في شوارع مدينة "فومن" الإيرانية نمشي فوق الظل ونعبث ببتلات الياسمين.
يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري

عبثًا باءت جل محاولاتنا للحصول على فندق لنقيم به ليلةً واحدة على الأقل في مدينة رشت بالفشل، هكذا بدأ يهمس "فهد" لكن كنتُ أرفض هذه الكلمة وهي خارج نطاق قاموسي في الحياة؛ لنقل لم يحالفنا التوفيق أو لم يقف بجانبنا هذه المرة وسيأتينا زحفًا وحبوًا في المرات القادمة، فارتمينا في إحدى سيارات الأجرة بعد أنَّ تناولنا غداءنا في منطقة "المنظرية" في مطعم محرّم "روستران برزكـ محرّم" وهو مطعم قديم وبحسب محركات البحث يعود إلى أكثر من خمسين عامًا ويقدم وجبات إيرانية شهية تقليدية بمختلف أنواعها وتصنيفاتها ويرتبط الناس بهذا المطعم ارتباطًا وثيقًا وتجلى ذلك من خلال الزحف الغفير من الإيرانيين على هذا المطعم؛ غالبيتهم من العائلات، بعد ذلك أدّينا صلواتنا المفروضة "الظهر والعصر"؛ وفي الخارج تنتشر روائح الياسمين ويبدو أنَّ زراعة الورد والياسمين في "رشت" وعموم "إيران" سمة رائجة؛ لأهميتها في تحقيق التهدئة النفسية وتحسين المزاج؛ إنَّها رائحة زكية يا أصدقاء هلمّوا لنأخذ قليل من الوقت لنشتم عبق الياسمين بعد وجبة غداء دسمة؛ لننتقل بعد ذلك إلى أحضان مدينة "فومن"؛ حتى لا يدركنا المساء وهي الأخرى إحدى مدن محافظة كيلان التي تستقطب عددًا كبيرًا من السيّاح، لم نكن نعلم عنها عدا أنّها ضمن نصائح الإقامة من تجارب بعض الزائرين قبل قرار مجيئنا إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهي اقتراح أحد المقيمين من الجنسية العربية الذي التقينا به في العاصمة الإيرانية طهران، محطتنا الأولى في هذه الرحلة وهو يعمل في مجال السياحة والإرشاد ولأننا نأخذ بالاقتراحات وهي مطلب؛ لكنها ليست حتمية التنفيذ؛ لأن الظروف تختلف والرغبات والأمزجة في مكان الإقامة لا يمكن أنَّ نتوافق عليها جميعًا.
شارفت الساعة على الرابعة والنصف عصرًا وقبل الدخول إلى مدينة "فومن" طالعتنا أشجار ظليلة على طريقٍ ممتد في مشهدٍ يشرح الصدر وترق له الأنفس، لقد كان مشهد الأشجار من الجانبين غاية في الجمال ودعوة مبدئية لهدوء النفس والشعور بالاسترخاء والراحة والاستئناس مع الطبيعة، اخترقنا جزءًا منها قبل أنَّ نلمح فندق "الكوثر" جهة اليمين وهو أحد الفنادق المنتشرة في ربوع إيران وقد شاهدناه في طريقنا من طهران إلى مدينة رامسر قبل أيام؛ طلبتُ من السائق الوقوف جانبًا؛ باشرت السؤال عن الإقامة به كانت أغلب الغرف والأجنحة فارغة من السكان؛ فحمدنا الله على ذلك واتفقنا على الإقامة به ثلاث أيام بلياليها فانطفأ فتيل البحث المتكرر في مدينة "رشت" واشتعلت شمعة البقاء هنا في مدينة "فومن"- وهي مدينة جميلة تتبع محافظة كيلان وتبعد عن مدينة رشت بـ (25) كيلو مترًا، وعُرفت منذ القدم بطبيعتها الخلابة والفريدة وتتميز إضافة إلى جمال طبيعتها بالتماثيل المتنوعة والمباني القديمة التي ترسم بين جنباتها عراقة المدينة وتناسق وتناغم الطبيعة مع حياة الناس واستغلال الميادين والدوارات بها لتنسجم مع الحياة اليومية للناس؛ كخاطرة حلم وقصيدة بين دفتي كتاب، فقد شاهدنا ميدان "ولي عصر" في وسط المدينة كيف يستقطب كبار السن وفيه جلسات مخصصة للرجال وأخرى للنساء وغالبيتهم من فئة كبار السن؛ كما شدتنا الأماكن المقدسة وهي ملاذ للعديد من الزائرين والأضرحة التي تحظى بزيارات المقيمين والقادمين من الخارج.
في أحد المقاهي في شارع "بن بست شهيد أحمد" على طريق تقابله إحدى الحدائق التي تقام فيها الفعاليات والمناسبات الدينية كنّا نشرب شراب "آب هويج بستني" وهو عصير الجزر بالآيسكريم، تارة ندخل محركات البحث بحثًا عن الجديد في هذه المدينة وتارةً أخرى نمعن النظر في الناس وحركة البيع والشراء؛ شخصيًا أنظر بلهفة وغيرة في جموع من الناس يلتفون على بائع الكتب على طاولة طويلة في زاوية- أشعر برغبة عارمة لاقتناء الكتب لولا أنَّها باللغة الفارسية، في المقهى هذا التقينا بمجموعة من الشباب العراقيين وهم شباب في غاية الرقي والاحترام تبادلنا أطراف الحديث قليلًا فأجمعوا على أنِّ مدينة "فومن" أو محافظة كيلان أجمع لا تعتبر وجهة سياحية رائجة لدينا في المنطقة ولا تقع ضمن قوائم شركات السياحة بخلاف محافظة مازندران ومدنها وأريافها التي لاقت رواجًا كبيرًا عندنا- على الرغم أنّها "جنة الله في الأرض" هكذا كانوا يصفونها لجمالها الأخاذ وطبيعة مناطقها وأجوائها اللطيفة والباردة شتاءً وفي الربيع هذا الذي اخترناه، أومأنا إيجابًا كانت بضع دقائق؛ حوارات، مناقشات وملاطفات وأسرار حكايات عابرة لفظتها الغربة وأحذية نهرول سريعًا وأخرى متعبة تتعثر عند أقرب رصيف؛ تبين لاحقًا أنّهم أتوا للدراسة في إيران وآخرون أتوا زائرين كالعديد من السيّاح العراقيين الذين رأيناهم في الفنادق التي أقمنا بها وأثناء جلسات المطاعم والمقاهي وفي الأماكن السياحية والمزارات المقدسة والدينية.
السماء تبدو ملبدة بالغيوم في الخارج والشرفة تناظر المزارع والأشجار الوارفة الظلال وتحت ديمة مطر تعبث أقدامنا بالطرقات وقد يهطل المطر قريبًا هكذا كان يتمتم "ناصر" فقررنا أنَّ نستحم بعد ذلك نتوجه إلى أقرب مطعم في الجوار وفي المساء بعد أنَّ نعود نطلب من القائمين على الفندق إخبارنا بأهم الأماكن السياحية التي تسترعي السياح عادةً- وقعت عينا "ناصر" على ورقة بيضاء بها صور لأماكن سياحية موضح بها الأماكن السياحية فاخترنا قلعة "رودخان" و "ماسولة" قلت للأصدقاء بما أننا لم نضع برنامجًا سياحيًا للغد وبما أننا ثلاثة شباب جمعتنا إيران لغاية واحدة وهي البحث والاستكشاف، قال "ناصر" أهمها المشي وهو الذي أحب إيران كثيرًا لأنها تصلح للمشي كثيرًا وهي رياضته المفضلة في ولاية "بوشر" إحدى ولايات العاصمة العُمانية مسقط؛ عقّب "فهد" قائلًا: أنا كذلك وجدت ضالتي في إيران منذ سنوات؛ فقد زرتها أكثر من مرة؛ لقد زرت شيراز والأهواز ومقاطعة سبيدان وكنت يوميًا أحرص على المشي لمسافات طويلة وهي رياضتي المفضلة في ولاية "قريات" مقر إقامتي ومولدي وهي إحدى ولايات العاصمة العُمانية مسقط كذلك؛ يتخذ "فهد" من ساحل "قريات" مكانًا للمشي اليومي بعد عودته من العمل وفي الإجازة- قهقهت وهتفت ضاحكًا يبدو أنّي الضحية الوحيدة في هذه المجموعة يا أصدقاء؛ كانت دعابة ألقيتها في غرفة الفندق قبل أنَّ نخلد للنوم وهم يعلمون تمام العلم شغفي بالرياضة ورياضة المشي شغفي في الأسفار أينما حللت وارتحلت؛ متأبطًا رواية "ليالي السهاد" للكاتب "نجيب الكيلاني" قلت لا بأس أنَّ أحكي للأصدقاء قليل من تفاصيل هذه الرواية وما تحويه من مضامين فالسفر ليس نزهة واستكشاف الخارج فحسب وطبيعة وأناس تدهشهم الحياة اليومية؛ قد نحتاج إلى اكتشاف ذواتنا وما نملك من مكنونات وهناك أوقات كثيرة بالإمكان أنِّ نقرأ فيها متى ما سنحت الفرصة وشاءت الظروف فالقراءة تزيل الحواجز الزمانية والمكانية وهي سفر آخر إلى عوالم لم تطأها أقدامنا كحقول الياسمين وبتلات الورود في الحدائق الإيرانية؛ معقبًا للأصدقاء الرواية هذه اجتماعية وسياسية؛ ترصد حياة المواطن العربي الذي يتعرض للاعتقالات في بلده كما أنّها تسبر أغوار ما يعتري الأنظمة والحكومات من فساد- في ذلك الوقت قد وصلت إلى آخر سطور الرواية "آه.. لأول مرة منذ سنين أنام قرير العين دون سهاد.. ترى، هل ذهبت ليالي السهاد إلى غير رجعة؟؟
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام