رحلة إلى البوذا الكبير؛ كأسراب طيور مبللة بالمطر

يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- أونانج كرابي

يحيى المعشري

كسحابة ظللنا نعبر في الأرجاء دون وجهة معينة؛ فاليوم هو يومٌ استكشافي؛ بدأنا نذرع طرقات "أونانج" كرابي؛ بين البنايات والممرات والشوارع، نلتفت للنزل الشبابية وجلوس النزلاء قبالتنا  وغالبتهم من السحنات الأوروبية على كراسٍ تفضي للخارج باتجاه الجرف الصخري؛ حاملين أفكارنا كالجاثمين تحت وطأة الحلم كحمامة بيضاء؛ فابتسمت بفرح، ها نحن للتّو نفرغ من أداء صلاتيّ الظهر والعصر وقيل في الأثر أن طيران الحمامة البيضاء في السماء في الحلم يدلل على النقاء والسلام والاتصال بالله؛ ما أجمله من شهورٍ هذا الذي نعيشه في هذه اللحظة وإن بدا كالحلم، وفي نشوة الاندماج الروحاني في قلب مدينة "أونانج" وكعادتنا نفضل التجول بين أرجائها مشيًا وحبوًا وبأيادينا مظلات تحجب أشعة الشمس الحارة تارة وتقينا زخات المطر تارة أخرى؛ نقترب من بضائع الباعة متعللين بمتعة تحسس الأشياء والنظر إليها عن قرب؛ أليس التقائك بالأشخاص والتعاطي معهم وجهًا لوجه يُحسسك بالدفء وجمال الحياة؛ هكذا نحن حينما نخترق طرقات هذه المدينة؛ كان لهيب تذوق "الآيسكريم" الذي يُعدّ في  البقالات المكشوفة والتي تشبه الأكشاك في تكويناتها ونوعية خدماتها، داهمتنا أوقات العصيرة وهو الأوقات التي اتخذناها للتجول في أرجاء "أونانج"؛ بغية معرفة المزيد عن هذه المدينة وما هو السبب الذي أغرى العرب والمسلمين ليقيموا بها لتكون ملاذهم في زحمة المشاوير وكيف فضلها السيّاح على غيرها من مدن في هذه الجزيرة؛ فضّلت إرجاء الحصول على إجابة والاكتفاء بالتمعن والتوغل في كل زاوية؛ فكانت الحياة تنبض كأرواحنا التي تتصل بكل شيء، دون الاكتراث لمعرفة أدق التفاصيل.

تطبق أسنانا على تذوق الآيسكريم بتلذذ وكأننا لم نتذوق طعمه من قبل ويصبح رفيقنا فنقتحم الشارع المؤدي للشاطئ؛ لنستكمل ما تبقى منه في الساحة التي ينتصبُ فيها النصب التمثالي على هيئة سمكة وتسمى "سمكة أبو شراع" قبالة البحر فهي ليست مجرد سمكة فحسب؛ بل تعدى ذلك إلى قدسيتها ورمزيتها في الثبات والنضال والكفاح الخاصة التي يؤمن بها أبناء الملك راما الأول؛ إذًا هي طقوسهم وشعائرهم وهي جزء من ثقافاتهم وهي زادهم الذي يتجمعون عليه للتخاطب مع الحياة وفي أثناء وجودنا اليومي نلجأ إليها قبيل الغروب حيث تمازج ضوء الغروب مع بحر أندمان ورماله الناعمة البيضاء؛ فنرحل كلانا مع ألوان فيروزية غاية في الجمال، يعبث بها موج البحر ليرسم لوحة أخاذة يلجأ إليها الحالمين؛ أما نحن فكنّا نخلد في جلسة تأملية بلا مدى؛ نغوص في لجج بحر "أندمان" فنتيه في أمواجه ونضيع جميعًا "فهد" و "العاص" وأنا بين أزرار وعدسات هواتفنا- كان ذلك الوقت بالنسبة لنا بعد التجول بين المحال والأكشاك وما أكثرها في "أونانج" كرابي هو وقت من الأوقات المقدسة حالنا كالمحليين والسياح الذين يتقاطرون على كرابي من كل مكان.

"توقف عن القلق بشأن العقبات في الطريق واحتفل بالرحلة" فيتزهيو مولان

في اليوم التالي لاحت لنا غيمة ترقص في الفضاء وفي نفس المكان الذي نجلس فيه جلست بجانبنا امرأة يبدو من ملامح وجهها أنّها "عربية" الأصل وما زاد تأكيدنا على أصولها العربية؛ حينما ارتفع صوتها وهي تهاتف أحدهم باتصالاتٍ متلاحقة؛ بدا أنها تلقت مكالمة طارئة- لم ندرك جنسيتها من حديثها المخنوق والخافت؛ لكنها كانت ترسم لوحة حزن وكآبة على محيطها؛ تارة تغرق في بحر الضحك الهستيري وتارة تستكين لصمتها فتمسح دموعها بكمها الأسود- نظارة وجهها تبين قوة شكيمتها، ما تلبث أن تغير تلك البسمة حينما تعبس؛ ألقى "فهد" عليّ عبارة قائلًا: ثمة خطبٌ جلل لدى هذه المرأة لا نعلم ما هو لكننا في السفر نمر بالكثير من المجريات والأحداث ونشاهد عددًا لا بأس بهم من الشخوص الذين يحملون هموم أوطانهم وحيواتهم في الغربة؛ تركانها تعيش لحظاتها البائسة معللين بالقول " الحياة رواية جميلة عليكَ قراءتها حتى النهاية، لا تتوقف أبدًا عند سطرٍ حزين؛ قد تكون النهاية جميلة".

توارينا إلى وجهتنا الجديدة نبحث عن سائقة "التك توك" ذات الثلاث عجلات وتدعى "نوس" وهي امرأة على مشارف نهاية العقد الثاني من العمر، تمتلك وجهًا مشرقًا؛ كشلالاتٍ باردة- ترتدي شالًا على رقبتها وقميصًا أصفر اللون- تغطي خصلات شعرها بمعطفٍ أسود اللون وجدائلها لا تطير في سماء "أونانج" هل هي مسلمة أم لا؟ لا أعلم؛ يكفيني أن أجد معاملة لطيفة وحسنة في المكان الذي أقيم فيه والناس الذين أتعامل معهم" لا تحدثني عن الإسلام؛ دعني أرى الإسلام فيك"؛ مكتفية بتوصيل زبائنها إلى وجهاتهم التي يرغبون في هذه المدينة من هذه الجزيرة وما يدعو للدهشة ابتسامتها المطبوعة ورضاها دون تذمر وتأفف؛ أخذتنا إلى مشوارنا القادم حسب الاتفاق عصر الأمس وقد شاءت الأقدار أن نجدها أمامنا فحمدنا الله أننا قدرنا على الإيفاء بوعدنا لها وكانت وجهتنا القادمة إلى "البج بوذا" أو البوذا الكبير وهو مكان يلجأ إليه التايلانديين ومن يدينون بديانات توافق الديانة البوذية؛ يمارسون طقوسهم وتقاليدهم في صفحات تايلاندية تزهر كأزهار الأوركيد رمز البساطة والكمال ومن رحم أساطير المعابد يعزفون لحن الخلود وينفقون عليها الكثير من المال؛ نعم الكثير من المال على الرغم من أوضاعهم المالية المتواضعة؛ أما نحن فبالنسبة لنا مثل هذه الأماكن هي من المقاصد السياحية والثقافية المهمة في هذه الجزيرة كغيرها من الجزر والمدن، اتفقنا على مبلغ 60 بات وهو مبلغ زهيد بمقاييس الخطوط والمشاوير التي نقطعها في بعض المدن التايلاندية؛ على أن تنتظرنا مهما كان الوقت الذي نقضيه في حضرة إطلالات البوذا الكبير على جزيرة كرابي وتعود بنا إلى حيث نرغب- داست على زر التشغيل لتلقي عجلاتها على الشارع كما يلقي الصياد صنارته في عرض البحر وطارت بعد أن صعدنا ثلاثتنا عربة "التك توك" مأخوذين بدهشة التجوال في المدينة فمرننا على فندق "أفاني أونانج كليف كرابي ريزورت" الذي نقيم به أيامنا بلياليها في هذه المدينة، بدأت "نوس" تطوي الطريق بعربتها ذات الثلاث عجلات وهي وسيلة منتشرة في عديد من أرياف ومدن دول شرق آسيا ونحن معها مسكونين بهذه الوسيلة البسيطة؛ فانكشف لنا مسجد أونانج المنورة والذي يتميز بهندسته المعمارية البسيطة؛ كما أنه يشير إلى التمازج الجميل بين الثقافات والأديان والتقاليد في بلدٍ يدين أهلها البوذية؛ متأملين في الطريق والسماء ملفعة بالغيوم التي قد تنبئ بمطرٍ قادم؛ فكنا مشككين بين المتلهفين لهذه التجربة والوجلين منها؛ كيف سيبدو حالنا حال انهمر علينا المطر ونحن في القمة يحيط بنا "البوذا الكبير وغرباء لا نعرفهم ولا يعرفوننا.

قررنا خوض غمار التجربة فصعدنا الأعلى ركضًا ومشيًا بعد أن أنزلتنا "نوس" في مساحة تُطِل على طريقنا وهي طريق العودة فكانت جميلة ومحاطة بالأشجار والبساتين الكثيفة وفي الأعلى إطلالة البوذا شاهقة مزينة بأنواع الزخارف التي يتميز بها التايلانديين صعدنا رويدًا رويدا في البداية بخطوات سريعة ومع الوقت بدأ يقل تسارعها فالمسافة إلى الطريق العلوية حادة وتحتاج إلى جهدٍ بدني؛ عدا أننا علينا أن نصعد الدرج المؤدي إلى القمة وهناك عزيزي المار بين هذه السطور أنتَ تسرح بين صلوات البوذيين وتأملاتهم؛ تحدق في الورود وتشكيلاتها المتناغمة؛ بأنواعها وأصنافها المنسقة وبين ما يسكنكَ من جمال حينما تناظر لوحة كرابي الخضراء من الأعلى فيطول بكَ الوقت، نسينا أمر المرأة التي تنتظرنا فقد ظللنا نتأمل أدق التفاصيل ونومض عدسات هواتفنا ما شئنا قبل أن ينهمر علينا المطر بغزارة، نعم؛ انهمر علينا المطر فلم نعرف بماذا نحتمي هناك حيث لا توجد مظلات ولا شيء يقينا غزارة المطر فكان قرارنا بعد أن قضينا ما يقارب الساعة من الوقت النزول وفيه نوع من الخطورة فالمطر جعل الإسمنت والإنترلوك أملس وزلق ومن الصعوبة علينا في بعض الأماكن النزول منها قبل أن نتأكد من مأمونيتها، طال بنا الوقت ونحن نحث الخطى بتثاقل فوجدنا "نوس" تلوح لنا عليكم أن تسلكوا هذه الطريق؛ هذه كانت تجربتنا لهذا اليوم لقد أدركنا فور عودتنا إلى الفندق أن الحياة تجارب مهما كانت بسيطة وتكمن قيمتها في قيمة ما نراه وننقله من تجارب.

هكذا كانت رحلاتني اليومية في أونانج كرابي رفقة رفقاء السفر "فهد" و "العاص"؛ قد لا تكون عظيمة في نظر البعض وقد يراها البعض على أنّها من مسلمات الحياة اليومية في السفر؛ أحاول أن أنقل لكم حروفي لتتراقص فرحًا بين أعينكم وجوارحكم وأحكيها لكم قصصًا نابضة بالحياة؛ لتكون بعد سنوات قصيرة كانت أم طويلة شيًا من نبض الذكريات.






هنا ظلت "نوس" تنتظرنا ونحن تحت رحمة المطر






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر