تشاو فرايا أسطورة أعين مدينة السماء بانكوك التي لا يطالها السهاد
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند
الورقة التاسعة
تشاو فرايا أسطورة أعين مدينة السماء بانكوك التي لا يطالها السهاد
يحيى المعشري
أدركت أنَّ التجارب في السفر محط اهتمامي في
تطوافي هذا وعلمت أنَّ بانكوك اختلفت أسعارها عن السابق؛ فقد باتت الأسعار في ازدياد؛
لذلكَ قررت التنقل عن طريق وسائل النقل التي يستخدمها المحليين وكانت من ضمن
الوسائل وهي كثيرة بطبيعة الحال في أرض سيام التنقل عن طريق القوارب والعبارات في
الأنهار؛ سواء للتنزه والاستكشاف أو حمل البضائع والمؤن أو للأعمال وهذا الأسلوب
يعتمد عليه المحليين في العادة؛ ولا بأس أن يكون نهر تشاو فرايا رغم بساطته تجربتي
القادمة في التنقل.
في اللحظة التي كنت أجثم بكلتا قدماي على
أرصفة أزقة شوارع النانا رود سوكومفيت بأريحية دون قيود الملابس الثقيلة؛ أتخفف
بالبرمودا وأحذية الجلد المقلدة؛ أطالع إلى شرفة فندق "جراند لكّي
هوتيل" الذي اعتدت أنَّ أقطنه منذ سنوات خلت؛ لاحت لي جلسات السحنات العربية
في الرواق الخارجي لمقهى نيفرتيتي وكرك نادية؛ حيث التجمع العربي من مختلف الأمصار
العربية، يتبادلون أحاديث السفر والعلاج والسياسة والاقتصاد والتنقل بين الجزر التايلاندية
والدول المجاورة؛ فأجلت بصري قبالة مطعم الحسين وأبو دبة الصوت اليمني الشجي و محل
ساعات فريدة علي المقلدة والمصارف المالية وعربات الباعة الجائلين في الأرجاء؛
متجاوزًا أصوات العارضين التي تطلب ودّ السياح بحذر المسافر الذي تشرّب من
التجارب؛ فاتجهت هنيئة في الطريق الذي يقود إلى "فندق جريس"؛ أرتحل
بنظري إلى الوجوه المتعبة من أبناء وبنات الخليج الذين أقاموا في مستشفى بمرونجراد
الدولي بحثًا عن التشخيص السليم؛ محملين بأكياس الأمصال؛ مارًا على محل فاطمة شوب
لعلّي أجد من أعرفه يحمل أكياسًا من المراهم والأعشاب؛ فالصعود قليلًا حتى الوصول
إلى الإطلالة على نهر "تشاو فرايا"- إنني الآن قبالة مسرح تجربة ثانية
للتنقل في أرجاء العاصمة التايلاندية بانكوك وقد تشابهت تجربتي هذه مع تجارب
الكثيرين ممن يروق لهم التنقل في الوسائل التي يعتمد عليها السكان المحليين.
فورًا قطعت الشارع الموارب وانعطفت إلى ممرٍ
ضيق يقودني إلى مرفأ أو ضفة صغيرة مكونة من الاسمنت البسيط؛ تقعُ على جنبات نهر
"تشاو فرايا" بطوله الذي يقارب (372) كم وهو النهر الرئيسي في تايلاند
ويلتقي في وسط تايلاند نهر بينغ ونهر نان في ناخون صوان؛ يتنقل من خلاله المحليين
إلى وجهاتهم، كما أنّه ليس بتلك النظافة التي تعودنا عليها في بلداننا لكنك هنا
تشعر بالحوية والنشاط وأنت تناظر في الحراك البشري من الذين فرّوا من زحام شوارع
بانكوك واختناقاتها وأسعار وسائل التنقل المرتفعة.
ثمة قوارب مخصصة للتنقل؛ قررت أن أستقل قارب
الأجرة من الضفة إلى الضفة وبمبلغ (41) بات؛ هرولت نحو القارب أتطهر أليست الأنهار
طُهر البلدان ورافدها؛ انحنيت على القارب المتأرجح ممسكًا بالحبل؛ ممعنًا بتركيز
في السقف على الجزء الخارجي من القارب المثبت بقماشة زيتية- وقبل أنَّ أودع الضفة
الأولى ألقيت نظرة عابرة على المرفأ الصغير متفحصًا الخريطة المثبتة بإحكام وفيها
الوجهات التي يقلني إليها القارب بالمواعيد والتواقيت؛ كانت لوحة بطول قامة رجل
لكنها معلقة كأسقف منحوتة على جدران اسمنتية؛ إلّا أنَّ الّلوحة مثبتة ببراغي
حديدية تقاوم أمطار مدينة الملائكة الغزيرة، أرفع هاتفي قليلًا بخجل السائح الذي
يهاب خصوصية التصوير المزعجة للبعض فرأيتهم لا يعبأون؛ فأغلبهم مشغولون بهواتفهم
وغير مكترثين بي ولا بالروائح المنبعثة من تيارات النهر كمن أصابه دوار البحر
وأمواجه الهادرة- تركتهم يعيشون عالمهم؛ لأعيش عالمي بتجربة التنقل على ضفاف نهر
"تشاو فرايا" فاخترت القارب السياحي أو الأجرة لا يهم المهم أنَّ أصل
وجهتي إلى سوق "باتونام"؛ وعندما أتت محصلة المبالغ المسؤولة عن القارب
صرختُ بصوتٍ عالٍ وحاد اخترق أذني؛ فهي لا تسمعني الآن، فصوت الهواء نتيجة انطلاق
القارب بسرعة؛ مع سرعة المحرك وارتطامه بالموج حجب صوتي وخشية أنَّ أضيّع محطة
السوق سألتها وبدون أي تفسيرات قائلًا: باتونام؟ أومأت إيجابًا أنت في المكان
الصحيح ولا يوجد أدنى مجال للتفاوض مشيرة إلى سرعة دفع مبلغ ركوب القارب فأمامها
مهمات عديدة؛ أدركت أن مهمتها في القارب إضافة إلى تحصيل النقود؛ تنظيمية وتتطلب
السرعة والدقة وحسن التعامل مع الركاب وبسرعة قصوى وهي بطبيعة الحال مهمة ليست بالبساطة
التي تخيلتها، يسبق كل ذلك تقوم بتسليمك فور ركوبك بطاقة تضمن مكانك ضمن عشرات
الركاب؛ كنت أخشى أنَّ تطير مع سرعة الرياح؛ أي بطاقة الصعود؛ حينها وجدت صعوبة
بالغة في التصوير الذي رسمته للتوقف قبل أنَّ أستند على عمود من الحديد الصلب؛
فأرخيت يدي ودسستها في جيبي مكتفيًا بالهاتف وحده في التوثيق؛ أنظر شزرًا للعاملات
في القارب فأرمق المحليين يصطفون في الكراسي بينما آثر البعض منهم الوقوف مثلي؛
فجأة انبرت إحدى المسؤولات عن القارب قائلة: بصوتٍ خفيض وملوحة بيدها اليمنى
"باتونام" أي أنّي قد وصلت مقصدي؛ كانت ضفة تتشابه مع الضفة الأولى؛
يتوسطها ممر ودرج فوقها جسر أشبه بجسور العشاق، لكنه بلا أقفال وتساءلت هل لأقفال
العشاق أسطورة تتفرد بها بعض البلدان ولا تلقي لها بالًا بلدان أخرى- التقطت بعض
الصور التذكارية فمنظر النهر من الأعلى وعلى متنه القوارب المحملة بالركاب لا
يقاوم؛ يغري أي عابر فما بالك بمن يستهويه التوثيق المرئي والتصوير.
الساعة الآن تشير للخامسة مساءً والطريق
المفضي إلى باتونام الشعبي مكتظ بالسياح والسكان المحليين ومن جرتهم أقدامهم
ليكونوا ضمن المشهد في الأرجاء- ها هو سوق باتونام الشعبي يُلقي بظلاله وقد بدأ
الباعة يفترشون الطرقات وبدأتُ أنا أخطو هنيئة مستمتعًا بالأنشطة التي تمارس- فهذا
الإسكافي يخيط الأحذية الجلدية وتلكَ المرأة تخيط الملابس في الشارع أسفل الجسر
وهذا يعد الأطعمة الداخلة في شبهة الحلال والحرام فأنتقي ما أشتهي وتلكَ تصطف على ردهة ضيقة وقد
وضعت كرتونة كُتب عليها (20) بات وفيها العصائر الطازجة وفي الرواق الآخر وأنتَ
تخترق المسافات تجد المدلكات يصرخن بأصوات فيها من التغنج والتوسل وقد تقع في فخ
غواية الأجساد الذكورية المؤنثة وما أكثرهم في سيام التي تعترف بكلِ شيء ولا تقبل
الفروقات والتمييزات الجندرية؛ لقد حلّ المساء وكان عليّ أنَّ أدخل مركز
"سكوير سنتر" بعد أنَّ ابتعت من باتونام الفواكه والخضروات وبعض الأحذية
الجلدية والحقائب محلية الصنع ولم تنتهِ حكاية باتونام في أرض سيام الذي أعكف على
زيارته في كل مرة أزور فيها بانكوك قبل أنَّ أقفل عائدًا من المسار الآخر وبطريقة عكسية مودعًا اللحظات
الجميلة في هذا المشهد على أنَّ تكون النانا رود هي المحطة الأخيرة في بانكوك.
وفي طريق العودة أجلت بصري في القارب بتفرس
هذه المرة فأنا لم أنشغل بأمر التوثيق والتصوير أكثر من لحظة الذهاب إلّا في مشاهد
قليلة؛ تفحصت القارب بتركيز فإذا برجل وامرأة شابان أوروبيان في منتصف العقد
الثاني من العمر كما يبدو من ملامحهما؛ كانا ستهامسان بحنان- رأيت الفتاة بوجهها
الأشقر تجلس القرفصاء على شاكلة الجالسون أمام رهبان البوذا في المعابد؛ كما أنّه
هو الآخر منهمك فغي التقاط الصور لها وهي تسافر في لجة عشق الحبيب وهيام أسطورة
تشاو فرايا؛ حينها أدركت أنّها هي الأخرى تمارس طقوسها الأخلاقية التي تدعوها عن
العزوف عن ملذات الدنيا، غابت هي في طقوسها وعباداتها كالصخرة الجاثمة في وسط
الوادي وخصلات شعرها تتطاير ذات اليمين وذات الشمال وغصتُ أنا في أفكاري التي اعتدت أنَّ
أخفيها في تلك اللحظات بالتأمل والتفكر في حياة الشعوب وقدرتها على تطويع الأشياء
فيما يخدمهم وقد تأتي اللحظات المناسبة التي أخطّها في هوامش الورق، أفكار تطبق في
بلادي؛ فلدينا الجبال ولدينا الشواطئ والكهوف والبحار وبيوت الطين والحارات
المتشابكة الجدران والضفاف التي تطير في أرجائها النوارس والقلاع الحصون بإطلالاتها
الجميلة ولدينا الأساطير وفنتازيا الخيال التي تصلح لأن تكون مادة سياحية تستفيد
منها الأوطان؛ أخيرًا أرخى القارب سدوله في الضفة وقلتُ بعد أنَّ أنهيت تجربة تشاو فرايا
أسطورة أعين مدينة السماء وأنا أشتم
هواء الوصول "ما أجمل النانا؛ فهي كالأوطان التي نحبها".
موقع الضفة الأولى لنهر تشاو فرايا
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام