على مروج المسافات لمعبد بوذا الكبير أتفرس الراهب في تل براتومناك
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند
الورقة الخامسة
على مروج المسافات لمعبد بوذا
الكبير أتفرس الراهب في تل براتومناك
يحيى المعشري
دأبت على مواصلة سيري بتؤدة بعد أنّ
تركت الرجل العجوز وزوجته المسنة وقد شَعرتُ بالحسرة عليهم؛ أنفاسٌ مكتومة وحشرجة
تصدر منها؛ لأنهم لم يكملوا الوصول إلى المعبد فقد كانوا في شبابهم فراشات حالمة
تعيش على بقعة الضوء وقد كانوا يستطيعون قضاء ما يريدون دون الالتفات لعامل السن-
سرعان ما تبددت الحسرة إلى واقع كلنا نعيشه؛ المراحل العمرية تلكَ تأتينا جميعًا؛
طالما لا زلنا ندب على الخليقة؛ نشاهد في المرايا مراحل تبدل وجوهنا وتغير اللون
الأسود في شعرنا فيعشعش فيه البياض كزهرة بيضاء سقطت على الأرض نخفيها حتى لا
تتطاير مع نسمة هواء عابرة؛ فلا يجب أنّ نقلق.
*الأرواح التي اعتادت القلق تظن أنّ الطمأنينة فخ* دوستويفسكي
لقد تركت أثرهم خلفي متتبعًا أحد
المسارات العلوية المرصوفة والأشجار الظليلة تحفني وكان لوجود الأشجار تلكَ سلوى
وعزاء؛ نظير ارتفاع حرارة الجو ومن المؤسف أنني لم أعتمر قبعة تقيني وهج الصيف
وحرارة الجو؛ شعرت بنشوة تسري في أوصالي؛ فها أنا على بعد خطوات من الوصول فبادلني
أحد العاملين في التشجير الحوار بعد أن طلبت منه رغبتي في الحصول على معلومات طريق
الوصول؛ كانت لديه آلة تقطيع الحشائش تُحدث جلبة وهذا يعني إن رغبت الحديث معه
عليه أن يتوقف قليلًا عن العمل، فقابلني بابتسامة صادقة ونفس ودودة فلوح بكلتا
يديه للطريق الصحيح فذرعت الطريق مجددًا في تلكَ اللحظة وأنا أحدق من بعيد للشارع
المقابل رمقت الباصات السياحية تأتي بالسياح الهنود وكانوا يأتون قوافل؛ فقد باتت
الجالية الهندية في تايلاند كثيرة- تخبئ بتايا في العيون خيوط وحكايات؛ لقد أعاد
ذلك المشهد ارتباطنا الأزلي بالجاليات الهندية عبر العصور والأزمنة؛ فبات تاريخنا
مشترك وحضارتنا متمازجة؛ كما هو الحال على ثقافتنا في المأكل والملبس.
ها هي الجنسية الهندية تتنامى في
بتايا؛ فقد تبدلت الأحوال وأصبحوا الأقلية الأكثر بعد أن كان العرب لهم الحظوة
والسيطرة على السياحة في هذه المدينة؛ فلم يعد يقتصر حضورهم على الثقافة والهوية
أو الجانب السياحي فحسب؛ بل تعداه إلى التوسع التجاري والاقتصادي والاستثماري، ومع
مرور السنوات وتبدل الفصول والأيام قد نشاهدهم العنصر المسيطر في مفاصل هذه
المدينة وأغلب مفاصل الرحاب التايلاندية؛ من يعلم؟ طرحت سؤالًا عابرًا على نفسي وتركت
الإجابة تمور في كف الأيام.
وفي فناءٍ مسطح تصطف الباصات
السياحية قبالة اليمين كما يوجد في كلِ باص الدليل السياحي وغالبًا يكون من
الجنسية التايلاندية أو من ذات الجنسية كما هو الحال على السياح من الجالية
الهندية أمامي؛ ومن تلكَ الساحة أنتَ على بعد خطوات للوصول؛ كنتُ أقبض على هاتفي
مصوبًا الكاميرا في وضعية التشغيل على رأس تمثال بوذا الكبير في قمة تل براتومناك
في منطقة "soi2" بإطلالته على هضبة بتايا وعلى
الجنبات، فتفحصت المكان قبل أن أشرع بالتجوال؛ كان عليّ معرفة ما يدور في الأرجاء
قبل أنّ أهم بتسجيل ملحوظاتي كعادتي عند زيارة الأمكنة السياحية والأثرية ومن
الوهلة الأولى عند المدخل بعد تجاوزي الدرج السفلي المفضي للأعلى شاهدت سيدة في
عقدها الخامس بها ندبة في أعلى جبينها؛ تجلس القرفصاء، تتمتم بعبارات غير مفهومة
بالنسبة لي وتغمض عينيها وتمسح دموع الخطايا؛ كانت تضع كل حواسها أمام ذلك الشريط
الموجه للتمثال وتضع الورود ومبالغ مالية وخلفها طابور من المنتظرين؛ يرمون لنيل
شرف الظفر بفرصة الصلاة والتعبد في حضرة البوذا؛ هم كذلك؛ مع إرسال رسائلهم
الروحية إلى السماء- ترتعش أجسادهم أمام البوذا وفي داخل أروقة الساحة يسيّج المكان
بأشجار الصفصاف أو هكذا يبدو لي؛ ثمة أشجار معمرة تكتسي ساحة البوذا الكبير- إنه
سياج الفرح والغفران وفي ضوء النهار الشمس تتربع السماء فتتساقط من الجباه حبات
العرق- نصّبت "التراي بود" على أريكة غير ثابتة وعلى وضعية تصوير
السيلفي ألتقط بعض الحكايات في حضرة البوذا الكبير؛ بدأت أحبو بارتياح كعاشق- ثمة
هنود وجاليات أخرى وقرويون يعيشون مثلي اللحظات؛ يوثقون يومياتهم.
ورود صفراء وحمراء وبيضاء وأخرى
كحديقة غنّاء زينت المكان وهناك شاب ذا سحنة سمراء أفريقي الجنسية في عقده الثالث؛
مفتول العضلات؛ بدأ هو الآخر يوشوش للبوذا، لربما يريد أنّ يصبحَ ثريًا- مررتُ على
باعة يبيعون المشغولات اليدوية والورود والهدايا- كانوا يعلمون أنّ هؤلاء السياح
بمختلف توجهاتهم لا يملكون ذات الرغبة لشراء الهدايا والقرابين؛ ألقيت عليهم تحية
عابرة وطبعت ابتسامة خاطفة قبل أنّ أعرج إلى رواق "الراهب" وهو شاب
يتجاوز الثلاثين من العمر قليلًا؛ يرتدي ملابس الرهبنة التي تتناسب مع الأجواء
الاستوائية؛ أخذ له متكأً خاصًا به في الوسط؛ ترك رفاقه وصخب الحياة وضجيجها؛
ليمارس الرهبنة البوذية وهي واحدة من أقدام أشكال الرهبنة المنظمة؛ يعرفون باسم
"بيكلو وبيكوتي" يعتبرهم التايلانديون مصدر الأمان المعيشي الأول كما
يشير محرك البحث ويكيبيديا وتختلف ملابس الرهبان في تايلاند عن بقية دول العالم
بحسب الظروف الاجتماعية والجغرافية.
أرهفت سمعي إلى قراءات بصوتٍ عالٍ
يدلقها الراهب على زوجان يبدو أنهما أوروبيان أتيا ليتباركا وليعرفا حظهما ومن
الملاحظ أنّ الرهبان لهم اعتبارات خاصة ويتسيدون المشهد ويفرضون احترامهم بين
الشعب التايلاندي؛ يلجأ إليهم أصحاب الياقات الراقية والبشرة الشقراء كما هو
المشهد أمامي دون اعتبار أنهم من الطبقة الفقيرة والآخرين ينتمون للطبقة
الارستقراطية البرجوازية- بدى لي المشهد مغري لمعرفة المزيد ونسيت أنّ في الأعراف
لديهم لا يجوز الدخول بالحذاء في رواق "الراهب"؛ بدأت أصور الراهب وهو
يتلو الدعاء على الزوجين، بينما لا زلت أرتدي حذائي وهو عبارة عن حذا من نوع
"أكوا جريب" أسود اللون، ذا طبقة قماشية علوية واسفنج سفلي مقاوم للماء؛
في بادئ الأمر قطع الراهب دعاءه وزمجر تعبيرًا عن عدم رضاه وطلب مني خلع حذائي في
الخارج واحترام تقاليدهم البوذية؛ رمق الراهب الحذاء وطبع ابتسامة رضا لم انتبه
إليها من أول وهلة؛ كنتُ منهمكًا بالتوثيق والتصوير وكتابة الملحوظات؛ بيدّ أنّ
حدة الزمجرة خفتت لدى الراهب وضمّ راحة يداه ودسهم في أنفه وأغمض كلتا عينيه
طالبًا من الزوجين الأوروبيان ترديد العبارات والأدعية التي يتلوها وأنا أصيخ
السمع بتمعن بينما نظر إليّ الراهب فجأة وطبع ابتسامة شفيفة تنم عن إعجابه
بالحذاء؛ انتبهت للأمر وقبل أنّ ينهي الدعاء للزوجين، فضّلت الذهاب وعدم البقاء؛
فأمامي طريق العودة ولا أعلم هل أمامي مع الراهب شموع باكية كالتي توضع أمام نصب
البوذا أم مستقبل سعيد ودعاء شفيف يدلقه عليّ الراهب- أنا لا أحتمل المفاجآت سرت
في جسدي هواجس ومخاوف تداركها وتواريت عن الأنظار فورًا.
الجمعة ٧ أبريل ٢٠٢٣م
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام