في آنه كافيه مسقط أسافر إلى ما يربو على 134 عامًا من التاريخ
يبدو أنَّ فصل الشتاء جميل في بلدنا عُمان إلى حدّ يجعلكَ تحب الحياة وتتفنن في هذا الحب إلى الهيام في كل اللحظات مهما كانت بسيطة وتنظرُ لها بعمق له وقعه على شخصك؛ نفس تلكَ اللحظات لربما يدير لها البعض ظهره وينظر لها بنظرة جافة عابرة وفي صرامة شديدة وبوجه مكفهر وهنا يكمن سر هذا الكون كصفحة منسية في دائرة التباين.
أقبلت عليّ جمعة ينايـر الأولى من عام 2024
وكنتُ جالسًا في رواق بناية المدينة في مدينة السلطان قابوس في محافظة مسقط؛ أذعن
لحوار جانبي بين ثلة من الجالسين بالداخل، بينهم عددًا من أبناء جلدتي، لديهم
أحلامهم وتطلعاتهم ورؤاهم، يستأثرون في دعم المشاريع الشبابية في السلطنة؛ يسايرون
من يدعمون المقاطعة للمقاهي الداعمة لدولة الطغيان، أتلمظ قهوة "مقهى
أنه" المشتق اسمها من العملة المعدنية التي كانت تستخدم قديمًا في مسقط عُمان
خلال عام 1890م قبل أنَّ تمتسح من الذاكرة وبذلكَ آثر القائمين على هذا المقهى
اختيار هذا الاسم تأكيدًا أنَّ تاريخهم لا زال جزء منهم فأرخوا أفكارهم بين جنبات
المقاهي المنتشرة في أرجاء عُمان؛ بهوية عُمانية وتصميمٌ عُماني يسافر بنا إلى تلك
الحقبة الزمنية قبل عقودٍ من الأزمنة، أتأبط رواية " لاعب الشطرنج"
للأديب النمساوي ستيفان زايغ وهي ورقة الكل فيها لاعب والكل مشاهد؛ وبينما كنت
وحيدًا أنتبذُ مكانًا قصيا في الرواق الخارجي لمقهى أنه، أصيخ السمع إلى زقزقة
العصافير ووشوشة الطيور في الأرجاء، ألمح في الخارج ثلة من المقاهي التي خُصصت
واستقطعت جزء من مساحتها للمدخنين وكأن الإنسان في رواية لعبة الشطرنج هو ذاته
المدخن الذي يهيم في سكنات مزاجه غير عابئ بالمحيطين، ينفث دخانه بلا اكتراث وبدون
مراعاة لأخيه الإنسان؛ فيتحول إلى آلة تدمير لا همّ له غير الانسلاخ من السيطرة
على سكناته ومزاجيته الواهمة.
أحتاج لضوء خافت وهواءٌ نقي يتسلل بين أنفي كأسطورة
الباتشولي في رواية المبدعة الكويتية وضحاء العدواني؛ لأغتسل بماء الشعر وقنينة
العطر وزهر الربيع وبوحٌ دافق من الذاكرة أدفن به ذاكرتي لتظل "آنه"
الذكريات التي يثيرها هذا المقهى في تعريفه المعلق على الجدران بانسجام وتناغم.
أمطرني أحد الزملاء ذات زمن بوابلٍ من
الأسئلة عن مقهى آنه في ولاية مطرح العراقة والتاريخ الذي تأسس في عام 2020 وألصق
في ذاكرة هاتفي عددًا لا بأس به من صور المقهى المُطل على لجج بحار عُمان وسفينة
فُلك السلامة التي رست على عرش السلطان الراحل السلطان قابوس طيب الله ثراه،
فارتسمت في داخلي صورة جميلة استغلها القائمين على المقهى؛ ليشرعوا على فتح بوابة
عصرية أخرى على مطرح وسوقها وكورنيشها وبوابات ومداخل حاراتها وأزقتها ليتصدروا
المشهد ليس لأنهم أرادوه مقهىً يقدم خدمات الفاتنة السمراء فحسب بل تعدى ذلك إلى
حوارات الزائرين بمختلف تصنيفاتها وثقافاتها.
حسنًا بجدرُ بي الاعتراف أنّي أتذوق الفكرة
فأنا لستُ أمام قهوة مختصة بطعمها المتشابه في كلِ المقاهي مع التفرد البسيط في
كلِ مقهى حسب مهارة النُدُل "البارستا وإنما أنا أمام مشهد بانورامي فريد
أطالعُ من خلاله البحر والنوارس المحلقة في الأرجاء؛ ضاربة بأجنحتها في سماء مطرح من
شرفة سور اللواتيا والمدرسة السعيدية ونازي مويا والعرين ووادي خلفان وكأنها ترحب
بزائري المكان وتوالت زياراتي إلى آنه على فترات متفرقة فأمطرت سماء مطرح ذات يوم
على ديمة مشبعة كما تومض عدسات الهواتف من إطلالة المقهى- أسجلُ شهاداتي المعتادة
على بعض المقاهي التي أمرُ عليها؛ متتبعًا أثرها فأرمق ببصري قليل من كثير متجولًا
بين الأرائك والطاولات التي وُضعت بتناغمٍ وكأنها حياكة صوف تغزلها الجدات
العُمانيات لتنبعث من الجو رائحة انسجام المكان والزمان وبين أنفاس الصمت والسكون
في مقهى آنه؛ أتلمظ قهوتي نهارًا وليلًا وفي كل الأوقات التي أجدُ فيها نفسي
متعبًا ومفتونًا بالمكان في الشتاءات المسقطية؛ أنتشي كما يفعل الكثيرين من روّاد
المقهى.
ها هم "النُدُل" يتدافعون بابتسامة لطيفة؛ يعرضون أنواع القهوة في أنه مدينة السلطان قابوس؛ فيدلقون عليّ خياراتهم فأطوف على القهوة العُمانية والأمريكانو واللاتيه والموكا بالكريمة والماكياتو والبيكولو والسموثي ونماذج لا حدّ لها من العصائر فأتخير كعادتي شرابي المفضل الكابتشينو وماء الليمون، فيذوب الجالسون كالحلم بين كراسي "أنه" الأنيقة؛ هذا تاجر يتحدث عن مدّخراته واستثماراتهِ وتلكَ طالبة محجبة تسند جهازها اللوحي أمامها؛ تتحدث عبر تطبيق الاجتماعات "ويبكس ميتنج" وتلك وافدة حاسرة الرأس بشعرها الأشقر ممشوقة القوام تداعب جدائلها ذات اليمين وذات الشمال، تلاطف خصلات شعر نديمها، أتوا من خلف القارات ليهيموا بين جدران مقهى آنه وقد يكتبوا مذكراتهم ومعايشاتهم ومروياتهم ومغامراتهم في صفحاتهم لتعبر آنه القارات كما عبروا هم من بلدانهم إلى بلدان المشرق العربي في مقهى آنه؛ كلٌ له ميولاته وحكاياته وأوقاته؛ فيسافر مع قهوته وأصدقائه والحالمون بالحياة، أمّا أنا كغيري من المتطفلين للحظات الجميلة نسجل شهاداتنا ومروياتنا وما تجيش به مشاعرنا لتسلل خفية على القلوب وتعبر عبر الصفحات كما عبرت آنه في مسقط عُمان خلال عام 1890.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام