في شارع فيتشابوري كالمزن نهطل على "بوابة المياه" براتونام
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- بانكوك
يحيى المعشري
أرتحل في أسواقها بين الزحام وبين الشبابيك
والجدران وشرفات القلوب المطلة على الطرقات كل ما دقت ساعات شدّ الرحال، أمرُ على
الوجوه المتعبة والمترعة بالحياة ووجوه تمثل دور "آل باتشينو" العرّاب
الذي لا يعبأ بأحد ووجوه أخرى تمثل دور العرّاب الروحي بشخصيته التي تنأى عن دوافع
الخوف والقلق... في رحلة طويلة دامت زهاء اثنا عشرة ساعة قضيناها في القطار بين
سكك الحديد متنقلين من العاصمة التايلاندية بانكوك إلى وردة الشمال التايلاندي
"شنجماي"، كانت تلك الرحلة في عام 2007 وهو العام الذي شهد الكثير من
المتغيرات في خارطة السفر بالنسبة لي ولأن خيارات التنقل إلى مدن وأرياف وقرى
مملكة تايلاند متاحة حسب الرغبة ونوعية الخدمة التي توافق حساباتك الشخصية؛ أخذنا
نتحدث عن سوق "براتونام" وعن أهمية زيارته وأهمية أن نسكب عطر الحياة
اليومية في قنينة البوذا المنتصب بين جنبات شوارع بانكوك وكأي الأحاديث العابرة عن
الأماكن التي زرناها سابقًا أو نفضل زيارتها في قادم الوقت كان حديث سوق
"براتونام" لا زال راسخًا في ذاكرتي إلى اللحظة التي أخطُ فيها هذه
السطور- تناهى إلى سمعي جلبة في المقصورة الخلفية بالقطار وهو لا زال يطوي
المسافات أحدثت رهبة دبت في سرائر الرفاق فارتعشت الأجساد وباحوا بأسرار الخوف
والوجل، لا زال حديث الذكريات ومنذ تلكَ
اللحظة ونحن عند كل زيارة على الأقل على المستوى الشخصي أضع سوق "براتونام"
ضمن أجندة الزيارة الضرورية؛ ليس لأنه من أسواق التسوق ومنفذ للبيع والشراء في
الأماكن المفتوحة فحسب ولا لأنني أحد التجار أو روّاد الأعمال فأنا مسافر أبوح بما
أستشعر في السفر وإنما لأنه أحد الأسواق الذي أتوق لزيارته كلِ مرة؛ لأنه يحتوي
على العديد من الثقافات والأصالة التايلاندية بدءًا من طريقة البيع والشراء وثقافة
عرض المنتجات في الأسواق المفتوحة وبساطة التنقل والوصول إليه وانتهاءً بالمعزوفات
التقليدية التي ترافق السائح كظله في أجواءٍ صافية تتربع فيها أشعة الشمس السماء
وفيها يرتدي العازف اللباس التايلاندي الذي يُعبر فيه عن ثقافته المتجسدة في مملكة
"سيام" مع استخدام الأدوات التقليدية وهي مشهد بصري تجده في أغلب
الأماكن التي تزورها في مملكة تايلاند.
وتوالت الزيارات إلى سوق
"براتونام" وقد أزوره في الزيارة الواحدة مرتين أو أكثر خاصةً في حال
تعرفت على أحدهم واقترح عليّ مرافقته لمكان مناسب للتسوق الحر في مكان مفتوح من
المؤكد أن أقترح عليه هذا السوق، وفي رحلة عائلية للعلاج والفحوصات في عام 2017
قررت أن نخوض تجربة زيارة "براتونام" وتذكرت زيارتي الأولى له وكانت
بتعريف من الزميل يوسف الحسني أحد أبناء بلدة بوشر في محافظة مسقط؛ قررنا استقلال
سيارة أجرة وبعد أن وصلنا قضينا كثير من الوقت متجولين مشيًا على الأقدام؛ تتسابق
خطواتنا بين الجموع البشرية وبين التسوق وما أكثر المغريات هنا- طارت الدقائق
والساعات وبدأت عقارب الساعة يزداد دورانها قبل أنَّ يحل علينا الغروب ويعلن الليل
سدوله حينها وجدت صعوبة في كيفية إقناع العائلة قبول الطعام المتوفر وهو ضمن عديد
من أطعمة الباعة المتجولين وقضاء مزيد من الوقت للانتهاء من شراء ما تبقى من
مستلزمات؛ لم أفلح في إقناعهم بأن الأكلات البحرية في هذا البلد مناسبة جدًا؛ وهي
ذات الأكلات أو قريبة من الأكلات البحرية التي نبتاعها من باعة الأسماك والمأكولات
البحرية في الخوير في قلب العاصمة العُمانية مسقط والتي يتم شيّها في مقهى ملك
الأسماك المقابل من الحديقة؛ قالت الوالدة أنا أفضل أن أرجئ مسألة الأكل إلى حين
وصولنا إلى شارع العرب؛ في الحقيقة حاولت كثيرًا إقناعهم لكن عبثًا فشلت جل
محاولاتي فقررت بعد التشاور أن نعود أدراجنا إلى معقل العرب في النانا، وفي رحلة
أخرى سابقة كنتُ رفقة الزميل "فهد الحسني" وكان سوق
"براتونام" أحد الخيارات التي لا نستغني عنها فأخذنا التك توك في جولة
كانت في حقيقة الأمر جدًا جميلة حيث السماء توشك أن تمطر قلت لـ "فهد"
حال هطلت السماء هيا نستعيد ذكريات طفولتنا فنحن في غربة والركض هنا مناسب بعيدًا
عن الأعين المتلصصة والأفواه الضحوكة؛ فلنعبث بأقدامنا في الشوارع وبين الأزقة
ولنصعد الدرج ولا نعبأ بمياه الأمطار فهي قدرنا الجميل في هذا البلد من هذا الشطر
أما في رحلتي الأخيرة في أواخر عام 2023 زرت سوق "براتونام" هذا رفقة
"فهد الحسني" و "العاص المعشري" وكانت على غرار رحلة سابقة
كنت فيها وحيدًا أخرج صباحًا ومساءً دون اكتراث لعامل الوقت ولا الزمن ولا أعبأ
بأمر التوقيت ولا ساعة الهاتف، أعانق النجوم وانعكاس أضواء البنايات على أعين
المارة في حين أمعن النظر في همس القمر على الشرفات هذا الشعور الذي رافقني عندما
زرته وحيدًا أما مع الأصدقاء اختلفت الأحاسيس؛ فركبنا ثلاثتنا أحد القوارب العابرة
على نهر "تشاو فرايا" من ضفة النانا وفور وصولنا المحطة الأخيرة قابلنا
جسر يفضي لمجمع "بلاتينيوم" وهي الجهة المقابلة في طريق جريان تشاو
فرايا أما عن كيفية دخولنا السوق فكان مشيًا على الأقدام وبين التأمل وحث الخطى
هناك حكاياتٌ شفيفة تقتحم الشبابيك والحجرات المغلقة كما تقتحم القلوب المتصالحة
والمتسامحة- مضينا نمشي قرابة ساعة من الوقت إلى أن وصلنا مجمع
"بلاتينيوم"؛ لنبتاع بعض أحذية الصندل المتوفرة بالداخل فأخذنا جولة
بداخله قبل الشروع مجددًا لفتح صفحة أخرى من صفحات "براتونام" وجدنا
الباعة يفترشون منتجاتهم المعروضة من ملابس ومأكولات وقد بدأ "فهد" يدلق
بعض المعلومات على مسامع "العاص" قائلًا هذا السوق هو واحد من أكبر
الأسواق المفتوحة في هذه المنطقة وربما في العالم؛ في ذلك الوقت شرعت أتجول في
محرك البحث ويكيبيديا لمعرفة موقع هذا السوق طالما أنّه أحد المقاصد المهمة لي في
العاصمة بانكوك في كل زيارة فإذا به يجيبني على وجه السرعة إنه في "شارع
فيتشابوري" Soi Phetchaburi فارتحلنا نتأمل الحراك البشري
في هذا الشارع تارة ونستريح عند أقرب بائع عصائر طازجة تارة أخرى وفيما يخص
العصائر في حقيقة الأمر أفضل شراب البرتقال الطبيعي الطازج المنزوع من المواد
الحافظة والمصنعة والسكريات. لم أغلق صفحة البحث عن هذا السوق أيها القرّا الأعزاء
فهناك خطب مهم جدًا أحببت أن أشرككم به عن كلمة
"براتونام" وهي مشتقة من مصطلح تايلاندي وتعني "بوابة
المياه" ولا غرابة في تعريف الاسم فالعاصمة بانكوك هي "بندقية
تايلاند" محاطة بالمياه من كل جانب وتعود جذور هذا السوق إلى ستينيات القرن
المنصرم فقد بدأ العمل به في بيع المنسوجات والأقمشة إلى أن توسع مع مرور الأيام
وتقادم السنين وأضحى على هيئته الحالية.
قال "العاص" قرأت عن هذا السوق أن
فيه البضائع التي تباع بالجملة وهي مناسبة لروّاد الأعمال والتجّار قلت له ماذا عن
طريقة الوصول ابتسم ولم يخفي إعجابه بالتجربة وهي الأولى له لربما هو الآن يعيش
دهشة البدايات والتجارب الأولى وأثناء تجولنا بدأت أتمعن في الوجوه التي تقبل على
ردهات السوق وشوارعه وقلت سبحانك ربي ما أعظمُ شأنك في هذه البلدة أو في هذا السوق
الجنسية الصينية حاضرة ولها صيتها وهي كثيرة وفي ازدياد يتقاسمون الحياة والتجارة
معًا في هذا السوق؛ قد لا نجيد قراءة الوجوه والتفريق كثيرًا بين سحنات
جنسيات دول "الأسيان" إلا بعضها
التي يختلط فيها العرق الهندي والجنسيات الأخرى الخارجة عن هذا الشطر وعند خروجنا
من السوق بعد يومٍ قضيناه بين التجول والتبضع آن الأون لتلبية نداء المعدة ها هي
المطاعم الهندية في مداخل ومخارج السوق تستجدي المارة قلت للأصدقاء لِمَ لا نجرب
الأكل الهندي في أحد هذه المطاعم؛ في حقيقة الأمر كنت مشدوهًا في وجبة "باني
بوري" الهندية وهي من أطعمة الشوارع في القارة الهندية وقد جربتها أول مرة في
أحد مطاعم منطقة "روي" في
العاصمة مسقط وهي تتكون من دقيق السميد والبصل والبطاطس والحمص والبهارات إضافة
إلى الصوص المحلى الذي يصاحب كل وجبة استفتاحية قبل الشروع في أكل الوجبة الأساسية؛
لقد أنهينا طعام العشاء وللأسف كانت الأسعار مرتفعة جدًا ولا أعلم لمَ المغالاة
والمبالغة أم أننا لقمة سائغة لأننها سياح وهذه ضريبتنا؛ بعد ذلك مررنا على متاجر
بيع التجزئة وهي ضمن امتداد سوق "براتونام" وأكشاك خارجية والأخيرة
تستهدف السياح والزوار وتكثر في هذه الأقسام من السوق الأقمشة والمنسوجات والملابس
الصيفية المناسبة لأجواء تايلاند الاستوائية كما شاهدنا أثناء تطوافنا مجموعة
فنادق منها فندق "أماري" و "ووترغيت" وعديد من الفنادق،
الكبيرة منها والصغيرة.
كثيرة هي المشاعر التي تساورني وتسري في
أوصالي أثناء حديثي عن تجارب السفر وسبر أغوار الكتابة عن الترحال؛ كل شيء يمر
عليّ قد أكتب عنه بأريحية مطلقة عند بدءِ الحروف الأولى عن تجاربي الفردية؛ لكنني
أفكر مليًا في كيفية الكتابة عن تجاربي رفقة الأصدقاء ويبقى شرف التجربة أمرٌ بالغ
الأهمية كما أنّي لا يمكنني أن أحصي كل ملامح الوجود ولا سرد تفاصيل التفاصيل. لقد
أنهينا صفحة سوق "براتونام" في هذا اليوم وفي هذه الجولة لكننا لم نغلق
شبابيك الدهشة فهناك حكايات كثيرة وكثيرة لا تضيع في الزحام ولا تبتلعها الجدران.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام