سعيد مصلح؛ الموظف الذي ركب أمواج شطآنه
يحيى المعشري
الأحد 2 يوليو 2023مـ
يُحكي أنَّ شابًا يدعى "سعيد مصلح؛ قضى أوقات من سنواته في ممشى ممرات العمل في
الخوّار؛ عاقدًا ذراعيه؛ متأملًا في الشارع العام والسيارات القادمة من وراء
القارات، يُحدق بانتظام في المباني الشاهقة التي طالما فضّلها مجتمعة في مجمعًا
حكوميًا ذكيًا يُنهى فيها المعاملات الكترونيًا أو كما تنبأ
لمستقبل الذكاء الاصطناعي عبر التطبيقات الذكية؛ لتحسين أداء العمل وإنتاجيته عن
طريق أتمتة العمليات التي تستغني عن القوة البشرية، إنها الثورة القادمة لا محالة
يا سعيد، تضاربت أفكاره بل تحولت إلى هواجس؛ هل سيتغير النظام الصحي والتعليمي
والأنظمة الأخرى المرتبطة بهذين النظامين والغير مرتبطة، وهل ستختفي وظائف تعودنا
عليها سابقًا ويعيش ممتهنيها قلقًا قادمًا من هذا الفضاء، ينتظر سعيد مصلح الأخبار
الجديدة كحال زملاؤه في جلساتهم المعتادة؛ وقد أصبح المشي في هذا الوقت بالتحديد
جزءًا لا يتجزأ من روتين حياته اليومي؛ نصف ساعة وقد يمتد به الحال إلى ساعة وتزيد؛
يذرع الممرات بتؤدة وتتخطفه الأفكار التي حاول جدلًا أنَّ يُثنيها عنه ولم يستطع، وفي
الشتاء البارد يتعمد سعيد مصلح مواجهة أشعة الشمس؛ يتلمس حرارتها؛ باحثًا عن الدفء
وفي فصل الصيف يتخذ من الأشجار الظليلة وقاءً يحميه من وهجها الحارق وقد بدت عليه
أمارات الدهشة من هذا الحال؛ لكأنه أدرك أنّها الأقدار التي تتدخل في فترات حياته
وراح يناظر أصحاب السترات السوداء "الأفوكاتو" AVVOCATO وقد
همّوا بإيقاف سياراتهم على أطراف الشارع وطفقوا يشقون الطريق إلى أعمالهم؛ ملتفتين
يمنةً ويسرة مهابة أنَّ تباغتهم سيارة عابرة انشغل سائقها برسالة أتته من صديق أو
بمكالمة تلقفها على حين غرة من مديره ألهته عن مقود سيارته، سعيد مصلح هذا حمل من
اسمه الأخير المركب أداة إصلاح؛ لم يكن يعنيه من شأنه شيئًا عدا أنّه كُتب في آخر
اسمه وليس ذنبه أنَّ والده أسماه بذلك الاسم الغريب؛ لكنه بقي علامة فارقة اشتهر
بها بين أترابه والمقربين من الأصدقاء. يمضي قدمًا متأملًا مستقبله المبهم؛ ينتظر
جرة قلم تلقيه في بحرٍ هادرة أمواجه أو بئر يغرق في قاعها.
يقول سيغمون فرويد "المشاعر غير المعبر
عنها لا تموت أبدًا؛ إنها دفنت حية وستظهر لاحقًا بطرق أبشع...
هل فكرت للحظة أنك تدير مقود سيارتك استعدادًا للذهاب إلى العمل وقد ابتلعتكَ أفكار لا تبرح أنَّ تخرج من محيطك فتُثقلكَ للحد الذي لا تستطيع فيه القيام من فراشك الوثير وأنتَ في قمة نشاطك البدني وحيويتك وحضورك الذهني والفكري؛ هل فكرت يومًا أنَّ تنتزع ذلك الخيط الهلامي الذي يلوح في أفق لا قرار له ولا مسرى ولا مجرى؛ تعبر من خلاله إلى حيث المكان الذي يسكنك في ذلكَ العالم القصي وتقضي به ساعات طويلة من العمل؛ هكذا دار في خلد "سعيد مصلح- وأخذ يحدث نفسه وقد تملكته الهواجس والأفكار وكان بالكاد يستطيع حمل جسده؛ وكأن شيئًا بدأ يجثم عليه؛ نظرَ إلى زجاجة المرآه المواربة وقد استندت أمامه فأخذ يُحدث نفسه؛ محدقًا في اتساعها، تلاشت من فكره النتوءات والخدوشات على حافة المرآه التي أصابها التشظّي قبل يومين على الأقل أو هكذا يبدو له؛ فبدأ يتحدث كثيرًا في مواضيع شتى وكثير من النقاشات الجدلية؛ حتى أنَّ بعض أحاديثه بدت وكأنها غير مفهومة، فاستطرد يقول: عليّ أنَّ أتقبل فكرة الصيف واشتداد حرارته بفرح؛ فأنا من عشاق أجواءه؛ لأسباب عديدة أهمهما ازدياد الأنشطة الرياضية به. عدة خطوات أقوم بها من بواكير الصباح؛ بدءً من طرق تعاملي مع سيارتي تمامًا مثل معاملاتنا بني البشر من حيث الاهتمام وتأمين الأولويات وفيه ينتابني شعور يجثم على مشاعري تجاه الجنس البشري؛ فألوذ للسلام الداخلي بعيدًا عن ما يقض مضجعي؛ لذا ينتابني شعور الهروب من البقعة التي اعتدت التحرك فيها إلى فضاءٍ أجد فيه نفسي هادئ الطباع؛ مليء بالدهشة؛ متصالح مع من حولي. وأخيرًا وليس آخرًا أقوم ببعض التمارين الرياضية التي تشعرني أنًّ يومي خالٍ من النشاط دون القيام بها ولو لبضع دقائق. كما أنّي أستصيغ احتساء القهوة في الفصل البارد وبسعادة تامة وتكيف مع من حولي أكثر من فصل الصيف الحار.
سعيد مصلح والصديق الوهمي:
بدأ "سعيد مصلح يُفرغ ما بقلبه من مشاعر
فاستمر في حديثه قائلًا: أثناء رحلتي الصباحية من المنزل إلى مقر العمل دعني أُخبركَ
يا صديقي العزيز وأنا أخط هذه الحروف وأنت ماثل أمامي الآن في الطاولة المتاخمة؛ واضعًا
كفك اليمنى على خدك، متأبطًا كتابًا ورقيًا مهترئًا ولكأنه من كتب التراث؛ ممسكًا بقهوتك
الساخنة بقوة لا شعوريًا وكأنك تخاف هروبها؛ لكنك لا تعلم يا صديقي أنّي أخاطبك
فأستميحك عذرًا أن أحاورك ببعض ما يختلج مشاعري فأنت الوحيد الذي يمكنك معرفة ما
أقول أو تتنبأ بما أقول على أقل تقديـر، نعم؛ أنت وحدك فقط لا غيرك من يتقبل فكرة
سماعي.
كانت هذه الدمدمات هي أولى العبارات التي
وقعت من فاه " سعيد مصلح... تلقاها صديقه بلا تعقيبٍ يذكر، فكما أعلم ولا
تعلم يا صديقي أنّي أبدأ يومي بفحص مياه السيارة والزيوت؛ كما أتأكد من كفاءة
المحابس والمحرك وأشياء أخرى من أولويات المعارف التي أحرص على متابعتها في سيارتي
الخاصة إلى أن أذرع الطريق إلى مبنى مقر العمل في الخوّار، نعم، هي رحلتي الصباحية
إلى مقر عملي في هذه المنطقة المكتظة بالبشر وتبدو غالبية الوجوه بها من غير
السحنة المحلية، والخوّار هذه منطقة من
المناطق المنبسطة بالكاد أعلى طابق بها لا يزيد عن طوابق دول ناطحات السحاب تقع في
ولاية عريقة في العاصمة ومنها يمكنك رؤية الجبال المحيطة في الأرجاء؛ كما يمكنكَ
رؤية التلال والرمال والخوّار هذه هي الثقل الاقتصادي إلى فتراتٍ سابقة وإلى يومنا
هذا وقد يتنبأ العارفون بالاقتصاد أنَّ يتبدل حالها كما تبدل سلفًا حال منطقة الراوي
قبل عقود؛ زاد من وتيرة الحديث بارتياح فقد بدا صديقه مذعنًا له ومستمعًا جيدًا
قائلًا: الخوّار هذه فيها الشركات والوحدات الحكومية والفنادق ومجمع المحاكم والمجمعات التجارية ومكاتب المحاماة والمطاعم
والمقاهي وغيرها من الأنشطة وفيها المدراس والكليات والمراكز والمجمعات الصحية؛
وتكثر فيها مقاهي الشيشة في الأرجاء وبصورة غير منتظمة وحتى لا يفوتني يوجد بها
نادٍ من الأندية العريقة ويلقب بالعمدة؛
لأنه أول نادي رياضي تم تأسيسه في مطلع أربعينيات القرن المنصرم وكانت له تسمية
أخرى لا تحضرني الآن، سأرسلها لكَ حال حصلت عليها من أحد كبار السن وهم من الذين
عاصروا تلك الحقبة؛ تمتم في سره، منطقيًا
مسافة الطريق إلى مقر عملي لا تأخذ أكثر
من ساعة ونصف الساعة مع فرضية أي طارئ في الشارع أو الزحام الذي قد يحدث لأسباب
محتملة؛ فأنا لا أعلم ما هي هواياتك ولا أولويات اهتمامك في الحياة؛ لكني أخبرك
أنَّ ونيسي ورفيقي وأنا أطوي الطريق إلى مقر عملي سماع المذياع وتقليب الإذاعات الواحدة
تلو الأخرى وأجد نفسي في البرامج الحوارية والثقافية والمواضيع التي تثري
معلوماتي؛ ثمة شعور مختلف وأنا أتوجه إلى مقر عملي في الخوّار " هذه الأيام
وقبل أنَّ أخبرك عن هذا الشعور لا يفوتني أنَّ أسركَ عزيزي أنّي مغرمًا بالبرامج
الحوارية الرياضية وميّال إلى الحوارات التي تخص الدوري المحلي؛ ففيه أجدني قريب من
المشهد وأجدني ملم بجزئيات من تفاصيل الأحداث التي تدور وبإمكاني أنَّ أفند كل
كلمة وكل حرف يخرج من فاه المحللين والنقاد والرياضيين السابقين والحاليين؛ لأني
بطبيعة الحال يا صديقي أحد المتابعين للمشهد الرياضي ولو بالنذر اليسير؛ هنا
بطبيعة الحال لا أعني المعلومات الشافية والوافية؛ أما إذا كنت تريد معرفة أهم
وأجمل البرامج التي تطيب لي في الإذاعة هي قطعًا وبلا جدال البرامج الثقافية في
المشهد الثقافي؛ أهمها برنامجي ضفيف وفي بحر الكتابة من تقديم الشاعر والقاص سالمين
غانمين العمراني، لا تستغرب هذا الشعور يا صديقي ولا توليه ذلكَ الاهتمام فالصوت
الخارج من القاص العمراني جذاب وشاعري وأقرب ما يكون للمشهد الثقافي بكافة تجلياته
لكنه قليل الظهور؛ أي الشاعر والقاص سالمين العمراني، وفي ما يخص الشعور الذي يلج
أفكاري الآن يا "صديقي" هناك بون شاسع يعتري لجة مشاعري ليس على ما يرام
في هذه الأيام؛ على العكس في السنوات المنصرمة قبل التبدلات الحكومية الحالية- قد
لا يسألك أحد عن أحوالك في المجتمع الوظيفي الذي أنت فيه وما هو شعوركَ ولا يهتم
في الأساس أحد كيف تقضي يومكَ في الأوقات الآنية التي باتت تسرق من أعمارنا وتطوي
صفحات الرفاق؛ كطي السجل للكتب؛ هناك بريق بدأ ينطفئ في بعض الوجوه التي اعتدنا
نظارتها ما أثر على التعاملات بين الأقران وهذا يتأتى مع الزمن ويزيد فيصبح احتقانًا؛
من يعلم؟ هذه مجرد تفسيرات قد يجانبها الصواب وقد.. أخذ يرمق الساحة الخارجية قبل
أنَّ يكمل حديثه مع نفسه؛ في ما يخص الخطأ الذي قد يقع عليه.
توجد شِفرات ومشاهد يومية أفضّل أنَّ تبقى
مغلقة؛ حبيسة ولا أحبذ ذكرها للأنام؛ هناك مبهمات لا تستطيع معرفتها وليس من حقك
مجرد السؤال عنها؛ لكنها تبقى جزء من سجلك اليومي وروتين إما أنَّ يقتلك أو تدوس
عليه فيصبح مروية حكائية مع الزمن؛ تتغلب عليه بإشغال نفسك بما يفيدك وهناك ملامح
إذا ما سطرتها في دفاتر يومياتك أصبحت في ضيق من أمرك- الفراغ الذي أجده في أوقات
النهار بلا شك داءٌ عضال علاجه حقنة توصل المادة العلاجية إلى روحك بالقراءة
والقراءة والاطلاع وواحدة من طرق قتل الفراغ يا صديقي هي الكتابة وتدوين ما فات؛ أليست فلسفة التشافي
في ما يشار إليها من العرافين والمختصين هي التدوين والكتابة؛ ثمة علاج روحي وحسي
ووجداني بالتدوين وبالكتابة؛ فهي الإنجاز الذي يشعركَ بأن الفراغ ليس له مكان في
يومك- بدا الارتياح على "سعيد" في حديثه وبدأت الكلمات تخرج من فاهه
بسهولة ويسر على غير العادة؛ فراح يتحدث بنشوة عن ما يدور في مجتمعه الوظيفي من
أول ما يذرع طريق الخوّار. وفي غمرة حديثه
كان ينظر بعينين ساهمتين لا تبدو فيهما مخايل الإدراك خاصة عندما جاءت إحداهن وهي
مواطنة تبدو عليها أمارات الوقار والحاجة في ذات الوقت؛ كانت في العقد الثالث من
العمر؛ متوسطة القامة؛ ذات خصر نحيل وقوام ممشوق؛ جاءت لتنجز معاملة وقد علا على
وجهها عقدة الانتظار الطويل؛ تركت فيها أثرًا بليغًا لعدم المقدرة على استلام
المعاملة ردة فعل كتمتها في نفسها، دنت من الباب وأمسكت المزلاج وبدأت تستعيذ من
الشيطان وتحمد الله أنَّ الخبر السعيد الذي وصلها أول الصباح كان الحقنة الذي كتم
غيضها وانصرفت!
لم ينتهِ "سعيد مصلح من حديثه بعد فهناك
الكثير لِيُقال ويُرسل في بريد الفراغ؛ فأسهب يقول: يوجد من الزملاء من يتلفظ
كلمات معاناته مع الفراغ ومآله والمصير المجهول علانية فلا تراه متصنعًا في تحركاته
إلى حد الاشمئزاز المعروف بالخوف والغضب؛ كاللص الذي يريد أنَّ يلتهم وجبة من فم
أحدهم- اليوم فقط وليس الأمس بدأت أرى ندبة القلق على من هم في السلم الوظيفي
الأعلى منك؛ تمامًا كالقلق الذي انتاب راسكولنيكوف في رواية الجريمة والعقاب
لفيودور دوستويفسكي الهارب من العدالة فينتابني شعور خفي أننا لا نقل إجرامًا عنه
حينما نتسلل خلسة خارج جدران العمل؛ بداعي ماذا؟ توقف عند هذا الحد وفضّل عدم ذكر
السبب أو الأسباب، نعم؛ فهي كثيرة جدًا، والاحتفاظ ببعض الخواطر لنفسه وكتمها غاية
في الأهمية ونوع من الكياسة وقال: قد تكون اللعنة التي حلّت على البعض جرّاء
الترفع المرتسم على وجوههم- حالة ارتباك تنتابهم هم كذلك لكن الترفع الذي عليهم يختلف
في طريقة شكواهم ومناجاتهم؛ أهي حالة استلاب للآخر القادم من الخارج.!
مضى سعيد مصلح باحثًا عن الإصلاح من كرسيه للحظة لعله يحظى بقليل من الحب الذي يبحث عنه في المساحة التي شكلت لغيره بؤرة يتقاسم من خلالها شتى أنواع المكرمات- حاول جدلًا أنَّ يلتف على نفسه وأنَّ يخرج من دائرة المجتمع الوظيفي الذي ما بات ينصفه؛ لكنه أحس بأنه مكبلًا بتقارير التأخير والغياب؛ أدرك أنها ما عادت تضره كثيرًا ولا عادت تشكل له ذلك الهاجس المؤرق طالما ضلّ يعيش قناعاته الشخصية التي تنصفه في بعض الأحيان وربما تخذله في أحايين من يعلم؛ نعم من يعلم فهو لا يعلم الغيبيات المضمرة، لكنه وكغيره لم يسلم من الأعين المتلصصة التي يدفعها ذلكَ العرّاف الذي استمر ولا ينفك يدفع بالمغلوبين بلقمة العيش لتراقب الجدران والكراسي والأوراق والأقدام المتثاقلة، هكذا بدأ سعيد يحدث نفسه وقد أزعجته تلك التحركات القميئة، لقد عاش "سعيد" صراعًا مريرًا لا تدركه حتى نفسه؛ إذ لم يعد قادرًا على السيطرة على مشاعره ولم يعد يحتمل الصراعات الجانبية حوله، أخذ نفسًا عميقًا وبدأ يقلب كلتا عينيه وينظر شزرًا في الجدران والمرواح وبدأ يهذي ويهلوس ويسوق أيامه قبل سنوات وكأنه يتمنى أنَّ يعود به الزمن إلى سنوات مضت وفيها يقرر قرارات حاسمة في الوظيفة ومكان العمل، فقرأ عن مفهوم "النوستالجيا" وتعرف عليه من الباحثين والمفكرين الكبار- كان يلوذ إلى الصمت وحياة العزلة في أحيان كثيرة مغبة أنَّ يقع فريسة التفكير السلبي، قاوم سعيد مصلح واقعه وأقنع ذاته أنه يجب أنَّ يخرج من ذلك المحيط وبدأ يتمعن في أقوال الفلاسفة ومن ضمن الأقوال التي كان يتفكر فيها ولا يعلم أنَّ من في السلم الوظيفي الأعلى قد مر عليه هذا القول أم لا "وأنتّ تنظر ستعلم لماذا سميت عقارب الساعة بالعقارب" وليم شكسبير.. "لقد تعبت من محاولة ملء مساحاتي الفارغة بأشياء لا أحتاجها وأشخاص لا أحبهم" فرجينيا وولف، انداحت في خلده فكرة أو هاجس أتاه على حسن غرة فأفرغه فورًا في الفضاء متسائلًا؛ كم من الحصص أو البرامج التدريبية التي فاتته والزملاء والزميلات؛ التخصصية والإدارية أو التي تعلمه مهارات التعامل مع الآخرين في المجتمع الوظيفي أو التي تنمي مهاراته العملية والسلوكية؛ كما استنكر طريقة الدوران ولا سيعلم من المسمى عدا أنّه دوران فقط الذي بدأ يلوح في الأفق ووصمه أنّه شأن الغريق الذي يتعلق بالقشة؛ مؤملًا النجاة!
لم يعد سعيد مصلح يطرق ببصره إلى الأبواب
المفتوحة لدى مكاتب الموظفين والموظفات؛ لقد طابت نفسه، أهي التراكمات التي تنال
من المرء مع الزمن أم هو الشرود الذهني الذي بدأ يستلب منه اللحظات الجميلة؛ نعم،
أليس الفراغ وعدم القيام بعملٍ ما هي لحظات جميلة، لماذا على المرء أنَّ يحشر نفسه
في العمل ويطرق أبواب المسؤولين بحثًا عن الشقاء؛ كانت تبدو عليه أمارات عدم
الرضا- فهذه الأوقات التي يقضيها بين الجدران؛ هي أوقات مسروقة، يتلذذ مثل الباقين
بأصناف الأكلات وتلمظ أنواع القهوة- ويطيب له كذلك أكل الكعك المُعد منزليًا أو
يجده على طاولة العمل؛ لقد أقسم بأغلظ الأيمان أنَّ الحال لن يبقى طويلًا أو هكذا
سمع من أحدهم وبات وكأنه مدركًا أنّها الحقيقة القادمة من وراء السراب وتطن على
مسامعه تلك العبارات كأسراب النوارس التي تتقاطر على رصيف البحر؛ إنها فصول الأمل
التي تملكت البعض وإنه المستقبل المجهول الذي طال انتظاره؛ فكم من مهارات فُقدت
بعد هذا التوقف وكم من الممارسات العملية غابت وذبلت وكم من النفسيات تبدلت وتغيرت
وضاق بها الحال... لقد سئم "سعيد مصلح الوضع وأضحى يحفظ المواقف الخارجية لمبنى
العمل الذي يظله الساعات الفارغة بين الجدران وحفظ عدد الأشجار الظليلة وغير
الظليلة في الخارج؛ انتزع نفسه ومضى بخطى حثيثة وكأنه يهرب من المصير المجهول-
لكنه هدّأ من روعه واتخذ في قرارة نفسه أنَّ لا يكثر من الحوارات والنقاشات مع
الزملاء والزميلات؛ حتى لا يدخل مع أحدهم في حوارٍ عقيم؛ يخرج منه كلا الطرفين
خاسرًا فأسرّها في نفسه وأغلق تلكّ الأبواب، تهلهلت أساريره وخرجت من ذهنه فكرة
كانت قد اختمرت بداخله لا يود البوح بها بين أقرانه واضعًا عدة أشياء في خلده؛
موجهًا أسئلة يراها منطقية في قرارة نفسه- لماذا كل هذا الهدر في مبنى العمل؛ من
طاقة كهربائية ومائية وقبل أنَّ يكمل استطرد يقول أليس أهمها الطاقة البشرية، نعم؛
أليست الطاقة البشرية قابلة للذبول وتعوّد الدعة والركون إلى الكسل وأكمل يحدّث
نفسه كم من المأكولات والمشروبات والعزائم التي لا ترمم العلاقات بعد الصرف من غير
جدوى؛ فأردف يزيد التساؤلات المختمرة في فكره ألسنا نحن البشر في هذا الكوكب نحمل مؤهلات
عليا ومسميات وظيفية وأسماء لها وزنها وحضورها في المجتمع يقال أنها المخططة
وراسمة لملامح المستقبل ألم تفكر في أمر الهدر هذا بمنطقية ونعفي أنفسنا من؟ من
ماذا يا سعيد أرجوك توقف إلى هذا الحد وكفى، لا يسمح لك حتى التفكير في هذا الأمر؛
كُن مطيعًا ولا تتفلسف ومن أنتَ حتى تفكر هكذا؟ أنت مجنون وواهم ومخبول!
فزّ
سعيد مصلح من مكانه وانتزع المزلاج وهرب قبل أنَّ يستفيق من حلمه؛ لقد كان حلمًا
غريبًا لا يعلم كم من الوقت استمر وهو يعيش تلك اللحظات الخارجة عن الواقع. هرع
يهرب إلى الشارع الموارب وأخذ يصرخ بأعلى صوته "أنا مجنون، أنا مجنون، أنا
معتوه، حدق القوم في سعيد وهو يصارخ هكذا وقالوا بصوت واحد- لقد جن ولد مصلح لقد
جن ولد مصلح وذهب عقله وضحكوا جميعًا ضحكة هستيرية مشوبة بالبكاء
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام