ثرثرة وتهويدة من جزيرة بوكيت
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند
يحيى المعشري
ومما يثير الدهشة على الرغم من عدد الزيارات القليلة لي إلى جزيرة "بوكيت" بدأتها قبل عقد من الزمان وهي ليست بذات الكثرة؛ قياسًا بكثيرين من الذين راقت لهم هذه الجزيرة وأصبحت من الجزر التي تشكل في سفراتهم التايلاندية شيء من السحر الحلال؛ فزياراتي لها غالبًا إما من باب المجاملة لصديق يرغب زيارتها لأول مرة أو أنّها بوابة لزيارة بعض الجزر القريبة من ناحية المسافة والتنقل والكُلفة المالية في ذات الوقت، لكنني في كل زيارة أسجل حضوري بالتنوع في نوعية الأنشطة التي أقوم بها؛ فثمة خيارات كثيرة وعديدة تُعاكس الزائر كما يُشاكس الكتّاب قرّاءهم بتحريك أبطال رواياتهم؛ فأتأمل مشدوهًا في الممرات، ممعنًا النظر في تداخل الأنشطة التجارية والسياحية في هذه الجزيرة وفي عموم مدن وأرياف تايلاند.
في أجواء رطبة عصرية سبتمبرية من رحلتي
الأخيرة من عام 2023م مرت سحابة حبلى بالمطر بالقرب من الطريق الممتد إلى السهول
القريبة؛ سأتخيل أنّها ترش علينا قليلًا من عطر المطر؛ لتهذي نفوسنا فرحة؛ فتتحرك
الجمادات؛ هكذا نحن يُفرحنا المطر في السفر أكثر من أشياء كثيرة جدًا؛ فتومض عدسات
الهواتف الذكية لتزيد من مساحة الذاكرة حتى تُفرغ ما بها من يوميات تايلاندية
ماطرة في مجموعات السفر؛ متناسيًا ذلك المسافر أوجاعه وهمومه ولواعج الفراق.
كُنت أبحث عن كشك سياحي من الأكشاك المنتشرة
في "بوكيت"، فرمقت إحدى الفتيات التايلانديات تنتبذ ركنًا قصيا بين
مجموعات محال تجارية؛ دخلت عليها وهي تدير محلها الصغير الموارب، فبدت بعينين
غائرتين وجسدٍ نحيلٍ ممشوق القوام؛ تدير أعمالها بيد وتحمل طفلها الرضيع بأخرى؛
فتلمست سلاسة التواصل والحديث فيما بيننا؛ أذعنت هي في صمت إلى حديثي- كيف لكم
أنَّ تديروا أعمالكم السياحية هنا بهذه السهولة وهل يُقبل عليكم الزبائن وما هي
طريقتكم المُعتادة في التواصل مع زبائنكم- تبَسمت وبترت جُلّ أسئلتي بعبارة مختصرة
"إنّها تايلاند"، تفتقت في داخلي أحاديث ذات شجن؛ خاصة أنني أستمتع
كثيرًا بالاستماع إلى أحاديث السفر وأنجذب في ذات الوقت للذين يتفننونَ ويتوغلونَ
في الشرحِ عن رحلاتهم ويوثقونها بالطرق التي ترسم ملامح المكان والحياة اليومية
للبشر أكثر من اللقاءات الإذاعية والمتلفزة؛ كما أنني أتحسس الفرص لزيارة المكاتب
والأكشاك السياحية في هذه الجزيرة تطفلًا لمعرفة كيفية إدارة المجموعات السياحية
بهذه البساطة والمرونة والسهولة؛ فأطرقت لها مشدوهًا قبل أنَّ تأتيني عبارة مقتضبة
من رفيقيّ "فهد" وقد دخل علينا فجأة فاندلقت من لسانه العذبة كلمات
عابرة ملوحًا بكفيه قائلًا: "السياحة صناعة"؛ عقّب عليه
"العاص" وهي الزيارة الأولى له إلى بلد الابتسامة تايلاند، قائلًا: هذا
الشعار الخاص بالسياحة العُمانية- تبادر في ذهني سؤال وأنا الذي دلفت تايلاند عديد
من المرات ما هو شعار تايلاند لإدارة السياحة حتى تستقطب هذا الفوج الهائل من
السياح ومن مختلف الجنسيات والسحنات في أغلب فصول السنة إلى هذه البقعة الصغيرة في
هذا المكان القصي من الجغرافيا وكم من الطائرات وأساطيل السيارات والقطارات
والحافلات الكبيرة منها والصغيرة التي تُدار لتأتي إلى هذه البقعة.
استلمنا أوراق الحجوزات لرحلة قادمة وأناملنا
تقبض على الظرف الذي وُضعت بداخله الورقة وهي أشبه برسائل الغرام مذيلة بأرقام
تواصل يتشبثُ بها العاشق الولهان أو العاشقة التي انفطر قلبها لكلمات الإطراء
والحب؛ تتعبد بضراعة في محراب عشقه؛ اندلقنا مسرعين للرواق الخارجي لفندق
"رويال بردايز في بوكيت" الذي يقع على طريق "كاثو" وقد قضينا
به ليلة حالمة تكشفت بوكيت من إطلالاته ودانت النوافذ على أهم المواقع والأنشطة في
بوكيت فرأينا المنازل والنزل والفنادق الملاصقة للجبال وشاهدنا الطرقات الملتوية
تسحُ بالسراب وفي المساء تتوشح بالأضواء؛ كأحزمة من نور؛ فبدت وكأنها رسمة سريالية
تخبئ بداخل لوحة لا ترغب مفارقة ريشة رسامها؛ وفي البعيد يتقاطر العرب على طريق
"سوي سنسباي" المقابل لشارع "بنجلا رود" في الباتونج وهناك
تكثر المطاعم والمقاهي العربية التي تطلب ودّ الزائرين رغم سعرها المرتفع إلا
أنّها الخيار الأمثل للكثيرين.
هرعنا للنزول إلى بهوِ الفندق بعد ساعات
استرخاء وصلوات؛ لنسلِم المفتاح أو البطاقة المشفرة؛ فطبعتنا فتاة الفندق بفتنة
أخاذة وابتسامة ماسية؛ تضع فوق كتفيها الضئيلتين رداء شفاف ينتشر كثيرًا بين فتيات
شرق آسيا والتايلانديات على وجه الخصوص.
ففتشت في حقيبتي المحمولة عن التذاكر
السياحية لرحلتنا القادمة، كانت التذاكر خاصة برحلة بين أحضان الطبيعة ها نحن الآن
نخوض تجربة ركوب الفيلة والتسلق عبر سلك انزلاقي معلق بين أشجار وارفة ومغامرة مخر
أغوار النهر بين الغابات؛ بدى شيء من الضوء يتسلل من بين شقوق الجبال وأغاني
تايلاندية يدلقها المكلف بالتجديف في لمحة بدائية يتقنها التايلانديين بقصد إضفاء
نوع من المرح والفرح والخوف والإثارة وهي ليست كالأغاني المجنحة بالعذوبة في بهو
الفنادق التايلاندية الفارهة ومحال الاسترخاء "المساج"، ولا الصاخبة
التي تنطلق من "الحانات" ومساءات الرقص والمجون والثمالة والأعين
اللعوب. كما أننا اتجهنا ومعنا شابين من دولة الكويت لإطعام القردة وهي تتقافز بين
الأشجار والأرض وجمع من الناس أتوا لذات التجربة فرأينا البهجة ترتسم على محياهم.
أشرق صباح يوم الجمعة في جزيرة "بوكيت" على ديمة مطر عابرة؛ فصحونا كعاشقين نتلذذ بالظل؛ كما يتلذذ عشاق الليالي الساهرة بشهوة النوم إلى ما بعد الظهيرة؛ يلوذ كلا الفريقين إلى عالمه الخاص الذي يصنع يومه. فلمحنا جمع من البشر يتكورون في البقعة المواربة من الفندق الذي نقطنه وثمة أصوات يتصدرها الصخب تخرج من الأرجاء؛ فأخذنا فضول معرفة ما يدور فإذا بهم شباب يبدو من سحناتهم وهيئاتهم أنّهم من أبناء الخليج المغرمون بقيادة الدراجات النارية في بلدان شرق آسيا وهناك عدد من أفراد الشرطة يتصرفون بحزم؛ يضعون لوائح حمراء مضيئة في وسط الشارع تُلفت الناظرين من بعيد وتجبر الفضوليين من أمثالنا للمضي قدمًا، تجرهم أقدامهم بتثاقل لمعرفة ما الذي حدث اتقاءً وحيطةً وحذر؛ من الوهلة الأولى يبدو للناظر من بعيد أنّه حادث دهس وفور وصولنا بالقرب من التجمع تبين لنا أنها مخالفات مرورية لم يلتزم بها الدراجين حد قولهم وما أكثرها في مملكة تايلاند؛ فيعمد أفراد الشرطة على تصوير المكان والمخالفين، فتوارينا عن المكان إلى وجهتنا القادمة؛ ميممين السير بخطى ثابتة بين الشوارع والأزقة وبين الباعة والأسواق؛ فلا ريب أجواء النهار الغائمة في هذه الجزيرة بالنسبة لنا من ملذات السفر والتطواف.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام