هيا نغرق في مياه "ناخون نايوك" الريف التايلاندي

يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند

يحيى المعشري

"هناك نوع من السحر في الذهاب بعيدًا ثم العودة متغيرًا" كيت دوغلاس ويغين

هل تؤمن بالصدف في السفر وهل كل شيء يمضي وفق التخطيط المسبق، أم أن هنالك المتوقع وغير المتوقع؟ كان ذلك هو أحد الأسئلة المطروحة في رحلتي مع أصدقاء من ولاية بوشر إلى مملكة تايلاند؛ حينما حط رحالنا في منطقة بتايا في مقاطعة تشونبوري قادمين من العاصمة التايلاندية بانكوك كان الأمر لا يعدو أن يكون محض صدفة بعد أن أرخت محطتنا الأولى نسائمها في جزيرة بوكيت جوهرة الجنوب التايلاندي وهي واحدة من أجمل الرحلات؛ نعم من أجمل الرحلات ولا يعني هذا أن بقية الرحلات ليست جميلة أو لا تدخل في ذائقة الجمال؛ بل على العكس كل رحلاتي التي شددت لها الرحال تميزت بأحداثها وأمكنتها وشخوصها وذكرياتها؛ تنمو في حقل ذاكرتي وتتسع باتساع الحلم وقصائد مذكراتي على دفاتر السفر.

 كان اليوم الثاني لنا في منطقة بتايا وقد شارف أن يدب الملل على الأصدقاء وهذا الأمر أعده طبيعي خاصة أننا استنفدنا أغلب الجولات السياحية في هذا الشطر التايلاندي الأكثر رواجًا لعشاق السهر والصخب في مملكة تايلاند ومن المهم أن نوزع خيارات الرحلة ولا أخفيكم سرًا أننا لسنا من روّاد الحانات ولا أماكن الرقص والصخب ولا تستهوينا كثيرًا عربدة الليالي ولا الأرائك الحمراء المخملية في الحانات، لقد زرنا أهم المعالم في بتايا وأماكن الجذب المشهورة؛ كما زرنا المواقع الدينية والمقدسة والملاهي ومراكز التسوق والحدائق بأنواعها المختلفة، المائية منها وحدائق الحيوانات والمدينة العائمة "السوق العائم" وسيام بارك وجزيرة كولان والشواطئ التي تنتشر في أرجاء بتايا ومناطق الحياة البرية والمتاحف الفنية وعلى غرار ذلكَ شاءت الأقدار أن نلتقي أحد الشباب العُمانيين، لديه معرفة بأحد الأصدقاء في هذه الرحلة ومع تبادل الأحاديث اقترح علينا تجربة زيارة محافظة "ناخون نايوك" كان قد زارها هو قبل يوم ولأننا في نهايات أغسطس من عام 2014 تمتاز الأجواء في عموم مملكة تايلاند في هذا الفصل بالغيوم والأمطار  وكالعادة الأجواء إما رطبة أو حارة وهذا ديدن الطقس في الدول ذات الأجواء الاستوائية ويبقى الأهم أن تحفنا الغيوم وقليل من المطر أينما توجهنا وولينا؛ كنورسين عاشقين يرتلان أشجان حبهما بين رمال الشواطئ وهذا أمر بالغ الأهمية فنحن نتوق للمطر بما أننا نقطن في الخليج ودول المنطقة عندنا تعتبر من المناطق شبه الجافة.

 قلّب الشاب بعض الصور في هاتفه المحمول وأعطانا فكرة بسيطة عن هذه الجولة وهي من بواكير الصباح على أن تكون العودة عندما يعلن الليل سدوله ويحين المساء، لم نفكر كثيرًا في الأمر وتركنا خيار القبول على طاولة الأصدقاء؛ في البداية عارض أحد الأصدقاء الفكرة لكنه مرغمًا قبلها بود فكلنا سنكون في هذه الرحلة وفي حال معارضته سيقضي يومه وحيدًا بين أروقة مثلث العرب؛ في الصباح الباكر وردنا اتصال منسقة الرحلة تُعلمنا أن الحافلة بانتظارنا مع أول إشراقة صباحية، الرحلات في تايلاند جميلة لكن الرغبة في النوم كذلك تدخل تحت طائلة محببات السفر، غادرنا مثلث العرب وودعنا درج فندق مارين بلازا ومطعم أبو سعيد وأبو عبدالله والليوان وأكشاك بائعات الفطائر وسفن إلفن، لا أخفيكم أننا لا نعرف عن "ناخون نايوك" أنها محافظة؛ هذا ما أشارت إليه محرك البحث؛ حيث تبعد عن العاصمة بانكوك قرابة ساعة ونصف الساعة وعن المنطقة التي نقطنها في "بتابا" قرابة ساعتين وقليل من الدقائق تمسح غبار المدن وطرقاتها؛ في جولتنا هذه أقلتنا الحافلة إلى وجهتنا وترافقنا الغيوم الكثيفة والنوارس ودهشة مسافرين يعلقون أحلامهم على الشرفات كشتلات الياسمين وبينما تطوي الحافلة الطرقات مررنا على العديد من المعالم التي تشد أي زائر فلا يشعر بالملل ولا يرف له جفن؛ ها نحن ندنو من وجهتنا وقد أطلت علينا قرية ريفية على جنبات الطريق؛ توجد محال تجارية مصنوعة من الخشب؛ يبيع المحليين هنا المنسوجات والأقمشة ومستلزمات الرحلة هذه؛ أخذنا احتياجاتنا من فواكه طازجة وعصائر نسترد معها طاقتنا وفي هذا الوقت وجدنا فرصة لإعادة نشاطنا فنحن مقبلين على جولات لا نعلم منها عدا أنّها في منطقة ريفية وبين الأنهار؛  في بادئ الأمر أنزلنا سائق الحافلة قبالة أحد السدود وهو سد "خون دان براكارن تشون" وهو واحد من أعظم السدود التي شاهدتها في حياتي وربما هو أكبرها على الإطلاق وكلنا يعرف أهمية السدود منها تقليل أضرار الفيضانات والإنتاج الزراعي واستهلاك المياه؛ حدّقنا في السد من الأعلى وكنا بين المشدوهين والخائفين فالناظر للمياه في هذا التجمع الهائل يشعر بالخوف، قال أحد الأصدقاء هل تسكن التماسيح هذه المياه؟ كان هذا السؤال هو نهاية وقتنا المسموح في منطقة السد فالتقطنا صورة تذكارية وتوارينا لنبدأ الجولة الصعبة وهي ركوب "القوارب المطاطية" عبر مياه السد الجارية وهو مجرى طبيعي أشبه بمجاري الأودية عندنا؛ المياه بدت تتدفق عبر فتحات السد المهيأة لهذا الغرض كنا خمسة أشخاص ومعنا المتعهد بهذه التجربة "مرشدنا" وهو تايلاندي من أبناء هذا الريف، المسافة المزمع قطعها بهذا "القارب المطاطي" قرابة (7) كيلومترات سرنا مع المياه بقلوبٍ وجلة وأصواتٍ تنبئ بالخوف لكننا لم نتمكن من التراجع فقد سبق السيل الزبي ومن المعيب في عُرفنا التراجع ونحن نعلم أن الشاب العُماني قد خاض التجربة ذاتها قبل يومين.

بدأت تتقاذفنا المياه العاتية كأمواج البحر الهادرة فتتمايل أجسادنا ذات اليمين وذات الشمال وفي غمرة سير القارب المطاطي وصراخ الشاب التايلاندي الذي فضّل خلق نوع من الإثارة والتشويق أثناء هذه المغامرة وهذا ديدنهم في أغلب رحلاتهم؛ تناهى لمسامعنا أصوات المحليين؛ هذا يدلق علينا عبارات تايلاندية غير مفهومة وهذا يُرحب بنا بالكلمة الترحيبية "سابايدي كب" وتلك تلوح بيديها مرحبةً بنا، حقًا الناس هنا لطفاء والمكان مؤنس وهادئ؛ كنّا نمعن النظر في الوجوه ويسكننا الجمال في تشكيلات البيوت المصنوعة من الخشب على الضفاف في هذا الريف ومياه الشلالات تنساب من بين الشقوق؛ علقت في فرح لِمَ لا نسكن هنا ليلة واحدة؛ فحياة الأرياف جمالها أن نعيشها مع الطبيعة فما أجمل صياح الديك في أول الصباح وكم هو شعور جميل أن نصيخ السمع لأصوات العصافير والحيوانات ونقيق الضفادع في بيتها الحقيقي؛ فلنسافر وراء الغيم وخلف حفيف الأشجار ولنعبث بالمياه كالصغار ونمارس دور الراهب في حث المحليين على ممارسة حياتهم اليومية بين هذه الطبيعة؛ حقًا قد يخونني الوصف وقد ترحل عني بعض الأفكار وأنا أكتب عن هذه الجولة النهرية وقاربنا المطاطي يطفو في المياه تارةً ينزل بسرعةٍ قصوى بين صخور الوادي وتارة أخرى وكأنه يلتقط معنا الأنفاس هنا بدأ يدب فينا الخوف وهو خوف لا يخلو من الإثارة لقد قطعنا مسافة طويلة دون أن نشعر بالوقت وفي لحظة خاطفة ها هو المتعهد التايلاندي يسحب بكلتا يديه غصن شجرة تدلى في مياه النهر ليوقف القارب المطاطي؛ طالبًا منّا أن نمشي في النهر وكأننا نجدفُ في أعماقٍ سحيقة؛ لم نعارض الفكرة وهي بطبيعة الحال ضمن خطة الرحلة هذه فكانت تجربة جدًا مشوقة ومثيرة ولا زال السؤال يُطرح من الأصدقاء هل توجد هنا تماسيح؟ إلى أن وصلنا الضفة الأخرى وهي لم تكن الأخيرة فانطلقنا نستريح بين الغابات تحفنا أشجار معمرة فارعة الطول وقبل أن نُكمل الجولة القادمة وهي لا تخلو من الإثارة والجنون في  هذه المنطقة والتي تسمى بــ "نام توك فان جام نجون" Nam Tok Pha Ngam Ngon” وصلنا إلى شلال "فانجام نجون" في الجانب القصي من هذه البقعة وهنا لم نشاهد أحد من المحليين عدا سيارة واحدة كتلك السيارات التي تعبر الطرقات الموحشة في فيلم الزومبي "ظهور الموتى" لكننا عصبة وعددنا يبعث الاطمئنان وشعور الأمان.

 كم هو شعورٌ رائع أن تتناول غداءك بين أحضان الطبيعة حيث كان الطعام المطبوخ عبارة عن أكلات بحرية وبعض الصوص اللذيذ وقليل من الأطعمة التي لا نستسيغها وقبل أن نختتم طعامنا أشار المتعهد التايلاندي أمامكم محطة أخيرة وهي ركوب هذه الأنابيب المطاطية الصغيرة" وهي ذاتها التي نستخدمها في إطارات سياراتنا وهذه المرة كل شخص على حدة؛ شريطة أن تتقابض أيادينا بطريقة موصولة صاح أحدهم هذا يشبه الوادي وفي بلدنا لا يمكن أن نفكر بخوض هذه التجربة كانت عبارة لا تخلو من الطرافة تندلق من لسانه من فرط الإثارة أحجم أحدهم عن تكملة الجولة بينما واصلنا نحن طريق المغامرة، السماء أوشكت أن تمطر ونحن في مسلكٍ مائي جارف والأشجار تحفنا من كل الاتجاهات لقد جربت الغرق في هذه الجولة بأثمانٍ مدفوعة وأوقاتٍ مهدورة؛ هل يُعقل أن تجازف بمحض إرادتك طوعًا لتجربة الغرق الحقيقي؟ هنا حقًا كانت التجربة حقيقية؛ عدنا إلى مثلث العرب بعد يومٍ جميل ومثير والتقيت في ذات الرحلة بأصدقاءٍ تعرفتُ عليهم في ملاعب كرة القدم وآخرين أصدقاء عمل أتوا لقضاء أيامٍ ملونة كالفرشاة على صفحات الكراسات البيضاء وخضنا معًا هذه التجربة وعشنا ذات الشعور وذات الهواجس والقلق كنت معهم لا أبالي بالتكرار ولا ممارسة التجربة أكثر من مرة طالما أنها لحظات ستخلدها الذاكرة كإحدى لطائف السفر وفي لقاءتنا الفجائية في العاصمة مسقط نستذكر هذه الرحلة بحنين الذكريات وإثارة المواقف والأحداث.

 


 

هؤلاء هم الأصدقاء في رحلتي الأولى إلى هذا الريف
صورة تذكارية وإطلالة على السد العظيم
الصديق سيف الشبلي رفقة المتعهد التايلاندي في الرحلة الأولى




هنا أصدقاء الرحلة الثانية كنت بمعيتهم في جولة رائعة لا تخلو من الدهشة
مشهد من رئف "ناخون نايوك"

إلى أن ألتقيكم في جولات أخرى تقبلوا تحياتي 
يحيى المعشري







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر