إلى رصيف ميناء راسادا نغلق شبابيك بوكيت


يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- بوكيت

يحيى المعشري

برقت عيناي في اللحظة التي هاتفني  فيها رفيق السفر "فهد" وهو يتبادل أطراف الحديث مع موظفة المكتب السياحي بعد أنَّ أخبرته بقيمة تذكرة رحلتنا المقُبلة وهي من جزيرة بوكيت إلى جزيرة كرابي عبر العبّارة؛ قائلًا: التذكرة الواحدة للفرد  700 بات، شاملةً النقل من أمام فندقنا في منطقة الباتونج إلى رصيف ميناء راسادا في المدينة القديمة بوكيت Rassada Pier Terminal" ومن العبّارة إلى ميناء جزيرة كرابي؛ مختتمين جولتنا معهم بركوب سيارة الوانيت العجيب من رصيف ميناء كرابي إلى منطقة أونانج جوهرة السياحة في كرابي، وقفتُ مرتبكًا وأمامي أحد رجال الشرطة في شارع "البنجلا رود" في الباتونج وهو يحاول إغلاق شارع المشي فقد غربت الشمس وحان وقت منع دخول السيارات والدراجات لتبدأ حياة الأقدام التي تتقاذف على الشارع بأمان ودون خوفٍ ووجل، في حين كان الرفيق "فهد" يستشيرني في العرض المُقدم من المكتب  السياحي والفتاة تستعجله لأنها على وشك إغلاق المكتب وبدون تردد ولا تفكير أطلقتها كلمة سريعة لا يمكننا أن نرفض هذا العرض أما العاص فهو معنا في السراء والضراء، كما أننا هيأنا أنفسنا للتنقل من مكان إلى آخر وهذا ما عزمنا عليه بعد قضاء أيام وليالٍ في جزيرة بوكيت؛ فكنّا كالجبل نبوح بأسرار الجزيرة وعشق بحر أندمان ونحكي عن جولاتنا الخاصة وحدنا منفردين؛ بين القراءة والتأمل والضَحِك وتتبع صراخ الباعة والمكوث في كراسي شاطئ الباتونج وملاحقة مطر السماء وظلالها وهما يرسمان لوحة رشيقة على طرقات وأبنية المدينة، أكَّدَ فهد الحجوزات واستلم قسيمة تذاكر رحلتنا الداخلية وفي اليوم التالي حملنا أمتعتنا وحقائب السفر التي رافقتنا ترحالنا وشرعنا نلملم ما تبقى من أشياءِنا في وديعة الاستقبال؛ الجوازات وما تبقى من مبالغ في صندوق الأمانات؛  مودعين كل من كان في الفندق وهذا ما درجت عليه في سفراتي خلق نوع من الصداقة والود مع العاملين في الفنادق وإعطاءِهم بعض الحلوى العُمانية أو التمر الذي نحمله معنا في حقائب السفر، بريد محبة لا يكلفُ شيئًا لكنه ينعش أمل الود والإخاء بين الشعوب؛ على أمل أن نلقاهم في رحلاتٍ قادمة نفاجئهم فيها كما تفاجئ أشعة الشمس شفاه النهار.

نهارٌ غائم وحياة صباحية هادئة وعمال نظافة أتت بهم سيارات من ناحية التلال فأخذوا يُشرعون على تنظيف الشوارع ومداخل الجزيرة من بقايا الأمس؛ ثمة من غابوا عن الوعي وكان ليلهم بين الحانات فألقوا ما تبقى من دنس الليالي المارقة في الطرقات وبين أزقة المحال التجارية والأكشاك، أما المطاعم والمقاهي لا زالت مغلقة في صباحات "بوكيت"، على أن تبدأ أعمالها في الساعة الثامنة صباحًا ونحن لا زلنا على مشارف السابعة صباحًا- بصيص أمل يبرق من بوابات بقالات "سفن إلفن" الزجاجية في منطقة الباتونج، فالبطون أصدرت فرمانات الجوع وهذا المتجر يدخل في شبهة الحلال والحرام؛ عدا من بعض الاحتياجات وأغلبها من العسير تصديقها، أتت السيارة التي ستقلنا إلى رصيف ميناء راسادا في المدينة القديمة، طوينا المسافة في خمس وأربعون دقيقة، نمعن النظر في الحياة النهارية والمباني الكلاسيكية والناس الذين يذهبون إلى أعمالهم جيئةً وذهابا ومشاهد أخرى كأننا نراها للمرة الأولى، وفور وصولنا نزلتُ من السيارة والرفقاء، يدٌ تسحب حقيبة الأمتعة وأخرى تقبض بقوة على حقيبة صغيرة وضعت بها الأوراق الرسمية والمستندات.

رصيف  ميناء راسادا Rassada Pier Terminal

بين لحظات الوصول والوداع نسير في الفلاة كقوافل الإبل المحملة بالبضائع المتنوعة لا نعرف ماذا سنواجه في القادم من وقت وكيف تبدو جولتنا الغامضة التي رسمناها سحرًا في هذه المحافظة الجنوبية الواقعة على بحر "أندمان".

ها هي أقدامنا تعبث في أروقة رصيف ميناء راسادا في هذا الشطر من جزيرة بوكيت، في الداخل يبدو رصيفًا صغيرًا؛ أمّا العاملين والعاملات جلهم من المحليين؛ هكذا هي الوجوه كما أراها من سحناتهم غالبيتها تتشابه في دول شرق آسيا؛ أصوات تنبعث من هنا وهناك، ثمة بوابات ومداخل وكراسي انتظار ولوائح موجهة للقوارب الكبيرة والصغيرة التي ستنقلك إلى وجهتك؛ سواء كان حجزًا مسبقًا أم من الأكشاك السياحية في داخل الرصيف تتقدمها لوحة تعريفية بها معلومات خاصة بالرحلات المتوفرة وخدماتها، ويمكنك التنقل هنا عبر الحافلات والعبّارات والشاحنات وسيارات الأجرة وتختلف تكلفتها وفق وسيلة التنقل التي ستختارها وفي الخارج تصطف العبّارات والقوارب في عرض البحر وعلى ضفافه بألوانه الزرقاء؛ كما تسبق بوابة الدخول للرصيف مساحة من الإسفلت مخصصة للسيارات والحافلات والوسائل الأخرى وفي الداخل وأنت ترقب حركة المسافرين من شتى البقاع  يمكنك أخذ تذكرتك إلى الرحلات التي ترغب وبعض الرحلات يمكنك الذهاب إليها من كرابي إلا أن سعرها يختلف تمامًا عن سعرها هنا وهي أقل بطبيعة الحال. سواء كانت رحلات تقضيها بالأيام أم رحلات يومية تبدأها من بواكير الصباح إلى أن تعبث الليالي بأضواء النهار.

في هذه الجولة على الرغم من بساطتها بدت مُتعِبة قليلًا، فقد تهنا في ليالي بوكيت الصاخبة إلى ساعاتٍ متأخرة من الليل؛ يبدو أنَّ الساعة البيولوجية والنوم تختلف في السفر مع دورة النهار والليل في مملكة تايلاند؛ حالها حال بقية البلدات التي تنشط الحياة الليلية فيها؛ فلا يرف لكَ جفن وأنت مشدوه في الوفود البشرية الهائمة في عتمة لياليها وأحزمة نورها وأنشطتها وفعالياتها التي تخاطب خواطر المرتحل إليها فيتوه مع الركب كنسائم أمسيات الصيف.

  بدأنا نأخذ ما نحتاج من أطعمة خفيفة نسد بها نهم الصباحات وهذا ما حصل، تخلل ذلك العديد من الأسئلة عن العبّارة التي ستقلنا وماذا ستوفر لنا وكم ستستغرق الرحلة البحرية هذه من الوقت للوصول إلى رصيف كرابي، بعد ذلك احتسينا القهوة وفيها تذوقنا بؤس الانتظار ومرارة البقاء في الكراسي فنحنُ تحت رحمة النوم الذي بدأ يطبق علينا ويتسلل إلى أجفاننا في أوقات الفراغ إلى أنَّ بدأنا نرهف السمع إلى صوت صفير العبّارات في الأرجاء إيذانًا ببدء الانطلاق؛ حينها دسسنا قسيمة ركوب العبّارة في يد أحدهم وهو المتعهد باستلامها من الركاب؛ حالًا شرعنا نهفو مسرعين إلى العبّارة بأحاسيس ومشاعر أخرى نستمع لطرق الأحذية العجولة مثلنا، حاملين حقائبنا كغيمة تزف على كف الأفق. في تلكَ اللحظة بدأنا نردد أصوات لا إرادية كأصوات النهامين الشعبية البحرية القديمة التي يطلقها البحارة في عرض البحر في سواحل الخليج؛ ما بين البصرة وسلطنة عُمان.

صورة علوية لرصيف ميناء راسادا في بوكيت من الإنترنت
هنا بوابة ميناء راسادا 

مع السائق مودعين جزيرة بوكيت إلى كرابي

صورة من الباتونج في بوكيت

تلويحة أخيرة نلملم من خلالها طرقات بوكيت متجهين إلى الميناء






للحديث بقية...

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر