها شاهدة على تلك الحقبة الزمنية وهي لسان حال تلكم الأقوام في محافظة كيلان في شمال إيران. ولأن القلعة تقع في "فومن" تكمن أهميتها أن فومن هذه كانت في العصور السالفة عاصمة للحكومات المتعاقبة في كيلان؛ كما أنَّ ثكنة هذه القلعة بنيت بطريقة خاصة تشرف على جميع الجهات المحيطة بها ويبلغ طولها (5) كيلومترات وعرضها يتراوح ما بين (10 و 50) مترًا، أمّا التحصينات فهي مثل تحصينات الأبراج والقلاع والحصون في السلطنة مع الاختلاف في بعض الجوانب الهندسية والمكانة التاريخية، إن كنتَ زائرًا وعابرًا مثلنا فنظرتك للقلعة تختلف مليًا عن المنقب عن الموقع الاستراتيجي للقلعة المحاطة بالأشجار الكثيفة ونبوغ التصميم والمعماري.
على مفترق طرق وقبل أنَّ نبدأ رحلة صعود الدرج إلى أعلى القلعة يوجد بازار قلعة "رودخان" وأكشاك منتشرة على الجانبين تبيع الهدايا والحرف اليدوية والأطعمة المحلية وبأسلوبٍ محترم في طريقة عرض بضائعهم يستقبلك الباعة بلطفٍ ورقي وبما أنَّ السماء بدأت تمطر تحتم علينا شراء مظلات مطر/ أو غطاء بلاستيكي وقد شاهدنا كثيرين يلبسونه أما أنا فوقع اختياري على مظلة المطر وكذا الصديقين "فهد" و "ناصر"؛ فيما شاهدنا آخرون فضلوا ارتداء الغطاء البلاستيكي ليكون رفيق الألف درج صعودًا والعودة في ذات المسافة وبين الجهدين نلتقط أنفاسنا في رحلة الشهيق والزفير وبين المسافة والأخرى وجدنا الصغار والكبار الذين أجهدهم عناء الصعود والنزول وأتعبتهم المشاوير وبعضهم أتوا مع جماعات وعائلات ومنهم من راهن عشيقته أننا نستطيع أن نخوض هذه التجربة لتتلألأ جداول قلوبهم حبًا وغرامًا مدركين أنَّ رحلتهم في الحياة شاقة كهذه الرحلة إلى أعالي قلعة "رودخان".
بدأنا نذرع أروقة قلعة "رودخان" بعد مدة زمنية ليست قصيرة؛ وفي القمة نسينا المسافة ورحلة الألف درج؛ مستفكرين في القيمة الهندسية والاستراتيجية لهذه القلعة على هذا الارتفاع في حين تحيط بها الغابات والأشجار الوارفة الظلال من كل الاتجاهات وزخات المطر تربت علينا باستحياء، كما يجاورها نهر "راخن" الذي ترافقك أصوات مياهه في رحلة الصعود والعودة، أما القلعة فاسمها مشتق من النهر ويطلق عليها المحليون كذلك اسم قلعة "الألف درجة" قضينا نتجول بين أروقتها وبين عظمة التاريخ والحوارات والإيماءات مع من نلتقيهم من الإيرانيين يدلقون علينا التحية حينما تلتقي الوجوه بالوجوه بعبارة "سلام" وهذه العبارة تسمعها كثيرًا في كل مكان، رحنا نتجول بداخل القلعة قرابة ساعتين ونصف من الزمان تهنا كغيرنا في أروقة القلعة بين صعودٍ ونزول؛ ولأن الأرضية زلقة تعاملنا معها بحذر مغبة الوقوع لا سمح الله، وعلى مداخل بوابات القلعة توجد غرف يحرسها السجّان وممرات كانت فيما مضى لها استخداماتها ولها أهميتها التاريخية؛ قال "ناصر" مستهلًا حديثه يا سبحان الله استخدامات القلاع هنا تتشابه مع استخداماتها معنا في سلطنة عُمان بينما طريقة البنيات مختلفة تمامًا، وفي إحدى القمم على صحن مائل كالكرة الأرضية؛ يتسلل عشاق الضوء لالتقاط صور تذكارية بحذر؛ نعم في هذه القمة يجب أنِّ تتعامل بحذر ولا تغتر بما تخرجه العدسة من صور تخلدها في أرشيف رحلتك هذه؛ لقد طال بنا الوقت في محطتنا الأخيرة في هذه القمة، فأومأ "فهد" قائلًا هيا بنا نعود لكي لا يدركنا الوقت فأمامنا مشوار آخر لا يقل أهمية عن هذا المكان وفي الأسفل قررنا المرور على غرفة بها ترتدي النسوة الزي التقليدي وفيه يبحن النساء بأسرار العشاق على أنغام الإيقاعات الإيرانية التي ترافقنا في هذه الغرف؛ قبلها أخذنا الفضول وسط هذه الغابة والأجواء الربيعية والرذاذ والنهر الجاري باحتساء الشاي والقهوة بعض الوقت لإشباع فضولنا متناسين السائق المسكين الذي وجدناه في انتظارنا فلوح بكفه قائلًا بحبور: السيارة هناك قبل أنَّ نهمس في أذنه أن يرافقنا تكملة المشوار لهذا اليوم حتى لا تتزاحم علينا عقارب الساعة وعلى مسافة ساعة وربع الساعة رأينا غابات تتوارى في البعيد وتبوح بأسرار الظلال فانطلقنا نخترق الطرقات بين الأشجار المخضبة بالاخضرار فيما لمحنا المحليون يحملون لوائح في أياديهم وهي لوائح إيجارات السكن في الأرياف، فأمامنا ستة وأربعون كيلو مترًا ومشهد جديد في قرية قادمة اسمها "ماسولة"؛ لنصحبكم معنا إلى شرق جبال طالش؛ نبعثر الخطوات بين جنباتها؛ كأقدام مرحة لا تبعثرها الرياح.






















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر