في أونانج كرابي نختال كأجنحة من ورق
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- كرابي
يحيى المعشري
ذابت أجسادنا وهي تختال في معمعة أجواء مدينة أونانج" في محافظة كرابي بعد أن بدأنا رحلة البحث عن فندقنا القادم من المجهول؛ كان علينا أن نحجز كل شيء مسبقًا؛ سأتخيل أنها عبارات خرجت صامتة من رفيقيّ "فهد" و "العاص" وهي أماني ليست من خيال بقدر ما ينتابنا من مشاعر استرجاعية نضعها بين لو وليت أو قد أُسرها في نفسي لا شعوريًا- كلنا الآن أسيري اللحظة ومعنا عدد من رفقاء العبّارة والوانيت العجيب- هرعنا بروية نبحث عن الفندق المناسب في هذه المدينة؛ بينما الخط الأول بالمدينة؛ أي أونانج قبالة البحر هو للمنتجعات ولا يقع ضمن خياراتنا في هذه الجولة؛ لأسباب عدة أهمها ارتفاع أسعارها وقد تكون أنسب للعشاق والحالمين بالاستجمام وحياة الاسترخاء أما نحن فهدفنا الاستكشاف لا غير- بدأتُ وفهد عملية البحث عن الفندق الذي سيكون ملاذنا خلال هذه الرحلة القصيرة وكأننا نبحث عن قشة في عرض البحر، فالأمر لا يقاس بعدد الفنادق والمنتجعات والنزل الشبابية في هذه المدينة وهي كثيرة ومتوفرة في كل مكان؛ بل بالرغبات التي توافق أمزجتنا وهي خيارات على الأغلب يبحث عنها بعض المرتحلين لتتوافق وما يودون، بيد أن "أونانج" رغم بساطة شوارعها بدت أغلب خدماتها قريبة وفي ملمح البصر وهذا ما أعطانا انطباعًا مريحًا من الوهلة الأولى.
تركنا العاص يحرس حقائبنا وأشياءنا؛ كالضوء الذي يغلف جسد النجمة التي تسهر إلى الفجر؛ تارة نبحث في الأرجاء وتارة أخرى نمسح تعبنا بمنديل الأمل؛ فلا زال التعب يُطبق على أجسادنا لولا القيلولة التي داهمتنا في العبّارة وكانت المنقذ والمعين لاستكمال بقية يومنا بذات الحيوية والنشاط؛ ها هو وقت العصر شارف على الدخول وبعد أكثر من ساعة ونصف الساعة من الزمن بين البحث في أرجاء "أونانج" وتصفح مواقع الحجوزات الالكترونية لاح لنا فندق "أفاني أونانج كليف كرابي ريزورت" Avani Ao Nang Cliff Krabi Resort ويتكون من جناحين؛ الأول وهو الرئيس المفضي للاستقبال وإجراءات الدخول والخروج ويفصله عن الجناح الآخر حوض سباحة محاط بجلسات تتيح لكَ البقاء لفترات طويلة والنوم العميق الذي يسبح بكَ في لجج بحر أندمان فترف عينيك بواقعية على إطلالة من بين المياه التي تخترق بعض الغرف في الأسفل- كما أن هذا الفندق مثل الكثير من الفنادق والمنتجعات والنزل يختبئ بعيدًا عن الجرف الصخري وهو أول ما يشدك ويُدخل الفضول في جسدك عند رؤيته- ما أجملنا ونحن نقفُ منتصبي القامة؛ متأملين هذا الجرف الصخري وتكويناته المكسوة بالاخضرار كتمثال حنون يقفُ في قمة جبل يحرس المدينة ويحميها من تطاير الأرواح الشريرة؛ ثمة مسارات تتخلل الفنادق تمشط طرقات ملتوية تنقلك من المدينة إلى الجرف الصخري فتعيش أحلام الإقامة تحت هذا الجمال الرباني.
أكملنا إجراءات السكن وهذا هو الأهم؛ كانت هذه بعض الكلمات التي بدأ العاص يدلقها ونحن نتكئ على أريكة جانبية بالقرب من أحد المكاتب السياحية في بهو الفندق الذي تديره امرأة تايلاندية وما أكثر التايلانديات اللاتي تجدهن في كل مكان في مملكة تايلاند وهن يدرن ويشرفن على مختلف الأعمال وفي شتى الميادين.
أخذنا قسطًا من الراحة في الفندق وهي لحظات لم تتعدى الساعة تخللها رحلات روحانية تجلت بالصلوات المفروضة وقرأنا ما تيسر من آيات فأطفأنا شمعة التعب ميممين السير لأكشاك المدينة مشيًا على الأقدام؛ حالمين برقة المشاوير؛ فرأينا المطاعم والمقاهي والأكشاك السياحية والمصارف والأخيرة متوزعة ومنتشرة في كل مكان؛ حامدين الله تعالى على أننا اخترنا هذه المدينة أو هكذا هو خط السير الذي وضعته موظفة المكتب السياحي في بوكيت فأيقنت أننا مهما اجتهدنا في عمليات البحث نبقى رهن التوجيه المخطط له وهو مدروس كما تبدّى لنا- دخلنا أحد المقاهي لنرتشف القهوة المرة ونتبادل الصمت والأحاديث؛ فأرجع إلى أول عروض انهالت علينا من امرأة شابة وهي بدينة الجسد؛ تكور رأسها بمنديل رقيق؛ تمارس عملها في كشكها السياحي وتتناول غداءها وبينما العاص استأذن للذهاب إلى متجر "سفن إلفن" القريب، بدأت هي تدلق علينا عروضها وبلكنة إنجليزية متواضعة، جولة بحرية أو رحلة إلى البج بوذا؛ جولة يومية في أرجاء "أونانج"، النقل في أي الأوقات من أونانج إلى مطار كرابي بتسعيرة تختلف حسب نوعية وسيلة النقل؛ ترددتُ وفهد في الإجابة قبل أن نكتشف المكان ونتعرف على الأكشاك والمكاتب السياحية وهي في كل مكانٍ وزاوية؛ بغية التعرف على الأسعار والعروضات المتوفرة- قلت لـ "فهد" مثل كل الدول والمدن العروضات التي تأتي من المكاتب في مراكز المدن القريبة على الغالب سعرها مرتفع- وبما أننا قررنا أخذ جولة في المدينة فلنرجئ جدول الرحلات في كرابي للقادم من الوقت- سحابة تلف أجواء "أونانج" فيهطل المطر سريعًا احتمينا بين مظلات المطاعم والمقاهي؛ نناظر المطر ينهمر فبدت أونانج ترقص كالفراشات في زوايا ومخابئ أصص الزهور، فالمطر يقلل التوتر ويزيد من فرص توافد السياح من منطقتنا العربية وكذا هي غالب الرحلات التي يفضلها المسافر في الدول ذات الأجواء الحارة والرطبة.
بعد دقائق فوجئت بصوتٍ قادمًا من خلف أحد الممرات
كان ذلك الصوت هو لسيدة شابة تعرض علينا أن تقلنا في أرجاء المدينة في عربة بأربع
عجلات؛ حدث ذلك قبيل الغروب وبابتسامة هادئة مصحوبة بنفس لطيفة قلت لها غدًا سنكون
هنا حاولي أن تتذكري هذه الوجوه؛ كانت تلك الكلمات تجري في أوردتها كشاطئ البحر في
واجهتنا وهو يستقبل الغروب فينعكس الضوء على رماله البيضاء، بينما نحن نقف بين
لوحة فنية بديعة فقد عُرف التايلانديون بقدرتهم على تجميل وتزيين أدوات الحياة
اليومية وجدران المنازل والمعابد؛ كذلك الشوارع ولوحات المحال التجارية تجدها وضعت
بطريقة أنيقة وجميلة تعكس الحس المرهف والإرث الثقافي لدى أبناء الملك راما الأول.
ها نحن نختال ونحن نمرق الشوارع والطرقات في أرجاء "أونانج"؛ نمعن النظر
في القلائد المصنوعة من المشغولات اليدوية والمعادن النفيسة، لقد حلّ المساء وبدأت
"أونانج" تشع كأحزمة من نور وتبرق المياه الزمردية في شواطئها وتزداد
خطوات السياح في طرقاتها وممراتها؛ تجولنا كثيرًا ولم نحاول تفسير كل شيء فهذا كان
ختام يومنا الأول وفي الغد حكاية أخرى علينا أن نتتبعها بخطى حثيثة قلت تلك
الكلمات بفرح وتوارينا في الأرجاء نختال كأجنحة من ورق.
في كرابي
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام