المعلمة شريفة رفيقة القرآن الكريم في بلدة بوشر بني عُمران

يحيى المعشري

ليست الذاكرة تلكَ القدرة العظيمة على تخزين المعلومات  فحسب بمختلف تصنيفاتها وأحوالها ولا ذلكَ المكتنز الذي يبقى في الدماغ كمعلومات لا تجد ضالتها وإنما هناك حقلٌ آخر استرجاعي وبقدرة ربانية جليلة يستطيع الإنسان عبرَ مراحل العُمر إخراجه وتفريغه للأنام؛ متى ما حانت اللحظة وسنحت الفرص؛ والمسترجع من معلومات هنا ما هو عالق  في ذاكرتي عن أحياء بلدة بوشر، وهذه المرة شخصية لا يمكن أنَّ تمر عليّ مرور الكرام؛ إنّها ذاكرة المعلمة "شريفة بنت خميس الحسنية" القادمة من أكناف جبال مطرح التاريخ وقلاعِها وأبراجِها وحاراتِها إلى تخوم بلدة بوشر وهي الأخرى إرثٌ منسي طاله رحى النسيان والمعلمة "شريفة" هي زوجة "راشد بن سعيد المسروري" رحمة الله عليهما وأدخلهما فسيح الجنان وعندما كنّا لا نزال في خطواتنا الطفولية الأولى؛ نمرح ونلعب في السكيك وبين الأزقة وداخل أروقة "المقاصير" وتتفجر طفولتنا أمام جدران الطين؛ بين عوابي "المهيرمية" و"القطوية" والسكة الصغيرة وهي تشق مقاصير" المرحوم عبدالله بن سليمان الجابري والمرحومان علي وسعيد أبناء يوسف الجابري والسيادي، لم نُرهف السمع إلى جرس مدرسة بوشر في حِلّة السوق بعد ولم نُحدِق إلى الطوابير الصباحية التي تُعزف فيها الأناشيد الوطنية ولم تصدح آذاننا بعبارات التمجيد السلطانية؛ فخرًا واعتزازًا بما كان وما سيكون في القادم من إشراقات مستقبلية نستشرفها تلوح في أفق عُماننا؛ كل تلكَ الذكريات لا زالت مغلفة في ملف الصبابة في بلدة بوشر، نبصر فيكِ روحنا وشرودنا وارتماءاتنا بين السواقي والنخيل وقناطر الأفلاج ودروب تبعثرها أقدامنا ذرات تراب تتطاير في الأرجاء.

من قرية قلهات الواقعة تحت تخوم الجبال؛ وهي قرية صغيرة تستلقي بأمان ودفء تحتَ الكتل الصخرية والنتوءات على جبليّ "العوينة و قني" والكهوف وصوت طائرا العشوي والنيروز في موسمهما؛ تحنو على الوعل الذي يتوارى عن الأنظار نهارًا ويهطلُ عليها ليلًا في جنح الظلام؛ مدركين أننا أثناء تنقلنا من قلهات إلى بوشر بني عُمران وبمقاييس الأمس كنّا نعرفها "بالحارة" لتلقّي علوم القرآن الكريم في بيت المعلمة "شريفة" وهو الواقع بجانب درب رئيس يخترق مزرعة "المربع" المقابلة لمنزل أبناء المرحومان "مسلم ومرهون" السعدي والملعب الترابي الذي ارتمت بين جنباته صغارًا أقدامنا؛ متجاوزين منزل أبناء المرحوم "سالم الصوري، كان منزل المعلمة "شريفة" وزوجها راشد وأبناءها يسبق دكان الحارة وبيت أبناء "أبو داؤود" والأسماء المذكورة شخصيات كانت تتربع المشهد البوشروي؛ كقناديل الطريق المضيئة في دروب البياديـر إلى مقاصيرهم.

من بواكير الصباح كانت المعلمة "شريفة" تستقبل طلبتها الوافدين من أرجاء حارات بني عمران وقلهات وصاد والفتح وجال وكنتُ ضمن القوافل من أبناء حلة "قلهات"؛ نتقاطر على منزلها الصغير المتواضع فنلمحها تقف أمام الباب الخارجي مستندة بجسدها على الباب الصغير؛ تضم كلتا يداها على عصا تعينها على تأدية دروسها مع صبية صغار بمختلف أعمارهم غالبيتهم لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة وهكذا جرت الأعراف في ذلك الوقت؛ وقد احتوت المعلمة "شريفة" طلبتها الصغار في منزلها وغرفه وممراته؛ تستقبلهم بالبخور وماء الورد والرياحين في "الروازن"؛ أما حينما يكثر العدد ويشق على المعلم والمعلمة استيعاب الأعداد الكبيرة فإنهم يتخيرون التعليم تحت ظلال الأشجار المعمرة؛ كشجرة الأمباء وأشجار الرول والبيذام والنبق، لم تكن تلك العصا التي ترافق المعلمة "شريفة" كالتي يهش بها الغنم بل كانت عصا رقيقة كرقة القلب التي تحمله وهي تتعامل مع طلبتها الصغار؛ لكنها كفيلة على حسم الأمر إذا ما استدعى الأمر- لحظة إدراكها أنّها تحتاج إلى حسم بعض الصراعات بين الصبية تأديبًا وتربيةً وقد كان أهالي البلدة على علم وهم يبعثون أبناءهم أنهم بحاجة إلى ذلك الحزم في بعض الأحيان فنهل علوم القرآن الكريم ترتيلًا وحفظًا وتجويدًا لا تستقيم دروسه دون التقيد والتأدب والحزم والملاطفة.

كنّا نجري لحضور حلقات العلم إلى منزل المعلمة "شريفة" لا هواتف ذكية ولا شيء نقلبه بأنامل أصابعنا البريئة من مُلهيات الحياة العصرية ولا أعلم وأنا أخط هذه الحروف إن كانت المعلمة تمتلك هاتف ثابت في منزلها للتواصل مع أهالي طلبتها؛ لكني أعلم تمام العلم أنّ هواتف الشوارع لم تظهر بعد بالعملة كانت أم بالبطاقة، على مهل تتلو حروف القرآن ويلهج لسانها بالدعاء؛ تطلب الصبية فردًا فردا لتحسس على قابلية الحفظ وفراسة أحدهم فمنهم من يعتمر قلبه بالقرآن سريعًا فتسعد المعلمة شريفة وتعتبر تلك بشارة عظيمة ومنهم كصندوق القلب يطول خفقانه وبصبرها المعتاد وكِفاحها مع طلبتها الصغار؛ تجاهد كالنجمة المضيئة في حِلك الظلام على سواقي فلج النجّار في حارة بني عُمران.

كنت وإخوتي "أحمد وبدر" اللذان يكبراني وكذا الحال يسري على من تلاني من إخوتي؛ نذهبُ سويًا إلى بوشر بني عُمران ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال تجاهل الحصص المخصصة في بعض أيام الأسبوع فالمعلمة "شريفة" رغم العدد الكبير من طلبتها الصغار ومن شتى العائلات ومختلف الطبقات، أبناء الشيوخ والتجار والبسطاء لكنها على تواصلٍ تام مع عائلاتهم ولها من الاحترام والتقدير شأنٌ كبير بين العائلات في بلدة بوشر؛ لإدراكهم التام أنّ مدرس القرآن مصحف له مكانته وقدره؛ كالحمامة التي تنسج في الصباح معطفًا لصغارها.

وعندما تفرغ المعلمة "شريفة" من تدريس طلبتها الصغار تشدُّ رحالها لتلبية مستلزماتها المنزلية مع زوجها "راشد بن سعيد المسروري" وأبناءها محمد وسعيد رحمة الله عليه وابنتها التي كانت تعينها وتساعدها، تحزن لتغيّب أحدهم عن تلقي الدروس فتتبع أثره مع عائلته وفي يوم من الأيام حينما وقعتُ من شجرة النبق المقضمانية في حِلّة قلهات وهي واقعة خلف مزرعة "الربة"؛ تعرضت يدي للكسر فلجأت للمجبر "سالم بن عديّم" وهو خبير في العلاج الطبيعي يعرفه القاصي والداني في عموم بوشر أجمع من أقصاها إلى أقصاها فآثرت المعلمة "شريفة" تتبعني وزيارتي فجلست القرفصاء مع أبي وأمي وأخذت تسأل وتطمئن عن صحتي وما سبب التغيب فإذا بي مسجى في الفراش فبدأت تربت على كتفي وكانت تلقي بين كنف والدايّ الأدعية وما تحفظ من آيات قرآنية وتلهج ببعض قصص كتاب "تلقين الصبيان" للعلامة المحقق المجدد الإمام نور الدين السالمي رفيق المساجد والمنازل في ذلك الوقت ومن شرنقة الوحدة والصمت تحت فراشي الوثير بمقاييس الأمس رأيتني أحظى بعناية المعلمة "شريفة" فكانت كالملاك التي تهدي شتلات الياسمين وعبق عطر قنينة الباتشولي في أرجاء منزلنا الصغير فيكبر في عيوننا باتساع قلبها العامر وكان أهالي حِلّة "قلهات" يترقبون انصرافها من منزلنا ليغنموا بزيارتها لهم على فنجان قهوة تنعم به منازلهم بالأدعية والآيات القرآنية.

كانت المعلمة "شريفة" كثيرة الحركة بين المزارع والشوارع وكانت مزرعة "المربع" تتربع على وقع خطواتها وهي القريبة من منزلها لزيارتنا فقد ارتبطت مزرعة "المربع" بعائلة المعاشرة وهم والدي وعمي وعائلاتهم سنوات طويلة يصيخون السمع منها إلى "بياديـر" حارة بني عُمران وهم يترنمون بأهازيج "عريش القيظ ذكرني بظنوني، وخوص النخل هيجني شجوني وعلوه القيظ فيه بسرة وخلالة" وذلكَ من الصباح الباكر إلى أنّ يحين موعد صلاة الظهر.

 أما المعلمة شريفة كعادتها دأبت على مواصلتنا أسوة ببقية العائلات في بلدة بوشر وكانت تهتم بتجسير العلاقات بين العائلات من بوابة طلبتها الصغار؛ فتحظى باهتمامٍ بالغ من أبناء بوشر وما جاورها؛ يقينًا منهم أنّها تحمل رسالة القرآن الكريم وكانت مكانتها لا تقل عن مكانة المدرسين والمدرسات في المدارس الحكومية النظامية بل تتفوق في التقدير والاحترام فترفرف برشاقة كالنحلة، بين المقاصير والحارات والسواقي والنخل وضفائر الجدّات على جدران الطين.

ذابت المعلمة "شريفة" كقطيفة تنسج من حرير أخلاقها بين ضواحي بلدة بوشر فاستمرت ترتل وتتلو القرآن على أذن الصغار سنوات وسنوات؛ الكتابة والإعراب والضمة والفتحة والشدة والمدة " حاء فتحة حاء، باء فتحة باء، فتقرأ التيمينة وتحتفل بختم أحد طلبتها القرآن لتخفره إلى منزل عائلته فيتلقونها وبقية الطلبة بالهتافات والأناشيد والأدعية والمقتدر منهم يجر سكينه على رقبة الماشية؛ لتكون طعامهم ذلك اليوم والبعض يذبحون الدجاج فلا توجد فروقات طالما هنالك احتفاء بطالب أو طالبة ختم القرآن على سبيل الشكر لله تعالى والتذكير بمكانة وأهمية القرآن الكريم. ولأننا عابرون في الحياة طالت بنا المدة أم قصرت قبل سنوات فاضت روح المعلمة "شريفة" بين حارات بوشر ومزارعها وأفلاجها وسكيكها فبكتها جدران الطين وضفائر الجدات والدروب التي تمشطها؛ متأبطة مصحفها؛ لقد ذهب الجسد وبقت الروح ترفرف بين ذاكرة طلبتها الصغار أحاديث وأشجان يلطفون بها حنين يومهم وأمسهم وعزاءها أنّهم يذكرونها بين سير الأولين الأخيار، بالقرآن والأدعية وكتاب تلقين الصبيان.

نموذج لتدريس القرآن الكريم في أغلب ولايات السلطنة

شجرة الرولة الواقعة في بوشر بني عُمران بعد سقوطها 
وهذه الأشجار تستغل لتعليم الصغار في السابق

مزرعة "المربع" التي كنّا بيادير فيها أيام الطفولة 
وهي بالقرب من منزل المعلمة "شريفة".

السكة الصغيرة التي كانت تقطعها المعلمة "شريفة"
وكانت الموصلة إلى بني عُمران من حِلّة "قلهات"


منزل المعلمة "شريفة" في بني عُمران 
سبحان الله لم يتغير كثيرًا أرجو أنَّ ينال الرعاية والاهتمام





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر