نانا ترياق الحياة العربية في بانكوك

يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- نانا بانكوك

يحيى المعشري

 كملحمة تاريخية بدأنا نتقاطر على حيّ نانا؛ الذي استقبل العرب والمسلمين من مختلف مشاربهم وجنسياتهم منذ عقودٍ زمنية متتابعة وهناك من سبق الجميع وفتح باب النانا من أزقته الصغيرة وكشف أسراره ليبصر الزوايا الخفية الغارقة في ذلكَ الحيّ المفعم بالحياة فتلتقي فيه أبناء المنطقة كما تلتقي المدن والقرى التايلاندية وأريافها وجسورها الرئيسية على ضفاف قديسها "تشاو فرايا، فأمرق سريعًا على ويكيبيديا للتعرف على أصل النانا وإلى من يُنسب؛ فإذا بي أُبصر صورة رجل أعمال تايلاندي وسياسي؛ حليق اللحية والشارب يميل إلى السحنة الهندية من تقاطعات الوجه ويدعى "ليك نانا"، وتبوأ نانا هذا عديد من المناصب وهو مؤسس الحزب الديمقراطي التايلاندي في نهاية الحرب العالمية الثانية وكان "نانا" يلقب بــ "ملك بانكوك" لامتلاكه قدرًا كبيرًا من الممتلكات على طول طريق "سوكومفيت نانا" بانكوك.

شمسٌ بعيدة تتوارى خلف البنايات؛ حيث فاطمة شوب" يهفو إليها التجار والمهووسات والمتيمين بصيحات الجمال والتجميل وتبوح بأسرارها في هذا الحيّ؛ فالشوارع أضحت عربية والمطاعم والمحال التجارية نُقشت بأسماءٍ عربية خالصة؛ وكل شيء هنا يوحي بالعروبة وفي المحيط القريب من فندق جريس" يتجاوز أحد العرب الأنظمة عارضًا السجائر الإلكترونية الممنوعة خلسة وآخر تجده باسطًا يديه؛ يدلق عليك بأدب وبإلحاحٍ جم وفق الأنظمة الدخول إلى الملهى الليلي؛ كنت دائم التساؤل بيني وبين نفسي، هل هذه الرسالة التي نريد ونحن من نعتز بأدباء المهجر وشعراؤهم أم الظروف السيئة في الأوطان من يجبر هؤلاء على هذه التصرفات، تنطلقُ صيحة هادرة من محركات التك توك التي تخترق الطرقات الضيقة في حين لا زلنا نبوح بأسرار نانا فنشم روائح أطايب البخور والمعطرات في الأرجاء وكأن نانا يتماهى مع سوق الحافة في محافظة ظفار، وتلك امرأة خليجية تتخطى أزقة أسواق نانا المتناثرة وكأنها تمضي بسلام في أسواق المباركية ومطرح ونزوى وسوق واقف وديرة وسوق المحرق الشعبي وعكاظ ودومة الجندل وأسواق تتباهى بها العمائم والغترات الخليجية.

"المسافر يرى ما يرى، والسائح يرى ما جاء ليراه"

جيه كيه تشسترون

لقد أمضيتُ أكثر من ثلاثين عامًا على زيارة مملكة تايلاند- وقد كنتُ من مُحبي زيارة جمهورية الهند ومنذ اللحظة الأولى التي تعرفت فيها على تايلاند في ثمانينات القرن المنصرم وهي اللحظة الفارقة لي على المستوى الشخصي في مجال السفر إلى هذا الشطر الآسيوي؛ عندما حطّت فيها قدماي أرض سيام؛ كان ذلك تعقيب رجل إماراتي الجنسية؛ يجلسُ في الجلسات الخارجية لـ"كرك نادية" الذي يملكه رجل من دولة الإمارات العربية المتحدة وتديره امرأة تدعى "نادية" واشتهر المقهى باسمها وأضحى علامة بارزة من علامات هذا الحيّ في بانكوك؛ أما الإماراتي الآخر هذا هو على معرفة بمالك كرك نادية"، كان رجلًا في العقد السادس من العمر؛ رشيق الجسم؛ قليل الحديث؛ ذا لحية خفيفة يكسوها البياض وعينين نظرتين- هادئ الطباع؛ كان وحيدًا يجلس باسترخاء تام يسند يده اليسرى على الطاولة والأخرى يستخدمها للعبث بأزرار هاتفه النقال؛ ومن كرك نادية في شارع نانا في العاصمة التايلاندية بانكوك بدأ حوارنا على وجه السرعة كالخطوات السريعة التي تنسج أحاديث الصباح والمساء في نانا- قال لي: قبل أيام لمحتُك في الجلسات الخارجية لمطعم أبو سعيد في بتايا؛ أجلت ببصري على المارة في المساحة الضيقة التي تحتضن بشر مختلفين في لونهم ودياناتهم ولغتهم وثقافاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، ينأون عن أماكننا ليس كرهًا فينا بل على القدر الذي يختلفون فيه معنا في ثقافة الأكل ونوعية الأطعمة التي بدأ بعضهم استساغتها وتقبلها؛ ملمحٌ بصري نشاهده كل يوم وفي كلِ مكان في نانا أجبته بعد أن تناولت وجبة خفيفة مكونة من خبز الرقاق والجبن وقليل من الزعتر، إضافة إلى الشاي الأحمر المنزوع من السكر؛ نعم هكذا أفضله بيمنا يفضله الكثيرين على لونهِ المرسوم في لوحة جانبية وفيها قائمة الأطعمة والمشروبات المقدمة من "كرك نادية. أومأ برأسه وتنهد قليلًا وهو يرتشف ما تبقى من الكرك في كوبه الزجاجي قائلًا: لقد تقاعدت عن العمل في السلك العسكري وأسرتي في أحسن حال ولله الحمد ومنذ سنوات والأحياء العربية في مملكة تايلاند هي المقصد الذي آوي إليه في زحمة المشاوير، تارة آتيها سائحًا وتارة أخرى للتجارة أو التسوق.

في الزيارات الأولى لي إلى مملكة تايلاند كان غالبية الناس لا يعرفون عن تايلاند الكثير وأنا منهم وقد يقضي البعض جل رحلته في مكانٍ واحد؛ متجاهلًا أماكن سياحية جميلة يهفو إليها محبي الاستكشاف والتعرف على حياة الناس أما أنا عندما وطئت قدمي تايلاند في العاصمة التايلاندية بانكوك، أقضي أوقات كثيرة في فندق جريس" في هذا الحيّ، وقتئذ لا توجد جلسات كرك نادية" الذي يظلنا في هذه اللحظة ولا جلسات "البيت الأبيض" الموارب لـ فندق الشرق الأوسط" وقد أصدمك إن قلتُ لك إننا كنا نجد صعوبة بالغة في الحصول على الأكل الحلال وذلكَ لعدم توفر المطاعم العربية التي تشاهدها الآن.

غادرت الرجل الإماراتي والطاولات الخارجية لـ "كرك نادية"؛ لأتقرب من تموجات الحياة في نانا وقد وقفتُ على ذاكرة سنوات خلت حينما خرجتُ من غرف فندق جراند لكي هوتيل" ومعي زملاء من بلدة بوشر؛ لألتقي أحد زملاء العمل وهو من المتيمين بالماركات التايلاندية؛ قاصدين محل فريدة علي للساعات المقلدة، أبصرتُ من الوهلة الأولى في الخارج أحدهم يستقبلك من أمام حجب لا تعلم ما بداخلها؛ فالأبواب موصدة والأضواء تخدش الحياء وكأني في حانة للراقصات والواجهة بها تحذيرات بعدم جوازية تصوير ما بالداخل من منتجات وسلع وحقائب وساعات، محل فريدة علي يتكون من طابقين؛ الأرضي للإكسسوارات والماركات العالمية المقلدة؛ بينما الطابق العلوي ينقسم إلى قسمين أحذية وحقائب جلدية وأقلام رجالية، في فريدة علي تطقطق الأبواب على استحياء وكأنك تخوض غمار مسارح لجرائم تمثيلية، نتحاور في الداخل بصمت؛ لكي لا نكتشف صراخ الحقائب المقلدة والأقلام والساعات الهاربة من حضن أمها لأمٍ بديلة ترعاها في نانا لنتعايش في المسرح التمثيلي في الحياة ونتباهى أننا نمتلك الرولكس والفيشرو والتيسوت وساعات أوميجا كما نمتلك حقائب توري بورش ومايكل كورش ودنكي وأقلام مون بلان وستار ليغاسي وتراديشن وسوميت المقلدة بأنواعها وأحجامها التي تبوح بأسرار النانا حين التداول.

يأتي زوار سوكومفيت نانا" إما مرغمين للعلاج أو مغرمين تهتز أمانيهم نحو السماوات القصية والمطر وآتيها أنا كالكثيرين في أحوالٍ مختلفة وظروفٍ متباينة؛ بين العلاج رفقة العائلة؛ نتتبع خطى أصحاب الياقات البيضاء وملائكة الرحمة بجيوبٍ عامرة بما تبقى من أموال وبين متجولٍ سائحٍ أحب الحياة اليومية في نانا وبانكوك المفعمة بالحب الذي نجده أثناء الأحاديث المتبادلة وحينما يُطبق الصمت على النانا ولا أجدُ ونيسًا لأحدثه عن القناديل وبيوت الطين في بوشر وقلاع مسقط وحصونها وتاريخا؛ أتفرغ للتجول وأمشي بين ممرات سكة الصرافين؛ حيث صراف دبي ومثيلاته وهنا ليست خدمة الصرافة الرائجة فحسب بل يتعدى ذلك للخدمات السياحية الأخرى بين "سفاري وورلد" و"معبد بوذا الزمردي" و"سيام بارك" وكواسان رود "حي الرحالّة" و"سوق القطار؛ أخطر سوق في العالم" و"دامنوين سادوك العائم" وحينما أتجاوز محال الصرافة ألوح كالطفل على الظل الصغير قبالة فندق "الشرق الأوسط" وفيه ترتل الصلوات وتتلى آيات الله آناء الليل وأطراف النهار حيث مسجد "سوي سوكومفيت" أفضل ما يمكن أن تشاهده في هذا الحيّ؛ فتتأنق المحاريب بأصوات المصلين وقارئي القرآن وحافظي الأدعية، وفي المقابل يُطل عليّ مطعم حفيظ، فجلسات المقاهي الحديثة التي تظم أبناء المنطقة، فعارضي خدمات التدليك بين الهداية والغواية وأستمر في تطوافي بين البنايات وكأني أطوف بين السعي والمروة.

وفي السكة التي تتجاوز فندق بغداد مقر إقامتي الأخيرة، أطل عليّ فندق جريس" معرض الإغراءات ليستريح الهائمون في بهو الفندق الذي شكل ذاكرة من ثمانينات القرن المنصرم لأبناء المنطقة وغيرهم؛ فيستبقون الكراسي؛ ثمة أحاديث حثيثة يملأها الكبار فيطول بقاءهم في "جريس" فينسيهم البعد عن الأوطان وشرور الأمصال والأدوية والأرجل المبتورة فيتبدل يومهم وتطول ذكرياتهم؛ لقد سارت أقدامي تطوي الدروب بالساعات في كل الزيارات؛ لأتتبع الوجوه المتشكلة كسلة فاكهة عند بائعة عجوز أمام المطعم اللبناني الذي يعد الشاورما بأحجيات لبنان المهجر وشعرائها أبو ماضي ورشيد أيوب وأمين مشرف وإلياس فرحات يتقاسمون الحياة وفق ظروفها وأحوالها والشوارع مليئة بالسيارات والباصات والمارة. وبداخل مطعم البتراء نصحو صباحًا ومساءً على صوت أبو دبة وأطعمة "العصيد" و"المندي" و"المغصوب" الممزوجة بثقافة سيام "التوم يوم سوب" و" سلطة البابايا" و"الخاو باد" و"التوم يم" فننساق إلى تمازج الثقافات دون اكتراث طالما أننا نأكل ونشرب ونمضي في طرقات نانا بأمانٍ وبأحلامٍ نتلو الحكايات كعزف العصافير.

في نانا يندفع عليكَ بائعٌ عربي على الطرقات؛ بإصرارٍ مبالغٌ فيه ويتكرر المشهد مرات ومرات؛ قد تتجاوب معه في بادئ الأمر في سفراتكَ الأولى وتتجاهله بأدب في المرات القادمة؛ نظير تعدد الزيارات وتراكم التجارب والخبرات وتعدد الخيارات لديك؛ أمقتُ الإلحاح الدائم إلا أنّي أعلم تمام العلم أن العارض هذا أجبرته الظروف أنَّ يقتات من الزبائن قوت يومه بهذه الطريقة التي لا أحبها إطلاقًا؛ قد تكون مهمته ناجحة إذا استطاع كسب أكبر عدد من الزبائن لتزيد نسبته وحصته من الأرباح إنّها الهجرة وبؤس التغرب عن الأوطان.

في صيف ممطر ديسمبري وفي زيارة عائلية بدأنا نذرع أزقة نانا بفرحٍ بين بائعة الفواكه والجوافة الحمراء اللذيذة ومطعم نفرتيتي والحسين وقد حز في نفسي رؤية ذلك الرجل المبتور القدمين يزحف على الأرض بيديه وقد أثقله الإملاق في منظرٍ مؤلم طالبًا العطف عليه ونقده، تشاكسه خطوات العابرين فينكمش في الأمكنة أو ينام كهلالٍ معلق في جيد السماء. في نانا قد لا يعطي وصفي الكفاية للحديث عن الهاربين من الأوطان والمتعبين من الأمصال لكنني أجاهد نفسي لتتبع بعض خطواتي وأستمتع بثرثرة ساعة مع هذا أو ذاك أو أُبصر أسرارًا خفية يبوح بها النانا؛ كالعقرب التي تلدغ أرقام الوقت رقمًا تلو الآخر.

 


فاطمة شوب 

كرك نادية 






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر