في عرض بحر أندمان؛ كأشقياء نُطارد كرابي
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- كرابي
يحيى المعشري
مخرنا عباب بحر أندمان عبر العبّارة المنطلقة من ميناء
راسادا في المدينة القديمة في بوكيت وذلك عند بدءِ صافرة الانطلاق وقد أخذ الكل
مكانًا خاصًا به بأمر من القبطان؛ بدت العبّارة صغيرة الحجم والركاب قلة؛
"فهد" و "العاص" و "أنا"؛ أخذ كلًا منّا مقعده
الخاص وهي عبارة عن كراسي خصص الواحد منها لثلاثة ركاب؛ أخذتُ نفسًا عميقًا وحمدتُ
الله أنني وحدي في هذا الكرسي أغفو في جنون الصمت ومن حولي أشخاصٌ مسكونين بذات
الرغبات وآخرين يعلقون في حائط الدهشة مشاهد لم تعتد أعينهم عليها؛ لم أُطل
الالتفات حولي وأنا أجيل ببصري في بطن العبّارة مستأذنًا الرفيق "فهد"
دون انتظار إجابته؛ من المناسب أن أغفو قليلًا لأستعيد حيويتي ونشاطي وأنا في عرض
البحر واضعًا أدوات التصوير وهاتفي النقال في منضدة جانبية.
بدا البحر صافٍ في الأفق كزرقة السماء الصافية وأماني
الأمهات وأمواجه تتلاطم عند عبور السفن والعبّارات واليخوت والزوارق الصغيرة فترسم
ذيلًا أنيقًا كلوحة فنان رُسمت بمزاجٍ عالٍ يشاكسها الصباح في عرض البحر- حاملًا
كلًا منا همّه وطموحه وأحاديث صامتة لا يمكن البوح بها لأحد؛ البحر وحده من يستقبل
بريد الأحزان وصك الآلام؛ لذلك يلجأ الكثيرين إلى البحر للنجوى والشكوى؛ وحده
يستطيع أن يستقبل حشودًا بشرية بأشكالهم وألوانهم دون الحاجة إلى معرفة جنسياتهم
وإلى أي طائفة أو مِلّة ينتمون- هو لا يريدك فَرِح أو حزين؛ كئيب أو منشرح الصدر،
عليه أن يحتفي بكَ كما يحتفى بالعشاق في كل الأوقات وعبر الأزمنة والعصور؛ مهما
كانت ظروفك ومشاعرك وأمانيك التي تخترق الأفق المزرق وغيمة أندمان في الخارج تسبح
كالسنونو في الأجزاء العلوية، بدأتُ أسترخِ فوق كفوفي على الكرسي، فأبسطُ يدي
للأسفل تاركًا أشيائي في حقيبتي المحمولة وأتذكر ما قرأت في الروايات عن أحجيات
المحيط الهندي المليئة بالأحداث المؤسفة، قلت لرفيقاي "فهد" و "العاص"
ونحن لا زلنا بعيدين عن مرفأ شاطئ "نوبرات تارا بير" Nopparat Thara Pier في كرابي وهو رصيف صغير مصنوع من ألواح
خشبية على ضفة هادئة ورمالٍ ناعمة؛ كما أنه مركز للعبّارات التي تسافر من وإلى
الجزر المحيطة ويبعد أقل من أربعة كيلومترات من منتجعات منطقة "أونانج".
كنا نستقبل الحياة بمرح ولا علينا من كلِ ما يدور في
الحكايات والروايات؛ فأنا ذات وقت ركبت عرض المحيط الهندي من جزيرة أنجوجا متجهًا
إلى جزيرة بيمبا المعروفة باسم الجزيرة الخضراء في "زنجبار" وعندما كنّا
نمخر البحر يقص عليّ أحد المحليين ويدعى يوسف عن هذا المحيط بغصة عن قصص الأرواح
التي طارت في عرض البحر وقد كتبت ذات وقت في مدونتي الخاصة في معرض كتاباتي عن
زنجبار أندلس أفريقيا المنسي وأشار يوسف وقتئذ إلى ما يُدعى بالغرقة وهي عوامة
تلتهم القوارب الصغيرة ذات الأشرعة الهوائية ودقل السفائن البدائية وقد التهمت
مئات بل آلاف المحليين من الذاهبين والآيبين إلى هذا البر عبر هذا المحيط وهكذا هي
الرحلات البحرية سابقًا وقد اختلفت في عصرنا الراهن بتأمين الاحتياطات وإجراءات
السلامة ونوعية السفن المستخدمة.
ها نحن على مشارف الوصول إلى مرفأ شاطئ "نوبرات
تارا بير" Nopparat
Thara Pier في
كرابي وقد داهمنا النوم فغططنا في نومٍ عميق- ثمة صورة مهزوزة على حلمٍ خاطف
راودني قبل أن يعتلي صوت القبطان في المقصورة الأمامية وبلكنة تايلاندية إنجليزية
متواضعة قائلًا: نحن نقترب من الضفة الأخرى، المرفأ يبدو صغيرًا جدًا وقلة هم من
أبناء جلدتنا من يقصدوه فأغلبهم يفضلون التنقل إلى كرابي أو العكس إلى بوكيت عبر
البر إما بالسيارة أو الباص مع إجماع الغالبية أن المسافة بين هذه الوسائل أجمع
شبه متقاربة عدا أن السفن والعبّارات تجربتها مثيرة وتجمع بين الطريق البري
والبحري للمبحرين من جزيرة بوكيت والعكس.
في الجانب الأيمن من العبّارة قبالتي تجلس فتاتان يبدو
من سحنتيهما أنهن أوروبيات أو من البلدان المجاورة- لا تتحدثان كثيرًا سوى همسًا؛
تحملان حقيبتان كبيرتان كتلك التي تُحمل في الأسفار وغالبًا يحملها الرحّل الذين
لا يعتمدون على الحقائب المجرورة التي نحملها نحن في أسفارنا، هل هن وحيدات أم
جاءتا رفقة عائلتهن؟ لم تكن عندي الإجابة لحظتها وبعد يومٍ من وصولنا إلى جزيرة
كرابي أدركت أنهن قد يتشابهن مع "ميري" وهي طالبة ألمانية أتت مع أصدقاء
وصديقات جميعهم اشتركوا في جولات طويلة في مدن وجزر تايلاندية؛ لديهم حجوزات مفتوحة؛
أي ليسوا مثلنا يؤكدونَ حجوزات العودة مسبقًا فيمكثون أوقاتًا طويلة ولا ينفقوا
كثيرًا من المال؛ حيث إن "ميري" وأصدقائِها يسكنون في نزل شبابية وتعرف
"بالهوستيل".
كانت العبّارة تغص بالسياح وبعض القرويين رغم عددهم
البسيط؛ تسمع فيها لهجات متعددة كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والهندية
والتايلاندية أما العربية فكنّا نحن الوحيدين من يتقنها بحسب ما أراه وأنا أحدق في
الوجوه الموجودة في أرجاء العبّارة وصلنا إلى مرفأ شاطئ "نوبرات تارا
بير" Nopparat
Thara Pier في
كرابي في الوقت المحدد الذي كتبته موظفة المكتب السياحي وقبل أن نولّي إلى وجهتنا
في كرابي تذكرت أننا لم نحجز الفندق بعد وقد ألقى عليّ "فهد" رسالة
تذكيرية قائلًا: تذكر يا "يحيى" أننا لم نحجز سيارة تقلنا من المرفأ إلى
منطقة "أونانج" كما أننا لم نحجز الفندق بعد؛ في الحقيقة تعمدت عدم
الحجز مسبقًا حتى أعلم مدى مصداقية موظفة المكتب؛ فقد صدق حدسي فيما يتعلق
بالسيارة وهي في الأساس ضمن برنامج الحجوزات تتوفر في المرفأ لجميع الركاب دون
الحاجة لدفع مبالغ إضافية؛ أما فيما يتعلق بالفندق فأمرها سهل وهين وفي غالب
الأوقات خيارات الحجوزات المباشرة أنسب وأصدق في تايلاند عن الحجز عن طريق مواقع
الحجوزات إلا في حالاتٍ نادرة جدا.
"الحياة إما مغامرة جريئة أو لا شيء- هيلين
كيلر"
مررنا عبر الممر الخشبي المفضي إلى ساحة ترابية بها
أشجار طويلة معمرة؛ تسقط الظل على القادمين من السفن والعبّارات والزوارق الصغيرة
وقبل أن ننبس ببنت شفة ها هو أحدهم يلوح لنا أن اصعدوا في هذا الوانيت بعد أن ألقى
علينا بعض التعليمات يجب أن نضعها في الاعتبار ونحن في جزيرة كرابي؛ فأدرك
"فهد" و "العاص" أن حدسي كان صحيحًا؛ قبلها بدقائق حركت هاتفي
النقال على تطبيق "البولت" فأرجأت ذلك للحاجة في قادم الوقت، ما هي إلا
دقائق ونحن على أعتاب منطقة "أونانج" بعد أن تجاوزنا أشجار ظليلة وعربات
وطرقات ملتوية ومنحدرات خفيفة وحكايات عابرة ألقاها بعض الركاب علينا؛ مستفسرين عن
جنسياتنا وحجوزاتنا ومن لطيف الأمر ثمة عددًا من الركاب لا بأس بهم يشاطروننا ذات
الفكرة ولم يكن خيار الحجز المسبق ضمن مخططاتهم فانتشرنا في المدينة نتتبع الفنادق
الذي سنحل عليها ضيوفًا؛ قادمين من بوكيت، نحملُ أسرار الخطوات ونعلق أيامنا
المقبلة في الفراغ وبين الأرصفة والأزقة الواسعة والضيقة. في تلك اللحظة الفارقة
وقعت على بصري رسالة من إحدى المجموعات وكأنها تقرأ أفكاري "لا تتوقع من أحد
أن يكون على مقاس عقلك ومشاعرك وأفكارك؛ فلكل واحد منا نافذته الخاصة التي يرى
العالم من خلالها والحياة، والناس لكل واحد تجاربه التي صنعته وصنعت قناعاته ولكل
منّا مكانه الخاص الذي يقبع داخله؛ فكن مزهرًا أينما حللت".
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام