دربند النسمة الغارقة بحبور تحت جبال البرز
يوميات مسافر إلى إيران
يحيى المعشري
في اليوم الثاني لنا في العاصمة الإيرانية
طهران؛ كان يومًا باردًا ربيعيًا جميلًا، تبدى لنا ذلك من شرفة فندق "هتل
بارسا"؛ وقد وقع اختياري أو هكذا ساقتنا الصدف على غرفة مستقلة مطلة على
أشجارٍ وساحة أستطيع منها التعرف على أحوال الجو، بينما الأصدقاء "ناصر"
و "فهد" اشتركا في غرفة واحدة بها استراحة ومجموعة كراسيٍ وطاولة صغيرة
تصلح لحمل الأشياء البسيطة يتوسطها شمعدان أنيق؛ لقد صحوت باكرًا لأنتظر الأصدقاء
ناصر وفهد في بهو الفندق بعد أن أخذت إفطاري في قاعة أنيقة في الرواق السفلي وهي
قاعة تستخدم للطعام والاحتفالات الخاصة، كنتُ جالسًا أتصفح شبكة الإنترنت للتعرف
على المزارات السياحة التي تناسب أجواء الربيع وهي ذات المواقع التي تحدثنا عنها
سابقًا في العاصمة العُمانية مسقط وهي جسر الطبيعة ،قصر متحف سعد آباد، بحيرة
جيتكر، دربند، بام لند وبرج ميلاد وغيرها من مواقع ومزارات دينية؛ فأرجأت عملية
البحث لأسترق النظر إلى مجموعة رجال في الكراسي الجانبية؛ بينهم رجلًا كبير السن
يبدو من ملامح وجهه أنَّه في منتصف العقد السادس من العُمر، بدين الجسد يتأبط
قنينة مخلوطة بالأعشاب الإيرانية وهذا الأمر ساقني إلى مقالٍ سابق قرأته عن توفر
الأعشاب في المدن الإيرانية وذلك بسبب وفرة المصادر المائية والتنوع المناخي الذي
تتمتع بها إيران؛ لتكون بلدًا يهتم أفراد شعبه بالأعشاب الطبية؛ كان الرجل يصدرُ
صوتًا مرتفعًا يبدو من الوهلة الأولى أنَّه يعاني من عِللٍ باطنية أو هكذا يبدو
وفي الاستقبال توجد فتاة إيرانية في عقدها الثالث، أنيقة تجيد التخاطب باللغة
الإنجليزية وقليل من المفردات باللغة العربية؛ في وجهها طمأنينة لكنها تبدو مرهقة،
لم تنم ليلة البارحة؛ كنت أظنها تتصنع الشرود هربًا من سهام الأعين المتلصصة التي
يسكنها الفضول؛ لاحقًا عرفتُ أنَّها باشرت عملها مساءً؛ في ذلك الوقت كان يقفُ
أمامها شابين عراقيين يفاوضونها على أجرة إحدى الغرف في الفندق؛ تناهى إلى سمعي
جلبة من الممر الموارب وأصواتًا تشبه أصوات الأصدقاء فإذا بناصر وفهد يدنون مني
وقد حددوا وجهتنا القادمة وهي منطقة "دربند" وقد أشاروا عليّ أن سائق
سيارة الأجرة بانتظارنا في الخارج؛ هممنا نسرع للوجهة القادمة؛ طار بنا السائق إلى
"دربند" بين معالم العاصمة الإيرانية طهران وطرقاتها وأزقتها ودروبها
التي تشي برغبة المشي كثيرًا تحت وبين الأشجار الوارفة الظلال؛ أجال ناصر ببصره
نحو الأشجار التي تحف شارع ولي عصر قلت لتكن جولتنا السياحية والاستكشافية هذه مذ
تحركنا من الفندق إلى منطقة "دربند"، جولة للتعرف على معالم العاصمة
التي يظن الأغلب أنّها ليست سياحية ولا تصلح إلا للعبور؛ كنّا حينها نتعامل بالصرف
النقدي ولم نستخرج البطاقة البنكية بعد وقد أشرت سابقًا إلى أنَّ إيران بلدًا يقع
تحت سهام الحظر فلا يتعامل بالفيزا كارد ولا الماستر كارد في دولنا؛ كان السائق
يتحدث باللغة الفارسية تارة واللغة العربية المكسرة تارةً أخرى؛ لم يتريث وبدأ
يتحدث عن مدينة "تجريش" الواقعة في مقاطعة شميرنات وهي تستقبلنا في طريق
منطقة "دربند" مررنا على أسواقها وطرقاتها وجمعٌ من المحللين الذين
يفترشون الطرقات ويرخون من أياديهم بضائع تنسدل بمرونة؛ وما شدّني كثيرًا في
طريقنا إلى "دربند" ميدان تجريش والبازارات التي تظهر حضارة فارس
الضاربة في القدم وتاريخ إيران الحالي الذي لا زال يتلفع بالزمنين، يمعن
"فهد" النظر إلى الأسواق ومشهد الرذاذ على الأبنية، قاطعته قائلًا: في
حقيقة الأمر أعشق الميادين كثيرًا وأهيم في أفنية البازارات والنقوشات والرسومات
في الأسقف؛ عَقّب "فهد" قائلًا نريد "دربند" ولتكن زيارة
تجريش في الرحلات القادمة فلاحت لنا جبال محفوفة بالاخضرار وقليل من البياض؛ في
ذلك الوقت بدأت الثلوج بالذوبان، دخل بنا السائق بين تعرجات وطرقات وكأنه يعبر بنا
إحدى الحارات العُمانية مع اختلاف الأجواء بين البلدين؛ فإذا بساحة "ميدان
دربند" يصطف على جنباتها عددًا من السيارات الخاصة وسيارات الأجرة وطريق يؤدي
صعودًا للأعلى؛ في ذلك الوقت صعد بنا السائق عبر ذلك الطريق بينما البعض يحثون
خطاهم للأسفل لم ننبس ببنت شفة مسكونين بالدهشة، رويدًا رويدا قبل أن يفتح لنا
السائق الباب بأدبٍ جم؛ تبادلنا معه نظرات رضا وامتنان؛ نقدناه أجرته مودعًا إيانا-
هرعنا نسرع فألقينا أولى خطواتنا على تمثال رجل ذهبي اللون، يقف منتصب القامة في
ساحة تسمى ساحة "ساربند" وتقع في مكانٍ مرتفع وهي نهاية طريق السيارات،
لها تفرعات عدة اخترنا منها الشمال إلى منطقة "دربند"؛ يقف التمثال وهو
تمثال متسلق الجبال يبلغ طوله ثلاثة أمتار وتم إنشاؤه على يد رضا لال رياحي، أحد
روّاد الرسم والنحت الإيراني؛ باقتراحٍ من أحد متسلقي الجبال ويدعى "حسن
وجدانخوش" ويتعبر الإيرانيون هذا التمثال رمزًا من رموز المنطقة، ويرمز إلى
بدء تسلق الجبال؛ يهفو إليه السياح لالتقاط الصور التذكارية مستفتحين جولتهم؛
كالكلمة الاستفتاحية في المؤتمرات؛ نعم هم يستفتحون زياراتهم بالصور التذكارية
وهكذا بدأنا مثلهم جولتنا قبل أنَّ يستقبلنا باعة البهارات وقمر الدين والأخير هو
نوع من أنواع الفاكهة المجففة تغطس في خلطات وضعها الباعة واعتاد عليها الناس وبدت
جزء من الثقافة والتقليد الإيراني الأصيل؛ ما أجمل السماء وهي مغطاة بالغيوم
والأجمل هو هواءها العليل البارد والمنعش؛ سرنا نتقدم وحولنا باعة البقوليات وهم
يضعونها في قدورٍ تلفظ الأدخنة فأغرانا شكلها الخارجي قبلَ أنَّ نستطعم مذاقها فألقى
"فهد" عبارة الأذن تعشق قبل العينِ أحيانًا قائلًا: هلّا عكس قائل
المقولة مقولته لتنطبق على المشهد أمامنا؛ طُبعت بسمة عابرة على محيا
"ناصر" قلت سنعود فور الانتهاء من الجولة لنتلذذ بسحر المكان والطعم
وأرجو أنَّ يكون كما تشاهده العين وهي جولة مفتوحة ومطولة لأنها خارج حسابات
المترجمين؛ منظر الأرض وهي مبللة يبهج العين والتكوينات السحابية تعانق جبال
"البرز" وكأنها تلقي عليه تحية إكبار وحب، تحسسنا أصوات الباعة ونحن
نهيم في دوربنا فمررنا على تكوينات طبيعية جذابة وخلابة؛ تناهى إلى مسامعنا صوت
المياه القادمة من الوادي وهي تنساب بأناقة وتناغم فاستغل أصحاب المطاعم والمقاهي
مياه الوادي الجارفة وأقاموا فوقها جلسات مصنوعة من الخشب تنساب من تحتها المياه
وهي من الطرق الرائعة حقًا لاستغلال المكان كما أنَّها تجذب السياح لعيشوا تجربة
توثيق اللحظات بالتصوير الضوئي والمرئي ومشاركة أصدقاءهم تلك اللحظات؛ بدا
"ناصر" سارحًا في سحر المكان وكذلك أنا و "فهد" لازمتنا ذات
المشاعر وذات الأحاسيس، الإيرانيون يهفون على منطقة "دربند" كبارًا
وصغارًا، نساءً ورجالًا؛ فهي حقيقة تاريخية تسجل في خارطة إيران منذ أزمنة سحيقة؛
ثمة درج بسيط مرتفع شيد من الحجر؛ يفضي إلى جسرٍ معلق يعتلي النهر تحفه الأشجار
الظليلة، أما المطاعم شاهدناها تشمخ في الجبال لتطل على الطرقات التي يخترقها
النهر الجاري وفي المساء تستلقي أحزمة النور طولًا وعرضًا على المقاهي الخشبية
لتضفي جمالًا آخر، في حقيقة الأمر جذبني نظام المطاعم والمقاهي على الجبل ومن أجمل
ما رأيت مطعم "باغ بهشت" وهو مطعم متعدد الطوابق، مزين بالزينة النباتية
وبه عدد كبير من الأضواء التي تخلق جوًا آسرًا يجدف في بحره الهائمين والمغرمين،
يستلقي على تلة أعطته إطلالة جميلة وكأنه يتدلى من شرفة مطلة على سواقي الصباح
ولضيق الوقت قررت الصعود مع الكثيرين من شدهم الفضول لالتقاط صورة تذكارية من
إطلالة هذا المطعم؛ لأخلدها في صفحة
الزيارات لأهم الأماكن السياحية التي تبرز عظمة ومهارة الإيرانيين في استقطاب
الزائرين؛ لقد ظللنا نسير بين ممرات منطقة "دربند" مشدوهين بأناقة
المكان وسحر الطبيعة، بدأنا الصعود متلاحمين قبل أنَّ تفرقنا الدروب بين أزقتها
كلًا مهتمًا بتوثيق مشاهداته ومعايشاته الخاصة، فنسينا أنَّ أضواء الغروب بدأت
تعبث بالنهارات وأنَّ أمامنا ساعة من الوقت للعودة إلى شارع ولي عصر والأهم من ذلك
علينا البحث عن سيارة تقلنا إلى مقر إقامتنا في طهران ومثل كل الأسئلة كنت أسال
الأصدقاء "ناصر" و "فهد" قبل العودة من أيِ جولة هل تعتقدون
أنَّكم أحرارًا حينما تكونون وحيدين في جولاتكم؛ غير مرتبطين بمترجم أو مرشدٍ
سياحي يفتح عليكم أبواب النهار كالرياح السريعة التي تفقدكم سحر المكان وفراغ
الدهشة.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام