رسائل ما بعد السفر- تأملات تايلاندية
يحيى المعشري
"لا تتم فائدة الانتقال من بلدٍ إلى
بلدٍ إلا إذا انتقلت النفس من شعورٍ إلى شعور، فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم
تبرح"
لماذا تُكرر العودة إلى تايلاند يا صديقي "محمد؛
كالوردة الحمراء التي تكبر فينا لنسقيها من رحيق الفراق؛ فنعود إليها؛ نعم نعود
إليها بشوق؟ أجاب على وجه السرعة؛ موليًا ظهره ومشرعًا يده إلى السماء ومرخيًا
عينيه للأرض في شرود. عبارات أطلقها محمد في مطار "سوفارنابومي" بانكوك وقد
بدأ يزم شفتيه ويحرك لسانه ذات اليمين وذات الشمال.
في منضدة طائرة طيران السلام تدلت ورقة تذكرة السفر للشاب "محمد" وصورة مستطيلة شفيفة على الجواز الأحمر، كالموج الهادئ على ضفاف بحر أندمان وشواطئ رايلي وآو كوانغ بيب وساري وبرامونج في مملكة تايلاند؛ كالوردة الباحثة عن النور من نافذة سماء العاصمة البهية مسقط؛ ساعات قليلة وتطل من النوافذ على أجنحة الطائرات في خرائط مملكة سيام "تايلاند"؛ فتبزغ ابتسامات أبناء الجد راما الأول فيرا شاكري؛ كأول الاطلالات التي تستقبل بقعة البياض فينا ونحن نعبر القارات- كانت تِلكَ رسائل من شرفة المسافر "محمد" العائد للتّو؛ أي قريبًا من مملكة تايلاند؛ حينما قرر ملامسة تلكَ الطاقة الخفية التي تسكن المسافر ما بعد العودة من السفر؛ فيعود مجددًا إلى ذات البقعة؛ خاصةً للأماكن التي يجدُ فيها المرتحل راحة البال وطيب المعاش؛ للحظات والأمكنة المغلفة بالحنين إلى كل شيء في تلك البقاع؛ ينتابه شعور آخر بعد قرار العودة مجددًا إلى تلك البلد؛ أيهما يصحب ومن هو الرفيق الذي يصلح ليكون الملازم له في الغربة- وهل كل الأوطان تصلح للبقاء بها أكثر من غيرها وحيدًا- أي تصلح للسفر الفردي؟ أو مع من يخفرك؛ تلكَ ميولاتك ورغبات وأهواء.
هكذا كان الشاب "محمد" ببساطته وطوله المتوسط وجسمه الممشوق ودماثة خلقه يحدث نفسه بين الفينة والأخرى- وهل الاغتراب هو مادي أم روحي ونفسي- ترك تلكَ التساؤلات جانبًا وأدرك أنّها لا تشبع فضوله وأنَّ التجربة هي خير برهان وأنَّ دولة مثل "تايلاند" بترساناتها السياحية وبنيتها التحتية المكتظة بالحراك البشري وكثير منهم من أبناء جلدته لا يمكن أنَّ تكون بلد غربة؛ بل على العكس هي بلد تصالح؛ بلد تسامي وتبادل ثقافي وفكري؛ حوارات ولقاءات وتغيير وجوه وإن كانت من بلده عُمان؛ من محافظاتها وولاياتها وقراها وحواريها؛ لكنها وجوه تختلف معه في التفكير وطريقة السفر وإن تشاطروا في الوطن الأم، هذه التصورات أرجعتني إلى استطلاع قدمته في مجموعة سياحية تحت اسم " مسارات السفر" وتعني المسلك والطريق وخط السير الذي يتبعه المسافر إلى تلك البقاع، يديرها نخبة من العُمانيين؛ نجتمع معًا في هذه المساحة على حب السفر والتشاور في ما من شأنه مفيد للمرتحل، نترنم معًا بجمالياته وكل ما يسكن تفاصيل الأمكنة والأرواح وهنا أقتبس مقولة في تحقيق صحفي من حوار في ملحق ثقافي " الوطن ليس فندقًا نستطيع تغييره وقتما نريد؛ الوطن بداخلنا جميعًا؛ نحمله معنا أينما ولينا" والغربة تجعلنا نرى بلداننا بشكلٍ أفضل؛ بالضبط كما لو كُنتَ تقف أمام لوحة شهيرة ينتصب أمامها الناس من كل مكان وهذا ما حدث عندما كنا نحث الخطى بتفاخر وتباهٍ على خطوط العصيرة نمشط الطرقات على جنبات الرصيف والطرقات الجانبية؛ تلفحنا الأجواء الباريسية الباردة؛ من "قوس النصر؛ عبر ممر الشانزليزيه أحد أقطاب أوروبا السياحية والتاريخية في فرنسا، قاصدًا متحف اللوفر في باريس "مدينة الأنوار" المفتونة بقداسة الطعام والموضة والاستمتاع والحفلات الموسيقية؛ تلك اللوحة هي الموناليزا؛ تخيلوا؟ كيف ترونها من بعيد بصورتها الكلية وكيف ترون ذات الصورة حينما تقتربون وأنتم عائدون إلى بلدانكم؛ فإنكم أمام لوحة فيها من التفاصيل الدقيقة ما تعيد لكم ترتيب نفسياتكم وسلوكياتكم وحضوركم الذهني والجسدي.
إنّها برمجة عقلية وجسدية إضافة إلى المكسب الثقافي
الهائل؛ وبالعودة إلى تايلاند كوجهة سياحية وثقافية وتنوع ثقافي أقرأ وطني بعمق؛
أقرأ بحاره وشطآنه وجباله وخلجانه وحاراته وأفلاجه وقلاعه وحصونه وأزقة أسواقه- بدأت
أدرك أنَّ هناك من يطيب له المقام في بلدٍ يرتاح له في أقطار العالم؛ ومحمد مثل
الكثيرين من الذين وجدوا في تايلاند الحياة البسيطة ووجد إنسانه الذي يسكنه في تلك
البقعة؛ ليس كالشمعة التي تنطفئ عند نسمة هواء عابرة؛ بل كالمصباح الذي يطير بناء
ضوءه إلى المدى البعيد؛ فألتمس العذر للذين وجدوا ضالتهم في تايلاند مرات ومرات؛
فإنهم يرون وطنهم الأم من خلالها في الغربة القصيرة والطويلة. تسكنهم الدهشة على
ملامح الوجوه فلا يخبو بريقها رغم تكرارها وتوالي زياراتها؛ هذه كانت شذرات تأملية
ظليلة يقصها عشاق ومحبي مملكة تايلاند ومحمد أحدهم حينما يأخذهم الحنين إليها فلا
يبرحون مغادرتها إلا ويعاودون التفكير فيها مرارًا وتكرارًا.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام