في منطقة بانغلامفو؛ نتتبع سديم خواسان رود (حيّ الرحالة)

يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- بانكوك

يحيى المعشري

خرجنا ذات صباح نرتاض على ضفاف تشاو فرايا- كان ذلكَ في أيام صيفية من ينايـر الذي بدأ يرسل أشعة الشمس على بريد الجباه المتعبة وحين العودة مررنا على محل فاطمة شوب" نبتاع قليل من المراهم التي تُصنع محليًا ويُقبل عليها أبناء المنطقة؛ كأيقونة تايلاندية في نانا؛ على أنَّ نتناول وجبة الغداء في مطعم "البتراء" الشهير بمطعم "أبو دبة" وفور الانتهاء قلتُ لزملائي "فهد الجابري" و"ناصر الرحبي" هَلُمَّ نذهب إلى هذا الشارع في هذا الحيّ؛ كنتُ أفتح صفحة في هاتفي من محرك البحث بها بعض الصور القديمة، فأجالوا ببصرهم إلى هاتفي يمعنون النظر لعل المكان هذا يرضي فضولهم- كنّا نقضي يومنا الثالث في العاصمة التايلاندية بانكوك؛ قادمين من جزيرة بوكيت لؤلؤة الجنوب التايلاندي- تبادلنا نظرات سريعة ودون أنَّ ينبس أحدهم ببنت شفة في بادئ الأمر فعقب "ناصر" قائلًا: هل هو بعيد عن النانا وعلى أي وسيلة نقل سنقصده وأهمها هل زرته سابقًا وإذا كان بالقرب منّا في هذه المنطقة من بانكوك لا نحبذ المشي في هذه الأجواء الحارة؛ أجبته على سؤالهِ عن زيارتي لهذا الحيّ من عدمه؛ نعم زرته قبل ثلاث سنوات أو أقل بقليل رفقة صديق السفر إلى هذا الشطر الآسيوي "فهد الحسني" وقد تعرفت عليه عن طريق صفحة أحد الأصدقاء في الفيس بوك كاتبًا عنه "خواسان رود "حيّ الرحالة" وهذه العبارة أي الأخيرة أكثر ما شدني وأثار فيّ الفضول لتجربة زيارة هذا الحيّ متى سنحت لي الفرصة لزيارة مملكة تايلاند وبما أننا الآن يلثمنا شعاع بانكوك فلنكن كالعشاق الذين يكبر حبهم وحب هذه العاصمة لقد كانت زيارتي السابقة عابرة وفي وقت المساء ولنقلب الصفحة اليوم لربما أعطي انطباع آخر وما يهمني أكثر هو انطباعكم عند العودة.

حلّ وقت العصر وأدّينا الصلوات المفروضة والأدعية في فندق "جريس" سائلين الله القبول؛ فانحدرنا من "جريس" للشارع القريب ترمقنا أعين الفتيات وكأننا في أسواق النخاسة وفي اليسار تتسمر عربة الفواكه؛ نلوح بأيادينا لأحد سائقي "التك توك" وقبل أنَّ يتحدث وحتى لم نترك له المجال ليبادلنا السلام صارخًا في وجهه "خواسان رود" قرأتُ أمارات الدهشة والاستغراب على وجهه في حين همّ "فهد الجابري" بالصعود دون أنَّ يستفسر عن السعر والمسافة- دسست يدي في جيبي مخرجًا مبلغ (150) بات ولم نترك له المجال في العرض والطلب ولا القبول والرفض، استفتح السائق حديثه بعبارات "بم بم" ويضحك بهستيرية أعقبها بعبارة "صابون" وغيرها من عبارات هي مألوفة عند سائقي "التك توك" في النانا حين يكون زبائنهم من فئة الشباب؛ كان لصمتنا غصّة وجع أو هو اعتراف ضمني أن غايتنا الذهاب إلى حيّ "خواسان" ولا يمكننا إضاعة المزيد من الوقت؛ حتى لا يُدركنا الغروب ونحن في الطريق وبانكوك في بعض الأحيان تكتظ بالزحام فنصبح كالسنونو عاشق السفر ما وراء الغروب وتهرب منّا جماليات الأمكنة في الزمنين "النهار والمساء" انطلق السائق وهدير "التك توك" يتطاير في الأرجاء؛ مخترقًا السيارات بحرفية وسرعة قصوى بعد أنَّ عرف مطلبنا وبعد دقائق وصلنا إلى الدوار المفضي "لقوس النصر" في بانكوك؛ قلتُ للزملاء نحن الآن على مقربة من الحيّ في منطقة " بانغلامفو" Banglamphu بعد دقائق أخذ السائق مكانًا بذات السرعة التي يذرع بها شوارع بانكوك فدَبَّ الخوف فينا قبل أنّ يلوح لنا لقد وصلنا وأشار إلى أحد الأزقة بسبابته؛ اسلكوه؛ أي ذلك الطريق؛ ثوانٍ معدودة وأنتم في قلب "خواسان" حمدنا الله أننا وصلنا في الوقت المناسب وقد تبقى نصف ساعة على موعد الغروب.

أفضّل زيارة هذا المكان في هذا التوقيت قلت للزملاء: وقد درجت زياراتي لعديد من الأمكنة التايلاندية قبيل الغروب؛ بغية مشاهدة حياة النهار والحياة الليلية؛ حيث تبزغ أحزمة النور- دخلنا الشارع ولا زال ضوء النهار يغازل حيّ "خواسان" نبعثر الخطوات لتتبع أسرار الطريق وحكايات الشعب التايلاندي الذي يفضل زيارة هذا الحيّ كثيرًا، يقضي أماسيه وليالي العربدة بين الحانات وأقداح المشروبات الكحولية في هذا الشارع الممتد، يعمرون طاولاتهم بالمأكولات المحلية الداخلة في شبهة الحلال والحرام في ديننا؛ كما يأتيه المسافرين والرحالة روّاد الحفلات الليلية ونوادي الرقص والحانات المكشوفة.

 

أرخى الليل سدوله وبان سديم السماء وبعثر الليل آخر الأضواء النهارية وتلاشى الهدوء الذي عشناه قبل قليل وبدأ الصخب يعم في الأرجاء ويطن على آذاننا- الساعة السابعة والنصف مساءً تشير الساعة الآن بتوقيت تايلاند و "خواسان" يحتسي المارة وباعة الأكشاك والشراة والمتسولين والمجانين وبائعي المخدرات- أما باعة الأكشاك هنا مثل بقية المواقع كل شيء مسموح ومباح، شاهدنا أصناف الأطعمة المجهزة والأطعمة التي تعدّ على طاولة العرض سريعًا- الروائح تنبعث في الأرجاء والأصوات تتعالى، لمِحَ "فهد" أحدهم يبيع الحشرات كما لمِحَ "ناصر" آخر في كشكه يبيع التماسيح وأنا مثلهم لمِحتُ كل تلك الأشياء وتظاهرت وكأني لم أرَ شيئًا.

أخذَ أحدهم يذرع الشارع الوسطي في مساحة فاضية، يتأبط طائرة ورقية مضيئة كالنجم؛ تهوي على الأرض باتجاهنا وكأنه طائرًا أصابته نبال القناصة في جبال عُمان- هوت علينا كأنها تشن هجومًا فترتفع مرةً أخرى في السماء في مشهدٍ أبهر الحضور؛ كما أنَّ البنايات تبدو صغيرة في هذا الحيّ؛ ترقب الغرباء على حواف تشاو فرايا" على مقربة من هنا- أما نحن واصلنا بعثرة خطواتنا بتؤدة ويعبر معنا أعراق شتى من البشر بمختلف الأجناس والجنسيات؛ هذا أحدهم يبدو أنّه أوروبي يحملُ حقيبة على ظهره وتخفره زوجته لربما أتوا لقضاء شهر العسل في هذا الحيّ وفي المساء يلثمون أفواههم بالجعة وهم يمارسون دور الرحالة.

تتبعت هذا الحي في محرك البحث ويكيبيديا لمعرفة القليل من كثير فتبدى أنه شيد في عام 1892 للميلاد في عهد الملك راما الأول ويبلغ طوله كيلو متر واحد وفي الجهة الشمالية من هذا الحيّ وفي البقعة التي نتجول بها يظهر "القصر الكبير" ووات فرا كايو" وكان من ضمن المشاورات زيارة هذا القصر الكبير الذي شيد في عهد الملك راما الأول في عام 1782 للميلاد وهو رمزًا خالدًا لمملكة تايلاند وكان مقرًا رسميًا لملوك "سيام" ولأن وقت الزيارة من الفترة الصباحية إلى الرابعة والنصف أرجأنا زيارته إلى أوقاتٍ أخرى.

تثاءب المساء ونحن نزدرد الأطعمة في متاهة الشك والشبهة فاحتسينا شراب جوز الهند اللذيذ ولا زال حيّ "خواسان" يهجع لحياة الصخب وليس كـ بوشر قال "فهد" وقد أوقظ حادس الضحك فينا؛ عقّب "ناصر" نحمد الله أننا لا نعيش هذه الأوضاع في شوارعنا العامة فسرنا بخطوات متثاقلة وتصادف أثناء تجوالنا بين المحال إذا بساحة بها شاب يرتدي قمص أزرق بلا أكمام وحذاء خفيف وبيده كرة قدم تعبث بها أقدامه تارة وتارة أخرى يشرف على إناء فارغ كان قد وضعه للمبهورين بعروضه ليضعوا فيه بضع "باتات" لم أتمالك المشهد فقررتُ مشاركته ذات العبث وقليل مما أجيد من مهارات وأنا أمارس معشوقتي الأولى كرة القدم في أحياء بلدة بوشر في العاصمة العُمانية مسقط.

بعد أنَّ تمكنا من الفرار من هذا الصخب شعرنا بشيء من الطمأنينة فدخلنا في طريقٍ ملتوٍ يفضي إلى سكة وجدنا بها بعض الكلاب الضالة وامرأة ترتدي الأسمال في حالة سكر لربما هي من متعاطي المخدرات؛ حينها ألقينا أجسادنا على أقرب رصيف في قارعة الطريق نرتاض قليل من الوقت، بعد ذلك استكملنا البحث عن أماكن الإقامة للرحالة بما أنَّ "خواسان" يُعرف بحيّ الرحالة؛ بدأت أعيننا ترقب أبواب الفنادق الصغيرة وحالتها العادية والنزل الشبابية المتواضعة والشرفات المتدلية بهدوء كهمساتنا الخفيضة التي بالكاد تُسمع في هذا الممر؛ خشية انتباه الكلاب الضالة ومتعاطي المخدرات والمسكرات ولأننا نؤمن في قرارة أنفسنا بأهمية الشعور بالأمان النفسي والحالة الشعورية المطمئنة والآمنة في مكان الإقامة أومأت للزملاء "فهد" و "ناصر" هل تجربة السكن في هذا الحيّ ستكون مجدية وملائمة لنا حال قررنا قضاء ليلة نخبئها في ذاكرة السفر والاستكشاف؟ كان الرد على وجه السرعة بالطبع لا، سرني الرد السريع قبل أنَّ نتوارى عن حيّ "خواسان"، حيث نكمل قراءة بقية المشهد من نقطة البداية في النانا.

أنا وفهد الحسني في أول زيارة 
















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر