في مجمع إيران التجاري في طهران نحتسي القهوة ونصرخ في وجه الزوايا
يوميات مسافر إلى إيران
يحيى المعشري
عندما عدنا من منطقة
"دربند" في أقصى شمال العاصمة الإيرانية طهران لا زالت تطنُ في أذني
أصوات مياه النهر وهي تنساب من بين الجلسات والأشجار الظليلة وأصوات الباعة
وارتقاء المطاعم في جبال البرز؛ كنظرة الأطفال الشغوفة، لكنني أعلم إنّها صفحة وجب
علينا طيّها لنحيلها إلى ملفات الذاكرة وألبومات الاستوديوهات في هواتفنا؛
وكم نحن سعداء أنَّ نحتفظ ببعض المقاطع والصور التذكارية التي وثّقنا فيها قليل من
كثير في هذه المنطقة؛ كنّا قد قررنا ضمن برنامج الزيارة هذه إلى طهران التعرف على
مجمّع إيران التجاري "مول إيران" ومن بواكير صباح اليوم الثالث لنا في
هذه العاصمة المكتظة بالزحام وبعد وجبة إفطار صباحية في فندق "هتل
بارسا" في شارع ولي عصر؛ قلتُ للأصدقاء لتكن قهوتنا اليوم في مول إيران؛
قلتها وقد ساد الصمت بيننا؛ نعم إنه صمت تجربة الأرقام الأولى؛ فلا شيء يضاهي فرحة
تجربة زيارة المول وهو يحمل هذه الأرقام بحسب ما هو مذكور وما هو متداول؛ مُدِهشة هي الطريق إلى هذا المجمّع فقد اخترنا
طريق خرازي السريع باتجاه شمال غرب طهران؛ تجاوزنا عددًا من الأنفاق وقد أشرتُ
للأصدقاء أننا على شفا الخروج من دائرة الزحام فسرحتُ شارد الذهن عائدًا قليلًا
إلى محادثة سابقة لي مع أحد الأصدقاء ويدعى خالد وهو رحّال ومحب للسفر والاستكشاف
وشغوف باعتلاء القمم الجبلية وقد سبقنا لزيارة إيران قبل فترة وجيزة من رحلتنا
هذه، كنتُ وإيّاه وحيدين في أحد مقاهي مسقط وحولنا أدخنة تتصاعد في الفضاء الجميل
فتقضي على ما تبقى من هواءٍ جميل وقد كنتُ أقول له هل للحصار الدولي على إيران
دافعٌ للإبداع والتميز والتفكير خارج الإطار
المتعارف عليه، وهل كُل من يفكر في أمرٍ ما جدير بالاهتمام والتنفيذ؟؛ كثيرة هي
الأفكار التي تبنيناها أنا وأنتَ في مختلف المواضيع السياحية والمغامرات عندما كنا
نتحدث كثيرًا ونحن نحثُ الخطى بين الممرات الجبلية والمروج الخضراء والطرقات
الوعرة في جبال عُمان؛ ألقيتُ عليه هذه العبارة راغبًا بكسر حِدّة الحوار ونسيان
أمر الدخان المنبعث من أفواه عشاق أراجيل الشيشة؛ فانطبعت على ثغره بسمة عابرة،
كان ذلك السؤال من باب الفضول؛ لم أكمل الحوار أو شرودي الذهني؛ فقد أذن لنا سائق
سيارة الأجرة بالنزول فنحن أمام عتبة البوابة الرئيسة لـ "مول إيران" لم
أُصب بالذهول في بادئ الأمر بدى المول عاديًا جدًا من الخارج فقد شاهدت عددًا من
المجمعات التجارية الفخمة في دول المنطقة وهي من الخارج أكثر دهشةً وأكثر فخامةً؛
تلاشت تلك الأفكار ودخلنا المول من البوابة الرئيسة؛ أجلنا ببصرنا شاخصين قبالة
اللوحة في أعلى المدخل للمول قبل الولوج وفيها تجلت بداية انطباعاتنا ومن الرواق
الداخلي وكأي المجمّعات التجارية في العالم من الصباح الباكر لا زال الناس يسكنون
فرشهم ويتكئون على مخداتهم؛ فلم نجد عددًا كبيرًا من الروّاد مثل ما توقعنا ومن
أحد المقاهي في المول وهو مقهًى أنيق يوازي أناقة المول وجنباته قررنا احتساء
القهوة على أنغام أغنية إيرانية أخذنا نسمعها كثيرًا مع سائقي سيارات الأجرة قبل
وأثناء دخولنا هذا المول، قرأ علينا "فهد" بعض المعلومات المدونة في
محركات البحث عن "إيران مول"
وأخذ يتمتم قائلًا: "ففي شمال غرب العاصمة الإيرانية طهران وعلى سفح من
سفوح جبال البرز الشماء وبجوار الطرق السريعة للعاصمة وعلى حافة بحيرة رائعة
الجمال، ترى مجمع إيران مول كجوهرة جمعت ما بين المكان والزمان... إنه مجمَّع إيران مول. كنت أظنّها خاتمة ما بدأ "فهد" يقرأهُ مواصلًا القراءة
وكنّا نمسد على أكواب القهوة ونناظر ما حولنا من مزروعات طبيعية بداخل المول وهي
خاصية تفردت بها إيران، جميلة هي الحدائق بداخل المجمّعات التجارية؛ قال
"ناصر" في حين استمر "فهد" يكمل ما بدأه لماذا علينا قطع
المول شرقًا وغربًا مشيًا أليس الأمر مرهقًا وأمامنا بحسب المخطط لهذا اليوم زيارة
عددًا من المزارات السياحية وهي بحاجة لمجهودٍ كبير أليس التحرك يمنةً ويسرةً
بخطواتٍ متسارعة يدخل في قائمة المجهودات البدنية أومأ "فهد" لجهة الشرق
ملوحًا بكلتا يديه سنحاول زيارة الأهم فالأهم؛ وهذا ما كنت أرنو إليه أنَّ يخرج
القرار منهم.
واستطرد
"فهد" يُكمل القراءة عن أجزاء المول؛ قائلًا: نضجت فكرة تنفيذ مشروع
يتمتع بالجمال والعظمة والاستفادة، كمجمع ايران مول، قبل واحد وعشرين عامًا، في
ذهن المهندس الإيراني الشهير "علي أنصاري". ولم تمضِ مدّة طويلة حتى تمّ
إنجازه بوقتٍ قياسي في أواسط 2018 للميلاد. إلى هذا
الحد توقف "فهد" وبدأنا نستكمل المشي بداخل أروقة المول؛ كنا نتبادل أطراف الحديث هل حقًا "مول إيران"
هو أكبر مول في العالم من حيث المساحة؟ ومن هذا المدخل بدأنا نذرع ردهات المول
وطال بنا التطواف كثيرًا متنقلين بين المصاعد الكهربائية ومداخل المتاجر والمطاعم
والمقاهي والنافورات المحاكية للموسيقى وهنا تتجلى لغة الأنغام فقط لكننا وللأسف
لم نأنس بها فالمساء هو رفيق الأنغام في فناء هذه النافورة وليس لدينا الوقت
الكافي للبقاء إلى أنَّ يخيم المساء ويعبث بأضواء النهارات؛ أخذنا بعض الصور
التذكارية وتوارينا عن الأنظار فأمامنا أهم ما خططنا له من زيارة "إيران
مول" وهو زيارة المكتبة؛ كنا قد تعرفنا على إيران كدولة سياحية وعلاجية لكنني
وأثناء تطوافي في الشوارع العامة بدأتُ أشاهد الكتب تنتشر في كل مكان ومنها أخذنا
الفضول لزيارة المكتبة بداخل هذا المول الكبير وهي مكتبة "جندي شابور"
ولا أعلم إن كانت هذه المكتبة هي من المفضلات للبعض؛ أما بالنسبة لنا كان اتفاقنا
أن تشمل رحلتنا إلى إيران زيارة الأماكن التراثية والتاريخية والمزارات الدينية
والثقافية؛ ناهيك عن الأماكن الطبيعية وهي الأهم لدى كثيرين من الذين يشدون الرحال
إلى إيران؛ دلفنا المكتبة نزولًا من سلمٍ مكسو بالسجاد الأنيق فتبدت لنا المكتبة
بكافة أروقتها وهي مستوحاة من المكتبة في جامعة أكسفورد في إنجلترا، رمقنا ومن
خلال أحد محركات البحث معلومة تشير إلى استطلاعٍ أجري؛ يبين أنَّ مكتبة "جندي
شابور" هذه هي أحب مكان لزائري "إيران مول" ويعود السبب إلى الفن
المعماري الفريد وتناغم الديكورات مع الإضاءة وذلك أضفى بعدًا جميلًا وجذابًا
يجبرك أنَّ تخطو خطواتك بداخلها باحترام وتمعن في عظمة هذا المكان المتميز ولا
يفوتني أن أسرد عليكم رأي أحد المهندسين العُمانيين حينما باغته بمقطع مرئي مبدئًا
إعجابة بالتصاميم والفن المعماري المبهر في هذه المكتبة؛ ثمة كتب فارسية وهي
الغالبة في هذه المكتبة وأخرى لعدة لغات ضمنها اللغة العربية وهي شحيحة جدًا؛ طلبنا
من إحدى الفتيات وتدعى "فيز فاهسور" وهي مختصة بالتصوير الضوئي للسيّاح
الراغبين بأخذ صور تذكارية في داخل المكتبة، وهي فتاة إيرانية نحيلة الجسد، هادئة
الطباع، لا تتحدث كثيرًا، ترتدي نظارة طبية؛ تحمل كاميرة تصوير ضوئية؛ دست أنامل
أصابعها على زر التصوير لتزف علينا أوتار الفرح راسمة ابتسامة على محيانا أربكت
فينا الصمت؛ لتهدينا صورة تذكارية مشحونة بالوجد والبوح الذي تركناه مكتومًا
بداخلنا- صعدنا في واجهة مخصصة للتصوير وهي أكثر الأماكن التي يلتمُ عليها
الزائرين؛ إضافة إلى أمكنة القراءة الهادئة والتماثيل البشرية على مداخل كلِ مكان،
وفي الأرجاء ونحن نحثُ خطانا نصيخ السمع للموسيقى الهادئة؛ يشعرك صوت الموسيقى
أنكَ في أحد بلاط السلاطين أخذنا صورة تذكارية بداخل هذه المكتبة كنفحة عِطر
الباتشولي مع هذه الفتاة الإيرانية
وتفرقنا مجددًا كلًا يعيش عالمه؛ يتفرس أروقة المكتبة التي طال بنا فيها المُقام
إلى أنَّ أتت ساعة مغادرة المول فرحلتنا بلا مترجم وعلينا الخروج لحجز سيارة تقلنا
فأمامنا زيارات قادمة سنكشف عن أسرارها كالسحاب ونختبئ بين نسائم الربيع وتحت
الضباب.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام