في سوي بخاو؛ أتفرس تفاصيل سطور لا تقرأ كثيرًا

يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- بتايا

يحيى المعشري

ليست كل الأحياء مثل "سوي بخاو" هذه العبارة ليست كلمة فلسفية ولا فكرية ولا قول مأثور لأحفاد الملك "راما الأول" أو حكمة أُطلقها في مستهل كتاباتي عن هذا الحي في منطقة بتايا؛ وإنما هي بضع كلمات اندلقت من لسان أحد الشباب وهو بحريني الجنسية؛ في منتصف العقد الثالث من العمر؛ ذا لحية كثة وبنية جسدية رشيقة؛ مولع برياضة كرة القدم وقد صحب رفقاء له إلى مملكة تايلاند وبتايا على وجه الخصوص وهم من لاعبي المنتخب البحريني السابقين حد قوله، التقيت بهذا الشاب حينما كنت زائرًا ولأول مرة لأحد المقاهي في الدور 34 في فندق هيلتون؛ جمعتنا أجواء الغروب الكاشفة لمدينة بتايا من هذا الموقع، فانكشف بحرها وشوارعها وسهولها وأحيائها في صورة بانورامية تروق لي في وقت الغروب وما قبله بقليل، أصرّ الشاب على أن يضيفني القهوة وفي خضم الأحاديث المتبادلة وما أكثرها بين أبناء المنطقة في الأحياء التي يرتادها العرب؛ قال تدهشني المدينة من هذه الإطلالة كثيرًا وتبدو السماء من هذا المشهد في تناغم مع المحيط، تزينها أحزمة النور حينما يخيّم الظلام وتبدأ أنوار السيارات تبرق، توارت شمس العصرية وغطت سحابة ما تبقى من ضوء فأردف الشباب يقول: منذ فترة طويلة وأنا أسكن في ذلك الحي وكان يلوح بكلتا يديه من الأعلى وأشار إلى حي يدعى "سوي بخاو" ويعني طريق اللوتس الأبيض، لم ألتفت كثيرًا إلى حديثه في بادئ الأمر ولم أعره اهتمامًا فما أكثر الحكايات والأحاديث في الغربة- قررت زيارة هذا الحي لأسباب عديدة أهمهما أن الكثيرين من أبناء جلدتنا حينما يقصدون بتايا يروق لهم البقاء أيامهم بلياليها في هذا الحي وفي اليوم التي آثرت فيه زيارة "الحي" وهذا ما حصل فعلًا؛ ها أنا ذا أجر خطاي إلى "سوي بخاو" في وقت العصر مستغلًا ظل البنايات الذي يقيني حرارة الشمس الملتهبة وفي الجانب المقابل سوق ممتد لباعة الفواكه الاستوائية والخضروات وباعة الحلي وعارضي الخدمات بأنواعها في شارع "بانج لامونج Bang Lamung؛ دنوت من "سوي بخاو" بعد أسئلة حثيثة للمحليين والباعة الجالسين أمام الطرقات عن موقع السوق؛ فرأيت الحلاقين يعكفون على تدريب طلبتهم في المدرسة فنون الحلاقة وأغلب روادهم من المقيمين وبعض المارة- كانت خدمة الحلاقة مجانية؛ نظير كسب مهارات عملية يخضعون إثرها لتقييم مباشر من المدربين.

"خذ فقط ذكريات واترك أثر القدمين" رئيس سياتل

واصلت سيري وبعد دقائق قليلة ودون أن أعلم أدخل سوق "سوي بخاو" وهو من الأسواق المتنقلة ذات البضاعة المعروضة والخدمات اليومية التي نراها في أغلب مدن وحواضر وأسواق تايلاند؛ تجولت ساعتين من الوقت دون أن أشعر بالملل في أرجاء السوق؛ ثمة حراك بشري يشهده السوق وثمة أصوات تتعالى وأطعمة محلية ومقاهٍ تتوزع بين المحال التجارية القريبة، أطلقت قدماي بعد انتهائي من السوق لأختلس النظر على الحي وما يحوي هذا الحي وكانت سيارة الوانيت في الشارع تحمل بين طياتها عدد من المحليين والأوروبيين؛ البعض منهم يقف على مسندٍ على حافة الخطر؛ يمسك أحد المقابض بيدٍ والأخرى تتدلى؛ قد تمسك كيسًا به فواكه وما أكثرها أو طعامًا أو بضاعة وجدها عند بائع أو بائعة في الأرجاء، منتظرين وصولهم إلى وجهاتهم ليضغطوا على أحد الأزرار ويسمى "جرس" لحظتئذ ينزلون بسرعة لدفع أجرتهم بطريقة لا تخلو من السرعة؛ تجاوزت المشهد فاندفعت إلى الأمام لأرى بعض الأوروبيين أغلبهم من فئة كبار السن يصطفون على الحانات؛ لربما هم من الهاربين من الجمود في بلدانهم أم أنهم أتوها زائرين مثلنا ولا يمكن تجاوز إقامتهم الدائمة لسنوات طويلة وهذا ما ذكرته حينما تعرفت على أحدهم وهو ألماني الجنسية وأنا قادمًا في الباص الكبير من مطار "سوفارنابومي" وهو المطار الدولي في العاصمة التايلاندية بانكوك؛ متجهين إلى بتايا وقد أخبرني عن أمر إقامته في بتايا هو وزوجته أما ابنته فهي  تدرس في إحدى جامعات بانكوك وتزورهم بين الفينة والأخرى أو العكس.

مررت بين أحياء "سوي بخاو" لا أعلم هل تجاوزت حدوده الجغرافية أم لا زلت أتجول بداخله فأخذت استراحة قصيرة بعد تجوالٍ طويل استمر أكثر من ساعتين بين الأسواق المفتوحة المحلية المزدحمة؛ طلبت قهوة مرة من أحد المقاهي تصميمه الداخلي وما زادني إعجابًا به العدد الكبير من الناس بداخله وجلوس بعض الأوروبيين من فئة كبار السن على كراسٍ طويلة تتدلى أرجلهم على الأرض؛ يضعون مشروباتهم على طاولة خشبية وكأنهم يستعيدون ذكرياتهم مع السينما الأمريكية في أفلام "الكاوبوي"، أخذت قهوتي وجلست على كرسي مستقل واضعًا إياها في طاولة خشبية صغيرة مصوبًا وجهي باتجاه أحد الشوارع الداخلية وإذا بأحد الأشخاص تنهره امرأة أوروبية وتبدو هيئته غريبة؛ يرتدي الأسمال وأمارات الشحوب والوجوم في وجهه تنبئ  بالقدر المجهول، محدودب الجسم؛ تجاهلت الأمر وبدأت أقرأ ملخصًا لرواية "أحدب نوتردام" التي جرت أحداثها في أواخر العصور الوسطى في فترة الملك لويس الحادي عشر، للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو رابطًا هذا الرجل بشخصية "كوازيمودو" ذلك القس قارع الأجراس في كاتدرائية نوتردام الذي عانى من سوء المظهر ورفض المجتمع الباريسي له لكنه وقع في شباك فتاة جميلة تدعى "إزميرالدا" وكأي الروايات تناولت الرواية موضوعات اجتماعية حساسة كالفقر والظلم والعنصرية والرومانسية وغيرها من مظاهر تعيشها المجتمعات فأجلت بصري للرجل في "سوي بخاو" فشرعت إكمال ملخص الرواية حتى لا أقع في شرك تحليل الشخصيات فأنا هنا في بلد الابتسامة كما يقال ومثل هذه الظواهر لا بد أن توجد طالما إنها بلد سياحي يستقطب السيّاح من مختلف دول العالم أجمع.

غربت شمس "سوي بخاو" وأعلن الليل سدوله؛ فأخذ الناس يتجولون جيئة وذهابا وبدأت أنا أذرع شوارع بتايا بعد أن فرغت من احتساء قهوتي في هذا المقهى الجميل؛ متناسيًا أمر الرجل الأحدب والمرأة؛ فالحي بدأ يتنفس الغروب قبل أن أهم بالمغادرة فقد أصدرت معدتي فرماناتها وأنا على موعد قادم مع مطعم أبو سعيد الليبي؛ لقد أنهيت جولتي في "سوي بخاو" وأرجو أن تمر عليكم حروفي كالبلسم ففي داخل كل مسافر حكايات وقصص تختلف باختلاف المكان الذي يقصده إما مغامرة جريئة في الأحياء الخطرة أم تجول حميم في الأحياء الشهيرة كما هي جولتي هذه إلى حيّ "سوي بخاو".















في طريق سوي بخاو" تشاهد مظاهر تدريب الحلاقة هنا




 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر