في مقهى ستار بوكس بوكيت؛ ثلاثية السماء وترياق الدهشة وشفرة الوجود
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند_ بوكيت
يحيى المعشري
في كلِ يومٍ كنّا نفضل المشي كثيرًا أثناء
تنقلاتنا إلّا في الحالات النادرة والمشاوير البعيدة التي لا نجدُ فيها بدًا من
استقلال السيارة أو أي وسيلة من الوسائل المنتشرة في جزيرة بوكيت، أعتقد أننا
اليوم على موعدٍ آخر يسير بلا مصادفات ولا متاعب ولا تكهنات؛ هكذا قال
"العاص" عندما همّ يقترح علينا الذهاب إلى مقهى ستار بوكس الإطلالة
وستار بوكس كما تعلمون يقع ضمن سلسلة المقاهي ذائعة الصيت وهي شركة مقاهي أمريكية
تأسست عام 1971 وبدأت الانتشار في سائر أرجاء العالم وبدأ الناس يُقبلون على
منتجاتها ويروجون لها بالوسائل التي تواكب كل مرحلة؛ ولأننا في مرحلة مختلفة اختلفت الوسائل الترويجية فيها؛ وباستخدام
تقنية صناعة "الترندات" أصبح هذا المقهى وجهة يقصدها الناس من مختلف دول
العالم والأمصار، على الفورِ طلبت سيارة تقلنا عبر تطبيق "البولت" وهو
وسيلة سهلت على المرتحلين إلى أرجاء تايلاند كثيرًا لسهولتها وسعرها المخفض ونظافة
السيارات المستخدمة والتعامل المرن من قبل العاملين بها، ومع هذه التطبيقات تُصنع
المدن والدروب، صعدنا السيارة أنا والعاص بعد أن تعذّر "فهد الحسني" عن
الذهاب معنا لظرفٍ طارئ ألمّ به فألقينا أجسادنا نسيرُ رويدًا رويدا إلى وجهتنا؛
لسنا لأننا متيمين بالفاتنة السمراء القهوة بأنواعها الموكا والكابتشينو واللاتيه بالكراميل
ولا الماكياتو وغيرها من أنواع القهوة التي بدأت تتقاذف علينا ولا لأنها غير
متوفرة في منطقة الباتونج وهي كثيرة؛ على العكس، كان المغزى من زيارتنا هذه الركب
مع الجموع البشرية الذين غرّتهم كاميراتهم فأخذوا يصورون ويتناقلون الصور
والفيديوهات في الفضاء الالكتروني، أي ما يعرف اليوم بصناعة الترفيه والركب مع
الموضة.
في رحلتنا إلى مقهى ستار بوكس الإطلالة مررنا
على العديد من الأماكن الجميلة والأشجار الوارفة الظلال والمزارع والمعابد البوذية
والطرقات الملتوية والبيوت التايلاندية والقرويين الذين يمارسون حياتهم اليومية،
لمحتُ بدهشة سيدة في دراجة نارية تقل ابنتها الصغيرة للمدرسة في طريق ملتوٍ وطويل؛
انعقد حاجبي وامتقع وجهي لهذا المشهد بين زحام السيارات؛ فرحلة العلم لا تخلو من المشقة
والصعوبة كيف وإن كانت الوسيلة هذه بالدراجة النارية هي وسيلة نقل يومية مألوفة في
بوكيت وعموم مدن وأرياف مملكة تايلاند؛ طالما هنالك مقاعد دراسية وهناك من يؤمنون
بالعلم والتعليم لا يوجد مستحيل، انطبعت في وجهي ابتسامة عابرة وجميلة تُعبّر عن
جمال المشهد هذا، ونحن ندنو منها بدأنا نشعر أننا نقلب الصفحة ونشعر بالتغيير
النسبي في هذا المسير، هكذا هي الطرقات كالحياة؛ فيها ما يصدق وما يصعب تصديقه،
بدأ السائق يعرض علينا ما نود سماعه إلى أن يطوي هو الطريق الذي أخذ منا من منطقة
الباتونج زهاء خمسًا وأربعون دقيقة إلى فندق كوسيري سناي koh Siray
Sinae Luxury Hotel هناك حيث يسترخي
المقهى بإطلالاته على وسادات الحقول المتسعة المسافات، فشنف أذاننا بأغاني عرّاب
الطرب العربي محمد عبده ورائعة نزار قباني "قارئة الفنجان" ستفتش عنها
يا ولدي في كلِ مكان، وستعرف بعد رحيل العُمر أنك كنتَ تطاردُ خيط دخان- فدانت لنا
أول ملامح طريق المقهى وما إن وصلنا إلا وبدأت رحلة البحث عن مكان للحجز والدفع
وفي مساحة مكشوفة توجد فتاة تبيع تذاكر الدخول وصعود السيارة؛ شاملة قهوتك ووجبتك
الخفيفة بمبلغ 300 بات بينما كان سعر هذه التذكرة مع كافة الخدمات قبل سنوات بـ
150 بات، نحن الغرباء نواسي الغربة وتواسينا فيأخذنا شجن الوصول دون اعتراض، صعدنا
الوانيت الذي أعادني إلى قبل عقدين من الزمان في سلطنة عُمان ودول الخليج؛ عندما
كانت هذه الوسيلة معتمدة لدينا للتنقل وليست للنقل العام كما هو الحال الآن، طريق
الصعود لا يخلو من الصعوبة خاصة للذين يهابون الارتفاعات والمرور بالطرقات الملتوية
والمتعرجة ذات الخط الواحد.
التايلانديين يمتلكون مهارة عالية في القيادة
وهدوء حتى في أصعب الظروف والجميل أنّهم يحفظون الطريق وهذا عزاءنا ونحن نصعد
شيئًا فشيئا هذا ما قلته في فضاء الوانيت وهي تسير إلى الأعلى والأيادي تقبض على
الحديد المتدلي بأقصى ما تملك من قوة والأعين تتلصص على المناظر واخضرار الأشجار
والهواء يلفح الوجوه ذات اليمين وذات الشمال فبدت ثرثراتي غير مفهومة وكأني أسعف
غريق في عمق البحر؛ دون جدوى تذكر.
بدأ العاص يومئ لي تعبيرًا منه عن اندهاشه من
رحلة الصعود هذه الخطرة لمن يهابون الارتفاعات والطرقات الملتوية؛ الإطلالة
الساحرة هي الجاذب الذي أتى بهؤلاء الناس إلى هذا المقهى في منتجع سيناي، هرعت فور
نزولنا من السيارة بعد وصولنا فوقفت في خطٍ طويل أشبه بطوابير الصباح في المدارس
وبيدي قسيمة بيضاء لاستلام قهوتي، ها أنا ذا بالداخل أما العاص فآثر الخروج للبحث
عن موقعٍ جميل يؤمن لنا قضاء ساعات نقضيها متنعمين بجلسات خارجية ساحرة وإطلالات
مميزة؛ نصنع الترند كغيرنا ممن جرتهم أقدامهم ومشاويرهم ليضعوا بصمة تذكارية في
هذا المكان، في الداخل رأيتُ ثلة من شباب الخليج؛ تبادلنا أطراف الحديث
والملاطفات، فجأة اندلقت مني كلمة رميتها في ملعب الأقدار بلا هوادة، ألا تلاحظون
أننا الوحيدين الذين نأتي إلى هنا على الأقل في هذا الشهر من هذه السنة وهو سبتمبر
من عام 2023 للميلاد؛ كنتُ أعني أبناء الخليج حينها بدأوا يحدقون في الأرجاء فإذا
بهم يومئون، نعم هذا ما نشاهده على الأقل في هذه اللحظة، التفت الجميع للموجودين
بالداخل والخارج وبدأوا يتهامسون حقًا لا يوجد أحد غيرنا في هذا المكان؛ في الخارج
ثمة سحابة حبلى قد تلد مطرًا بعد قليل وقد تختفي بمرور الرياح الاستوائية التي تهب
بين الفينة والأخرى، يكفينا أنّها غطّت السماء وأمدتنا بالظل الذي نحتاجه كثيرًا
في تايلاند بالأخص بالقرب من الجزر، أنظر شزرًا في الخارج فتمنيت أن أرى فعاليات
تصاحب هذه المشاهد، ما برحت أن أحدق في الأرجاء فإذا بفكرتي تتلاشى وبترتها بسؤالٍ
آخر، من ذا الذي يجدُ وقتًا للفعاليات وهو في حضرة هذه اللوحة من الجمال؛ كما أن
الفعاليات تطيل من فترة بقاء الزوار وهو ليس هدف إدارة المقهى كما يبدو في ظل
التوافد الكبير من السياح في هذا الموسم وربما في مواسم أخرى.
استلمت طلبي وطلب العاص وهو قهوة سمراء وخبز
السميد ممزوج بالسمسم وشطيرة أخرى حلوة محشوة بالشوكولاتة وعبوة ماء دافئة،
انتابني شعورٌ غريب في هذه اللحظة؛ أريد أن أقرأ روايات عبثية لا يهم عناوينها ولا
من كتبها المهم أن أقرأ بنهم بغض النظر عن المدة طالت أم قصرت وبيدي القهوة؛ أريد
أن أقرأ لكافكا أو ديستوفيسكي وتولستوي أو ألبرتو كامو وهوجو أو أي كتاب يقص لي
حكايات الأمجاد والحب والحياة والبؤس والموضة، أريد أن اقرأ حتى رواية عبير
الرومانسية "أعدني إلى أحلامي" لـ "آن هامبسون" وأتصفح
مقدمتها "بطاقات سفر ذهابًا فقط إلى عالم النقاء العاطفي وصفاء الأحلام؛ قضيت
أنا والعاص نتجول في ساحات المقهى ثلاث ساعات تلاشت كالبرق في زحمة الحضور؛ نرمق
العائلات والشباب الذين بدأوا يتقاطرون على هذه الإطلالة؛ يبوحون بأسرار الحياة
على بحر "أندمان"؛ نصيخ السمع إلى طقطقات الصحون ووميض عدسات الهواتف
التي بدأت توثق اللحظات ومن اللافت أن الإطلالات هنا موزعة على عديد من المواقع
بطريقة فنية عالية الدقة وأغلبها تُطل إما على الأشجار الوارفة أو البحر أو
الكنبات والطاولات والكراسي.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام