كالمرايا نتلو الغياب في معرض السماء
(سكاي جاليري بتايا)
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- بتايا
يحيى المعشري
كالإسكافي أحاول أنَّ أصنع يومي وأنا أذرع
طرقات مدينة بتايا؛ لا يصرخ لا يصدر صريرًا مزعجًا لا
يتكلم كثيرًا وإذا تكلم يذعن له الجميع، صوته يخرج خافت كالصمت؛ هكذا كان يردد بين
الفينة والأخرى وهو يهامسني وكأنه يتلو الغياب؛ بينما عينانا تصطاد خطوات المارة
كضوء الشمس على جباه الذين يقصون حكاياتهم اليومية في مدينة بتايا، وبينما
الإسكافي يصنع الأحذية الفاخرة ويرسم بفرح طوائف واسعة من أنواع الصنادل والقباقيب
والأحذية منذ العصور السومرية والأكدية والآرامية؛ أعبث أنا بالأوقات الضائعة في
مدينة بتايا بين أرصفة فندق مارين بلازا والمطاعم العربية وأكشاك الفطائر وسفن
إليفن وشارع جهنم وشاطئ بتايا وخط الميناء الموصل إلى جزيرة كولان المعزولة وبائعي
الفواكه الاستوائية والمأكولات البحرية؛ محاولًا ملء يومي بأي شيء يقيني الوقوع في
شرك الأوقات المُهدرة فأعمل بمشورة الشاب البحريني حينما كنّا نُطل على محيط بتايا
من الدور 34 في فندق هلتون في مركز سنترال فيستيفال في حي "بانج لامونج"
وهو نفس الشاب الذي أشار عليّ عن مقر سكنه في حي "سوي بخاو"، صحيح أنّي
لم أخبره بأمر ذهابي للحي ولم ألتقِ به ثانيةً؛ لكني عملت بمشورته بعد أنَّ بحثت
عن موقع "سوي بخاو" وموقع "معرض السماء" والذي أنا بصدد
زيارته في الجولة المقبلة ويشتهر هذا المعرض باسم "سكاي جاليري" في مربع
"كاستسن بتايا في محافظة شونبوري" Kasetsin
Pattaya Chon Buri ومن حسن
الطالع أنّه يقع في المحيط العربي الذي أقطنه وهو ملاذ غالبية العرب والمعروف باسم
مثلث مارين أو مثلث العرب- أقبل اليوم التالي يحمل بشارات رمادية ويطوي مساءات
الصخب والخطيئة وحياة الليل والتسكع بين الحانات، كان يومًا من أيام فبراير
الصيفية والمناديل تلاطف الجباه المتعبة من شدّة الحرارة، يفضل البعض قضاء أوقات
الصباح والظهيرة في هذه الأجواء في المراكز والمجمعات التجارية وهي غير مناسبة
للرحلات البحرية خاصة لمن أتوا من البلدان المعروفة بالأجواء الصيفية الحارة وبعد
تناول وجبة الغداء في رواق مطعم أبو سعيد وهي وجبة برياني بالدجاج ضمن قائمة عرض وُضعت
على مدخل المطعم. تتذكرها الوجوه التي لوحتها شمس الحنين والوجد والغربة.
أنهيت غدائي وصلاتيّ الظهر والعصر في المصلى
الخاص للصلاة في مطعم أبو سعيد وكالعادة الكراسي الخارجية مجلسًا أنيسًا للكثيرين
منذ أزمنة بعيدة؛ يحتسون الشاي أو يتلمظون قهوتهم السوداء مع قليل من التأمل
والاسترخاء وتبادل أطراف الحديث مع من يتشاطرون معكَ أحوال السفر إما زائرًا مع
الأصدقاء أو مسافرًا لوحدك؛ والسفر الفردي في مملكة تايلاند له محبيه ومريديه في
هذا الشطر الآسيوي- كنتُ قد تعرفتُ على رجل في منتصف العقد الخامس من العمر،
صومالي الجنسية ويدعى "عبد الرحمن" ومع كثرة اللقاءات بيننا في هذا
المكان تبادلنا الأرقام والرسائل؛ كعصافير خفيفة وقطرة ندى تتدلى من الأعلى، كان
عبد الرحمن" قادمًا قبل يومين من دولة عربية قرر زيارتها لأول مرة والغريب أن
إقامته بها لم تدم أكثر من ثلاثة أيام وعلل ذلك لعدم ارتياحه وعدم تقبله المعاملات
اليومية من سائقي سيارات الأجرة والحياة العامة بشكلٍ عام، فقلت سبحان الله لسنا
مثل بعض نحن بني البشر في تقبل البلدان في السفر؛ كما أننا لسنا مثل بعض في
التعاملات اليومية مع بعض؛ لقد زرت ذات الدولة أربع مرات وكانت تلكَ الدولة واحدة
من أفضل الدول التي زرتها؛ عَبِرت مقارنات من نافذة مهتزة فأرجأت ابداء رأيي
مستمعًا له كإصغائي لحبات المطر من ذات المكان على وقع ديمة عابرة على أقدام
الذاهبين والآيبين؛ لقد ألغى عبد الرحمن فكرة قضاء إجازته في تلك الدولة العربية
فقرر شدّ الرحال إلى مملكة تايلاند وهي الزيارة الأولى له- لا يعرف عنها سوى أنها
بلدًا سياحيًا تشتهر بالتدليك والاسترخاء والحدائق والمتنزهات والمناظر الطبيعية
الخلابة والأجواء الاستوائية الصيفية وهي أرض التماسيح والفيلة والفيل بالنسبة
للتايلانديين هو ضمان النصر في ساحات المعارك وهو الحيوان الوطني والذي يحتفل به
في الثالث عشر من مارس من كل عام.
غادر عبد الرحمن البلد العربي وحيدًا وقد حطّت
طائرته في مطار "سوفارنابومي" الدولي في العاصمة التايلاندية بانكوك قادمًا
إليها ليس من "بريطانيا" وهي الجنسية التي حصل عليها ولا مقر السكن
الحالي في مدينة "مراكش" المغربية وكان يتهجد بالدعاء أنّه غادرها قبل
وقوع الزلزال المدمر ومن المطار استقل سيارة أجرة خاصة متوجهًا إلى مدينة بتايا
ومن المطاعم العربية تعرف على الكثيرين من العرب والخليجيين على وجه الخصوص وتحدث
كثيرًا عن الصومال أرض البخور والآلهة والعطور وعن صومال الهوية والهجرة والوطن
وصومال التائهة بين الثروات والأمن والجفاف والجوع؛ وأجمل ما كان يتحدث عنه الشعر
والأدب والثقافة ارتياحه النفسي والشعوري في هذا البلد؛ تحدث "عبد
الرحمن" كثيرًا عن بريطانيا والحياة فيها والغلاء الفاحش والتضخم والرهونات
العقارية وغيرها من جوانب لا تشعره بالأمان؛ كما تحدث عن المغرب والبحر المتوسط
والرابط بينها ووطنه الأم الصومال وتأملات في مفهوم الهوية بين البلدين ومكونات
الذاكرة والوجدان الشعبي والدور الأساس في تكوين الشخصية الذاتية، لم أسأل نفسي
كثيرًا فقد بات يعرف الغالبية أن الصومال بلد الهجرات وعبد الرحمن خير شاهد كما هو
شاهد على الهوية والوطن والعروبة؛ حدثته عن سلطنة عُمان كثيرًا وطلبتُ منه أنَّ
يتجول بين الصور الضوئية والمقاطع المرئية؛ ليتعرف على عُمان أكثر من حديثي عنها؛
كما دعوته لزيارتها والتعرف على تضاريسها وأنشطتها المحببة للمسافرين.
بالأمس القريب وفي منتصف الليل وبينما كنّا
جالسون على جلسات مطعم أبو سعيد مرَ أمامنا عدد من الهنود أحدهم يرتدي نظارة طبية،
تجره فتاة بيد وأصدقاؤه يحاولون حثه على السير بسرعة؛ لقد كان ثملًا إلى الحدّ
الذي أفقده صوابه وكأنه حكاية هاربة من صدر كتاب، عقب أحدهم قائلًا: فتاة
تايلاندية وخمسة شبان وسكران لا يملك من يومه إلا جسد يترنح ذات اليمين وذات
الشمال.
السفر يعلم التسامح" بنجامين ديزرائيلي
تعمقت علاقتي مع "عبد الرحمن" إلى
الحدّ الذي شعرت به أنه رفيقي الجديد الذي يؤنسني في الأوقات القادمة وهي الأوقات
التي أستشعر فيها حاجتي للحديث والتجول مع أحدهم وهذا ديدن الكثيرين في الغربة
والسفر؛ قد تكون وحيدًا في جولتك السياحية أو الاستكشافية؛ لكنك لن تكون وحيدًا
حينما تبدأ حواراتك مع الآخرين وتستشعر الروابط الخفية التي تجمعكم في السفر؛ صحيح
أنّها علاقة وقتية، لكنها علاقة مهمة؛ نعم مهمة لدرجة أنها قد تصنع لحظاتك الجميلة
في الغربة؛ كساحاتٍ خضراء ترتع فيها فراشات حور الغاب.
وفي
العصيرة قلت لـ "عبد الرحمن" هلّا رافقتني إلى معرض السماء الذي أخبرني عنه الشاب البحريني؛
عبثًا لم يرفض عبد الرحمن بل على العكس بارك الفكرة وسحب هاتفه المحمول من الطاولة
وهو يحدق في الأرجاء قائلًا: أرغب بالمشي وليكن المكان الذي تتحدث عنه هو الذي
سيحتضننا في قادم الوقت ونمشي به كثيرا؛ سنمضي معًا حيث نلاحق الحوريات الثلاث
والمرايا والصور والمقاطع المرئية التي سنخلدها للذاكرة؛ ضغطت على تطبيق البولت؛
وهو تطبيق التنقل الشامل وإذا بالسيارة تقف قبالة درج مارين بلازا عند عارضي
الخدمات السياحية- داس السائق على البنزين لم أكن أدرك أنَّ المسافة كما هو واضح
في مسارات التطبيق قريبة بل قريبة جدًا إلى الحدّ الذي يغريني للمشي حينما أكون
وحيدًا في قادم الوقت أو سأستكشف المكان عبر الوانيت وأنا على أعتاب البج بوذا في
"براتومناك" أطلق خطاي لأتتبع الأجنحة المخملية والفراشات والأشجار
الظليلة وأنسج من تلك الأوقات حكايات أخرى، ها هو السائق يشير إلى أننا قد وصلنا
إلى معرض السماء" وقبل ذلك أشار إلى مطعم الحوريات الثلاث بالقرب من هذا
الموقع فألقينا نظرة خاطفة في الداخل؛ على الفنادق وإطلالات البحر والسحابة
الصيفية التي تسترق النظر من تحت السماء والناس الذين ينساقون من كل حدب وصوب.
اندلقنا إلى معرض السماء وقد تبين لنا أنه مطعمًا وواجهة بحرية جميلة؛ مسكونين بدهشة الطريقة الأنيقة التي هُيأت فيها الممرات وأنا هناك في المكان لم أكن أعلم أو أضع في قرارة نفسي عن جدوى الكتابة عن مثل هذه الأماكن فأرجأت حتى التفكير في الكتابة أو عمل تغطية خاصة بالمكان بالقدر الذي كنتُ وعبد الرحمن أول مرة نشترك في جولة في أرض الفيلة- هل يُحب عبد الرحمن التصوير أو لا يحب وبينما كنت لا زلت غارقًا في التأمل بين حقيقة المكان والصورة الذهنية التي تسكن وجداني فأطلقت صيحة هادرة بالكاد تخرج وشاركني فيها عبد الرحمن؛ عليكَ أنَّ لا تفوت توثيق هذه اللحظات يا "يحيى" نظرنا من الرواق العلوي للأسفل ومعنا جموع بشرية؛ فتبدت هناك حيوات أخرى وتفاصيل كتفاصيل محراب البحر وذرات الرمل وقوارب شراعية بألوان زاهية وكراسٍ تستلقي عليها الأجساد المتعبة؛ لم نكن نعلم أن هناك طريق خاص في مرمى البصر، يوصل للبحر- بدا الأوروبيين على الشاطئ بملابسهم الشاطئية التي بالكاد تغطي عوراتهم؛ هم نزلاء أحد الفنادق في هذا المحيط وهي بعيدة عن أنظار أبناء جلدتنا بمقاييس الزيارات- الساعة الآن تشير للخامسة مساءً وعلينا أنَّ نستمتع بالأجواء الشاطئية ودرجة الحرارة بدأت تقل شيئًا فشيئا؛ فورًا هرعنا ننزل من درج ملتوٍ وفيه أخذنا بعض الصور التذكارية- بدأنا نحدق في المساحة المخصصة لزائري مطعم "معرض السماء"؛ فلاحت شجيرات خضراء وأقدام تعبث بالطريق عائدة من حيثُ أتت.
وفي البعيد تحيط بالبحر زاوية مبهرة أخذنا
الوقت ونحن نمرقها إلى أن شارفنا على العودة إلى مثلث العرب؛ فقد أعلن الليل سدوله
فصعدنا للأعلى وهناك تأملنا في طاولات الطعام والعشاق والعائلات وانعكاسات أضواء
الليل على المكان وكأننا أمام لوحة أخرى تتبدل بين الزمنين؛ اللوحة النهارية ولها
محبيها واللوحة المسائية ولها مريديها أما نحن ففضلنا تجربة الغروب وما قبل الغروب
والمساءات الحالمة.
قال عبد الرحمن: من طاولة الطعام التي
اخترناها؛ ألقِ نظرة إمعان يا يحيى على كل زاوية في مطعم معرض السماء وتأمل المكان
وكأن الموجودين أمام لوحة يتناوبون على رسمها فيتجول الندل بين الطاولات؛ يتأبطون
قوائم الطعام؛ كما يتأبط بائع الأخبار جرائده؛ هذا يعرض عليكَ أصناف الأطعمة
التايلاندية والعالمية وتلكَ تهيئ الطاولات للزبائن الجدد- أما نحن لم نأتِ في
حقيقة الأمر لتناول الطعام بقدر حبنا خوض غمار التجربة وسبر أغوار الأماكن الأخرى
والجديدة من هذا الشطر التايلاندي ولا يمكننا تفويت شغف التجربة؛ فهنا في "معرض
السماء" الذي تجتمع فيه السماء والعروض البانورامية وأحزمة النور وكل ما
يتعلق بالطبيعة والبيئة والناس؛ أتينا إلى هنا عابرين فأسجل شهاداتي المتواضعة
حكايات وقصص يومية مع شخصيات شاركتني شيء من بريق الحياة وتقلباتها؛ لعلها تَعبر
بين عشاق ومحبي مملكة تايلاند نصًا خجولًا في دفتر السفر؛ كما عبرت رواية ماركيز
"مئة عام من العزلة" حدود الزمن
نصوصًا سحرية تخطت المحيطات والقارات.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام