من بحيرة كيتغر إلى باغ كتاب- طهران

يوميات مسافر إلى إيران

يحيى المعشري
✍️
كمن تنبه على حين غرة؛ كمن تملكته القدرة على التكيف مع الأوضاع الحالية فقد اعتدنا عملية البحث حيث خرجنا من "مول إيران" من البوابة الرئيسة- بدت الأجواء صافية لكنها لا زالت تحافظ على برودة أجواء الربيع؛ بدأ "ناصر" يلوح بكلتا يديه لأي سيارة أجرة تقلنا إلى وجهتنا القادمة وهي "بحيرة جيتغر" بعد ذلك إلى "باغ كتاب" كما كان مخططنا والأخيرة كانت بإيعاز مني أرجو أن تمر على الأصدقاء كفصول الرواية التي تشاكس الأبطال؛ أحد الرجال الإيرانيين يلوح من كابينة الاستعلام؛ كان يعطينا إشارةً أنه علينا سلك الطريق المفضي للشارع الخارجي وهناك توجد سيارات أجرة ففضلنا استخدام تطبيق "سناب" استخدمناه قليلًا للتنقل في مدن وحواضر إيران، بضع دقائق وإذا بالسائق يصطف بجانبنا؛ كان رجلًا خمسيني العمر، غطّى البياض شعر رأسه، ذا بنية جسدية أنيقة وهندام لا يوحي أنّه سائق سيارة أجرة، طوينا الدروب معه في طريقٍ ملتوٍ؛ بضع دقائق وإذا نحن على مشارف الوصول؛ يبدو أن البحيرة قريبة من موقعنا الحالي جدًا هكذا علق "فهد" ووشوش في أذن "ناصر"؛ إنها الأرزاق يا سادة هكذا اندلقت مني عبارة سريعة، وصلنا ساحة مليئة بالسيارات أنزلنا السائق على عجلة من أمره قائلًا: تلك هي "بحيرة جيتغر"؛ تركنا ومضى والناس يتلفتون حوله؛ يروحون ويجيئون ولا يهتم إنسان بالآخر، يممنا وجوهنا شطر جمع من الإيرانيين قبالة أحد المقاهي يتبادلون أطراف الحديث؛ وقبل أنَّ نذرع البحيرة علينا أن نتعرف على معلومات بسيطة عنها، هكذا قال فهد: فدسست أصابعي على متصفح البحث للحصول على معلومات قليلة عن البحيرة، ها نحن نرنو على بعد خطوات من بحيرة "جيتغر" وهي بحيرة اصطناعية تتشابه مع بحيرة "نوهور" في ريف جابالا بأذربيجان والتي زرتها قبل سنوات؛ أما بحيرة جيتغر فهي تقع غرب العاصمة الإيرانية طهران وتبلغ مساحتها 130 هكتارًا وهي واحدة من أهم المعالم السياحية التي تجمع بين الطبيعة والترفيه؛ توقفت عن القراءة عند هذا الحد؛ لنقرأ البحيرة من أرضِ الواقع فإذا بجموعٍ بشرية يجلسون على الحشائش ومن اللافت أنَّ أشير إلى أن العائلات الإيرانية هنا يجتمعون في مكانٍ واحد؛ الرجال في زاوية والنساء وأطفالهن وبقية الصغار يجلسون في زاويةٍ أخرى وقد تجمعهم جلسات تناول الطعام والمشروبات، فيما رأينا الرجال في العائلات يعدّون اللحم للشوي وتعرف هذه النوعية من الجلسات بالكشتات؛ في السماء أقبلت إحدى طائرات الهليكوبتر في البداية لم نتعرف على سبب وجودها فيما بدأ من يجلسون على حواف البحيرة بالتصوير؛ بيد أنَّ هذه اللحظة بالنسبة لنا هي من اللحظات التي فضلنا استغلالها بالمشي وحضور الفعاليات التي تقام على الممرات فقد تبين أن الطائرة تقوم بعملية تدريبية لأفرادٍ في مجال السلامة والإنقاذ وليس كما ظن "فهد" أنها مسوحات أمنية تقام بين الفينة والأخرى في الأماكن العامة؛ دارت عقارب الساعة وبدأ المحليون والسياح يتوافدون على البحيرة لقضاء أوقاتٍ ممتعة فيما آخرون يستمتعون بركوب قوارب التجديف واستئجار الدراجات المائية؛ أما نحن ففضلنا المشي والاستلقاء في المساحات الخضراء المحيطة وحضور الفعاليات المصاحبة قبل أن يحين موعد انصرافنا فأمامنا زيارة قادمة لا تقل أهمية عن بقية المواقع السياحية والثقافية وهي "باغ كتاب" أو حديقة الكتب، انغمسنا في عملية البحث عن سيارة أجرة في الساحة الخارجية قبالة "بحيرة كيتغر"؛ فنحن لا نعرف عن هذه الحديقة عدا أنّها حديقة توجد في العاصمة الإيرانية "طهران" وبعض الأجوبة التي تلقيانها أثناء الأسئلة التي كنا نلقيها على بعض سائقي سيارات الأجرة الذين أقلونا في جولتنا هذه وما أكثرهم، دنونا من أحد الشوارع بعد جولة مشي دامت زهاء خمسة عشر دقيقة؛ كمن يسبح في بحرٍ لا يعرف نهايته ولا مداه، العالم الواسع من حولنا يضيق أمام رحلة البحث المستمر هذه؛ فالوقت يداهمنا ونحن نستمع إلى قرقعة البطون التي تشتهي الأكل في هذه اللحظة، كثيرة هي الأشياء في جعبتنا التي لا نرغب التصريح عنها لكنها حقيقة تلوح أمامنا كما تلوح في سماء السلطنة الصافية أشعة الشمس الحارقة في فصل الصيف الملتهب، ثمة سيارة تقف على رصيف بداخلها رجل لربما يراسل زوجته في خلوة الظهيرة أو حبيبة تعرف عليها قريبًا أو يسلي نفسه باللعب، طقطقة من "ناصر" على الزجاجة الجانبية للراكب في سيارته انتبه لها لم يتفوه بكلمة باغته "فهد" قائلًا "حديقة الكتب" رف جفنه حيرة عن ماذا نتحدث قبل أن نتدارك الأمر في همسة جماعية "باغ كتاب" وباغ في اللغة الفارسية تعني "حديقة" انطلق بنا حالًا فالمسافة لا تزيد عن أربعون دقيقة من البحيرة إلى "باغ كتاب" تنقلنا في شوارع "طهران" مستغلين تلك اللحظات بالتمعن في الشوارع والأبنية والأنفاق والأشجار والأخيرة تنتشر في غالبية شوارع طهران بشكلٍ ملحوظ ولاحقًا سأكشف عن مشاهدات أخرى تستلقي على ظلال الأشجار في كلِ مكان.

دخلنا في أحد الشوارع وبدا شارعًا طويلًا، طلبنا من السائق أن ينزلنا بين جنباته؛ وكأننا اشتقنا المشي مجددًا؛ حالة من الشعور تملكتنا جعلتنا نرغب في المشي بين الأشجار وبصحبة أفواج من الإيرانيين وفي القريب لاح لنا إحدى البنايات الكبيرة يسبقها مدرج يجلس عليه عدد كبير من الناس وكأننا نحن في ساحة نمارس دور العارضين وهم يشاهدوننا من أعلى الدرج؛ في تلك اللحظة جنحت للتفكير للاحتمالات اللاحقة، يا سبحان الله هذا التفكير المستفز يلازمني كثيرًا في سفري وقبل أن نذرع "باغ كتاب" وفد رجل معمم بالقرب منا؛ ذا بشرة ناصعة البياض؛ لا يتحدث كثيرًا- الوقار سمة بارزة على محياه؛ يمسك بعصا مستقيمة ذات مقبض فضي ومسبحة تبدو ثمينة ذات شواهد فضية- طلب منه "ناصر" إعطائنا نبذة عن أرجاء المكتبة وما تحويه بالداخل فأجاب أنا لست عاملًا في المكتبة؛ أتيت مثلكم زائرًا، حالة ارتباك علت جبين "ناصر" فأومأ "فهد" فلننصرف إلى تلك الردهة؛ كان هدفه صرف الأنظار عنا بعد هذا الموقف؛ أي "فهد"، بدت المكتبة من الداخل مكتظة بالناس وبالأطفال ويبدو أن للأطفال نصيبهم في المكتبة لا يقل عن نصيب الكبار من القرّاء وطلبة الجامعات والكليات؛ حيث توجد مساحة مسيجة بالخشب الملون لليافعين بها معينات تساعد الأطفال على التفاعل؛ كما توجد في الواجهة لوحة تعريفية عن المكتبة باللغة الفارسية ففضلنا التعرف عوضًا عنها عن طريق محرك البحث ويكيبيديا" لنغرف من رحيق المعرفة عطرًا نرشه على ذاكرتنا في هذا المكان؛ فأتتنا المعلومة صادمة؛ حقيقةً إّنها صادمة" حديقة الكتاب أو "باغ كتاب" في طهران هي أكبر حديقة أو مكتبة لعرض ومطالعة الكتب وبيعها في العالم؛ حيث تعد صرحًا ثقافيًا ضخمًا يحمل اسم حديقة الكتاب افتتحت رسميًا عام 2017 وتبلغ مساحتها 110.000 متر مربع وتضم مساحات خضراء توفر جوًا من الهدوء للزائرين والعائلات، عند هذه الحد وأنا أقرأ أتأمل الصرح والناس الذين يتوافدون عليه وكنت أتساءل هل يمكننا تغطية هذه المكتبة وهي بهذه المساحة والضخامة؛ يبدو أننا علينا إرجاء جل التساؤلات لنستمر في البحث والتنقيب بين المكتبات المتعددة والكتب المتنوعة وبمختلف اللغات في هذا المجمع المعرفي الضخم، لم نتشرف بالتعرف على مكتبة "باغ كتاب" عن طريق أحد المرشدين لكننا نقرأ ما تسهمه هذه المكتبات من زيادة نسبة المطالعة وإسهامها في رفع المستوى العلمي والفكري والثقافي؛ تنقلنا بين أرجاء المكتبة وممراتها عبر ممرات ثقافية مزودة بأحدث التقنيات وأساليب العرض؛ هذا التجول في مكتبة "باغ كتاب" أثار فيّ شغف المعرفة وجموح القراءة المهملة والتي ألقيناها في رفوف ضائعة ذات وقت وهي السند المعين على معرفة وفهم العالم من حولنا، قلت للأصدقاء، تذكرت القول المأثور "الكتب ليست أكوام من الورق الميت، الكتب عقول وضعت على الأرفف، إننا لسنا في مكتبة واحدة إننا نتجول في حديقة شاملة لا يمكن أن نخرج منها بدون فائدة تذكر؛ كسيّاح يسجلون حضورهم فحسب دون الخروج بغنيمة معرفية أثناء التجوال بين الكتب بعد العودة إلى السلطنة؛ كنت أتحدث في نفسي عن ما يختلج مشاعري وأنا أحج بين أرجاء هذه المكتبة الضخمة وهي المشروع الوطني الذي وجب أن يكون ضمن المشاريع الأولية في الدول؛ فبنا الإنسان فكريًا وثقافيًا وحضاريًا يقودنا إلى الأوطان ونهضتها، تبصره وفهمه وتطويره يعزز الجانب البحثي والتحليلي والنقدي لديه، لقد كلّت أقدامنا من المشي ولم تكل عقولنا من التفكير في هذه المكتبة وما تحويه من إسهامها لكننا نؤمن في قرارتنا أننا مجرد عابرين نبصم بنظراتنا ونمضي كالمرايا والصور.

تجدون بعضًا من الصور المتفرقة للمكانين
















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

الطريق إلى شرم الشيخ