أرض السمر- حارث الشريقي
تدوين - يحيى المعشري
لا يكفي أن تكون على قيد الحياة؛ بل يجب أن
تكون على قيد الأمل؛ في السطر الأول من خاتمة "أرض السمر" رحلة على خطى
الأجداد من أرخبيل زنجبار وصولًا إلى البحيرات العظمى الإفريقية، أتممت قراءة هذا
الكتاب بتلذذ؛ نعم بتلذذ فقراءة كتب أدب الرحلة كقراءة الروايات؛ فهي تنقلك إلى
عوالم لم تزرها وقد لا تتمكن من زيارتها لكنك تتعرف عليها من خلال هذا التطواف
القرائي؛ كتاب "أرض السمر" هو باكورة أعمال الرحال العُماني حارث
الشريقي، لقد أتممته كما أتممت احتساء آخر رشفة قهوة في أحد مقاهي العاصمة
العُمانية مسقط- كم هو شعورٌ لحظي جميل وعميق في ذات الوقت أشعر به وأنا أقلب
صفحات كتاب "أرض السمر" بهذه اللغة الجميلة المتناغمة والمتسقة في
السرد، إن الصفحة (199) هي خاتمة هذا الكتاب الذي سافرت معه دون تكبد عناء السفر
ولا حجز تذكرة ولا حمل جواز سفري العُماني عند أقرب "بوردينج" ولا
أتعابي المادية عدا قهوتي التي أرتشفها بحب وهي لم تغب عن بال الرحال حارث الشريقي
إذ قال في عنوان الصفحة الأخيرة لـ "أرض السمر" القهوة أيضًا سفر حثيث،
تحدث عن ستّات الشاي السودانيات على ضفاف النيل وهن يضعن القهوة والشاي بحب كما
يبعن الحكايات والقصص اللطيفة والجميلة والغريبة في نفس الوقت مع كوب قهوة.
سافر الشريقي في عمله الحالي مع الناشر: مجرة
للنشر والتوزيع بإشرافٍ عام من منصة تترى للخدمات اللغوية الذين ومؤكد أنّهم كانوا
مع الشريقي كأول المسافرين إلى أرض السمر رفقة ندمائه الذين همّوا بالمشورة عليه
لتوثيق أحداثها؛ ليشهدوا التطواف ويستشعروا تجلياته ويتيهوا في غياهب الضياع
والحياة ويعيشوا دهشة البدايات لمغامرات غير مألوفة كثيرًا؛ فابتدأ الشريقي فاتحة
كتابه بإهداء قائلًا: إلى جميع القرّاء الذين يحملون أحلامي بين دفتي هذا الكتاب
وإلى كل محبي السفر ومغامراته أما أنا فأقول عزيزي القارئ؛ إن كنتَ من الذين لا
يستهويهم هذا المجال وأصوله؛ أدعوكَ للتعرف عليه قبل أن تعرج بالقراءة حتى تجيد
صكوك الغفران للرحال وتلتمس له ترليونات الأعذار لشغفه وعشقه وإلا أبقَ مكانك حيث
أنت" وعليك أن تلتزم بقواعد السير ولا تتجاوز الإشارات الحمراء في تقييماتك
لهذا الجنون الفريد ولا يكفي وأنتَ تتتبع صفحات السفر لدى الشريقي فحسب؛ بل عليكَ
أن تفك شيفرات ورموز التجارب التي خاضها كما وصفها بين صفحات "أرض
السمر" وهي ذاتها التي دعته ليعكف على هذه النوعية من التجارب وفيها العديد
من التشويقات كما هو الحال مع العديد من المخاطر التي اعترضته؛ فتتبع مجاهل
أفريقيا ليس بالأمر الهين ولا السهل وإن كنت رفقة أحد العارفين بشؤون هذه البلدان
والمقيمين بها.
في مقدمة "أرض السمر" تحدث الشريقي
عن مسقط رأسه ومهد ولادته نيابة "بركة الموز" وهي حاضرة من حواضر ولاية
"نزوى" وبين المقاصير وجداول سواقي فلج الخطمين التمعت وتفتقت أولى
الإلهامات لدى كاتبنا الرحال؛ فأسر بقليل من كثير عن أحجيات الطفولة وشقاواتها.
من كينيا "الطريق إلى السافانا"
استفتح الشريقي أولى خطواته بل مغامراته في السفر وفي ذلكَ استمر يتتبع شغفه في
القرن الإفريقي فالهمته نيروبي العاصمة الكينية وفيها رسم طريق مغامراته بحب
كالولهان الغارق في حب المعرفة والاستكشاف؛ فانتقل إلى "ماساي مارا"
أشهر محميات أفريقيا الطبيعية ولم يغب عنه منظر الشاحنة الهالكة التي وضعته في
اختبارٍ أصعب وذلك حينما سلك طريق آخر بديل أكثر صعوبة ومشقة؛ لكنه يتوافق مع
شغفه- سار الشريقي يتجول في تخوم القارة السمراء وفي ذات الوقت لم يُخفي حنينه إلى
سيرة الأجداد؛ حيث تعود به إلى صفحات الكتب والمدارس فيتنفس في "زنجبار"
الهواء الطلق؛ لكن المفاجأة أنّه وصلها في وقت جائحة كورونا وهنا الكامن الأصعب؛
كما تحدث عن شخصيات التقى بها وأمكنة فتمازجت العمارة لديه في أنجوجا مع مسقط رأسه
بيضة الإسلام "نزوى" وأنجوجا كما وصفها الشريقي أنّها قطعة هاربة من
التاريخ- فالعودة إلى زنجبار مجددًا وصلة الدم وأحداث بيت العجائب التي سردها في
معرض كتاباته الشائقة؛ لقد باح الشريقي عن قصر السلطان وبوبوبو منزل الأميرة سالمة
وغمره فيما غمره أشياء كثيرة منها الأبواب فأشار "ليست الأبواب العُمانية
مجرد أبواب، إنّها بوابات الماضي وفسحة إلى المستقبل، في الحقيقة شكلت زنجبار
بأرخبيلها لدى الشريقي الحاضر والتاريخ فخرج من "أنجوجا" حيث بيت الحكم
العُماني إلى "بيمبا" الجزيرة الخضراء وهناك أسرته رائحة القرنفل؛ كما
زار عدة قرى ومنها "تشاك تشاك" مركز المدينة وهذا الخط الملتو سبرتُ
أغواره ذات وقت فرأيت عُمان بأصالتها وحرفيتها وصناعاتها التقليدية تتجول في هذه
الحاضرة من الشطر الإفريقي.
هل تتخيلون أن يعيش الناس حياة القرون الأولى
نعم هكذا تحدث الشريقي عن عُراة وادي أومو في إثيوبيا هذا مشهد عجائبي والمشهد
الآخر يعود إلى قبائل "الهمر"؛ حيث بيوت الخشب والطين وتجربة النوم
الفريدة والمرأة التي راودته عن نفسها في معقل تسوده عادات وتقاليد وأعراف
الجاهلية الأولى، وفي نيجيريا "بلدة بلا قانون" واجه الشريقي مخاطر
السفر على أصولها ومن ماكوكو إلى جزيرة فيكتوريا من قاع الفقر إلى قمة الثراء
جوانب نفسية وملحوظات دونها الشريقي في مشهدٍ لا يخلو من التساؤلات المشروعة ومن
"أوجاندا" حمل الشريقي حقيبة سفره "رفيقة رحلاتي" كما وصفها
إلى غابة بويندي العذراء في لؤلؤة إفريقيا لمقابلة الغوريلا وكأنه يخوض تجربة
غرامية مع فتاة حسناء تستحق هذا العناء وهذا القلق والخوف وهي واحدة من المغامرات
التي على المستوى الشخصي إن قدر لي تجربتها سأفرد لها عشرات الكتابات فمؤكد أن
الشريقي يسرد قصصها وأدق تفاصيلها حينما تقابله وتقرر أن تستفزه فيخرج الكثير من
الأسرار التي لا تحصر ولا تكتب في متون الكتب واختتم الشريقي "أرض
السمر" بالسودان وفلسفة الحياة فيها بها وهي الأرض الطاهرة "سلة
إفريقيا" التي سررت وأنا أتجول فيها مع الشريقي وكأني من يخوض تفاصيل
التجربة؛ في حقيقة الأمر أمر عظيم أن أستقطع الكثير من الوقت؛ لأسافر إلى هذه
الأرض الطاهرة التي أحببتها من خلال شعبها الذي شاطرنا الحياة في عُمان منذ نعومة
أظافرنا فكان الشريقي قاسٍ علينا حينما ذكر مطلع حديثه عن السودان "النجاة من
السجان" فقرر أن يسكب عليكنا من فناجين الحياة اليومية وجلسات السودانيين
معللًا أنها قصص تستحق أن تروَ وكتب عن المظاهرات وحظر التصوير والكاميرا التي
كادت أن تودي به في غياهب السجون وهناك جزئيات لا تخلو من الإثارة أترك لكَ المجال
لقراءتها عزيزي القارئ؛ فأنا مجرد واصف تهرب منه الكثير من التفاصيل؛ فما أقرأه هو
ملكية خاصة بالرحال الشريقي الذي أراد أن يشاركنا تجاربه المشوقة والفريدة؛
مختتمًا الشريقي كتابه "أرض السمر" بسيدات الشاي السودانيات والقهوة
التي تسمى "بالجَبنة" بفتح الجيم في السودان واستفاض الشريقي في حديثه
عن الوالدة "فاطمة" أو الحجة "فاطمة" التي يتردد عليها كل
صباح لشرب القهوة وعشقه للفاتنة السمراء القهوة في السفر ولم يغب عن باله محمود
درويش الذي يعلل الكثيرين من المتيمين بالقهوة بقوله "القهوة لا تُشرب على
عجل، القهوة أخت الوقت؛ تحتسى على مهل؛ القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة
تأمل وتغلغل في النفس وفي الذكريات"؛ كانت هذه سفرتي القرائية بين كتابات
الرحال العُماني حارث الشريقي أحببت أن أشارككم بها ومؤكد أنكم إن قرأتموها ستجدون
كثير مما ذكرت في هذه الشذرات المتواضعة فسافروا ولا تنسوا أن تدونوا فبين السطور
قصص وحكايات كلًا يبوح بأسرارها بطريقته الخاصة.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام