مطعم أبو سعيد الجامعة التي لا تَصدر شهادات مختومة

 

يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند 🇹🇭

الورقة الثالثة

مطعم أبو سعيد الجامعة التي لا تَصدر شهادات مختومة

يحيى المعشري ✍️

هل جلستم يومًا في كرك نادية في سوكومفيت بانكوك نانا العرب تمعنون النظر في الذاهبون والآيبون، تصيخون السمع لقصص الشعوب من تلكَ البقاع أو تعقدون صفقة تجارية تزيد من مدخولكم الشهري؟ هل ألقيتم يومًا نظرة ممعنة على روائع نجيب محفوظ نديم فهمي الفيشاوي في مقهاه في الحسين بالقاهرة لتتعرفوا على أنها واحدة من أماكن الكتابة لرواياته الخالدة؟ هل تبادلتم نظرات سريعة يومًا في المقاهي الشعبية القديمة التي يَفِد إليها المتعبون من الأسفار من أدنى الأرض إلى أقصاها؛ نعم لقد عشت الأجواء تلك في مقاهٍ كانت أم مطاعم أو ردهات تقدم فيها الخدمات؛ يستأنس فيها العابرون لتكون ملاذهم في زحمة المشاوير، ويلتقوا لتبدأ أحجياتهم منها وإليها. كنتُ أحدق في أبو سعيد وأنا أهمّ بغسيل يداي بعد وجبة غداء وُضعت ضمن القائمة المعروضة في الخارج على واجهة المطعم؛ أي مطعم أبو سعيد ذائع الصيت في منطقة بتايا في مملكة تايلاند ومن مدخل البوابة الزجاجية شرعت بالدخول؛ كانت وجبة دسمة بامتياز مكونة من الرز ونصف دجاجة مع قليل من البهارات والتوابل ومع توالي زياراتي في رحلتي هذه إلى مطعم أبو سعيد في مارس ٢٠٢٣؛ ليس لأنه يمتلك الخيار الأفضل من بين بقية المطاعم فحسب؛ لكني أزوره مستعيدًا ذكرياتي في مثلث العرب أو مثلث مارين كما يحلو للبعض تسميته في منطقة بتايا بمحافظة شونبوري وعلى فترات متفرقة؛ فأنا لستُ كثير الترحال إلى مملكة تايلاند أسوة بكثيرين من الإخوة الذين لا يروق لهم زيارة بلدات العالم كما تروق لهم أرض سيام، فلم تكن تايلاند بتلك الأرض التي هُيأت على النمط القوطي ولا على الطريقة الكلاسيكية واليونانية والرومانية أو العمارة البيزنطية كحال الكثير من الحضارات ذات الزخرفات التي تسحر الأنظار؛ لكنها تفردت بنمطها العمراني الذي يتقاطر مع العديد من بلدان شرق آسيا.

 

وعند كابينة المحاسبة وفي رواقٍ قريب يجلس أبو سعيد صاحب المطعم وهو ليبي الجنسية؛ متوسط الطول؛ ذا سحنة بيضاء، يستندُ بمرفقيه على طاولة قريبة من مكان المحاسبة وأمامه شاشة تلفاز؛ يضعُ في اصبعه خاتم فضي يتوسطه فص بلون فيروزي يبرق منه شعاع؛ يُطالع الأخبار تارة وتارة غارقًا في أفكاره، ومن اللافت أنه من الذين استثمروا في هذه البقاع وقد طاب به المقام ومرت السنوات على أبو سعيد بعد أنّ خرج من ليبيا وهي دولة تقع في شمال أفريقيا؛ لقد مرت السنوات عليه كما هو الحال على كثيرين من المغتربين العرب الذين آثرا البقاء هنا من أجل العمل؛ وفي حديثٍ سابق ذات سفر قالي لي: لقد قَدِمت إلى تايلاند في أواخر ثمانينات أو مطلع تسعينيات القرن الحالي إلى أن استقر بي المقام هنا كحال المغتربين يتنقلون من مكان إلى آخر. وقد كان هذا المطعم ذا حجم أصغر عن الحالي؛ يملكه رجل باكستاني الجنسية منذ مطلع الثمانينات وبجواره محل صغير لبيع أعواد الطيب والبخور وهو من أقدم المطاعم هنا بمثلث العرب رفقة مطعم آخر لا يحضرني اسمه بشهادة العارفين بشؤون تايلاند.

على طاولة الغياب ثمة حكايات عميقة وأهازيج حلم مليئة بوجد الغربة وفقد الأوطان؛ ها هو مطعم أبو سعيد كغيره من المطاعم العربية التي تُجر إليها أقدام المسافرون بحثًا عن الأكل الحلال؛ يأتيه الحالمون بالمغامرات والمتطلعون للجلوس في الكراسي الخارجية؛ يطالعون دبيب الأقدام في الخارج، فقد كانت تلكَ الجلسة أشبه بكنبة الملوك للهاربين من ضغوطات الحياة؛ فمنهم من يمضي هناك ساعة وآخرون في اليوم ذاته تتالى جلساتهم هناك؛ كسوسنة زُرِعَت في حقلٍ مزهر؛ يأتيه الهائمون لرؤية الناس من مختلف دول العالم؛ يتبادلون أطراف الحديث؛ يتحدثون عن الحياة والأسفار والتجارب والتجارة والسياسة والهوايات والرحلات والمغامرات والعلاج؛ يأتيه المتيمون بحضور جلسات الثقافة والمعرفة؛ هنا في هذه الجلسات الخارجية بأشكالها العمودية البسيطة تُطرح القضايا وتُبنى العلاقات؛ فكم من شخوصٍ كان هذا المكان مقر تعارفهم فاصبحوا أصدقاء حياة، إذن هو أشبه بجامعة مفتوحة؛ نعم هكذا تبدو أليس الحديث مع إنسان عارف وفاهم يعادل دراسة شهر في الأمثال الصينية؛ كما يأتيه الشاربون والفارون من صخب الحانات المفتوحة خلف فندق "مارين بلازا" بعد أن تغلق على أضواء النهار، ليملئوا بطونهم بأطيب الأكلات العربية ويرتشفون السجائر فتتطاير نفثات دخانهم في السماء. فضلًا عن المسؤولون في مناصبهم الفارين من ضغوطات الأعمال والحياة.

 

قلت لي أيها النهار كيف أكسر حاجز الصمت؛ إنه الصمت الذي أراه يطوق على جسد ذلك الرجل الخمسيني أبو سعيد الليبي؛ صمت الغربة الطويلة نحن نصمت لأننا تغربنا عن أوطاننا أيام وأسابيع فكيف بالمغترب لعقودٍ من الأزمنة؛ فعلى تلكَ الجلسة تجده قليل الحديث ودائم العزلة- إذًا هي عزلة المكتفي من صخب الحياة وضجيجها؛ فقد تشبعت عيناه من رؤية أطياف البشر ومن كافة أصقاع الأرض؛ يأتون إليه مقلبين شريط الذكريات، كما يرسلون لحظاتهم الحالية لزملائهم وأهاليهم وكما هم هكذا كان أبو سعيد بين الحين والآخر يبدل مقر جلوسه ثم يختفي ويتوارى عن الأنظار.

وحينما تسنح لي الفرصة أغتنم الحديث معه للحظات قبل أن أطلب قهوتي المفضلة وأحجز كرسيًا في الرواق الخارجي أستمع لذاك الذي يدلق كلمة استلطافية لتلكَ القادمة من جنبات الشارع المحاذي وأحظى بالخدمات والعروض السياحية التي يقدمها المحليين وقد يأتيكَ ملمع الأحذية فيلح عليكَ أن تقبل خدمته فتوافق على مضض مقابل اليسير من الباتات؛ كما يمرُ عليكَ وأنت جالس في هدوء من يسعل ومن يبصق ومن يتمخط ومن يحدثُ صريرًا في الكراسي الجانبية.

وفي رحلتي الأخيرة هذه تعرفت على الشاب سعيد من دولة الكويت وتعرفت على الشاب محمد إماراتي الجنسية والأخير مغرم بالسياحة ولديه تجارة خاصة وكثير من تجارب الحياة؛ كما تعرفت على الرجل الليبي الذي يبيع في محل الأعشاب المقابل لمطعم أبو سعيد وصديقه مروان الذي أتى لتايلاند بحثًا عن مشاريع استثمارية؛ لقد تعمدت المثول إلى هذه الجلسة بين الفينة والفينة؛ لأجل الاستماع لتجارب الحياة خاصة من المقيمين في البلاد، وفي مساء لطيف طلبت من النادلة أنّ تأتيني بالشاي الأخضر مع النعناع بدون سكر وكان قد سبقني في الجلسة شاب في منتصف العقد الرابع من العمر من السودان تحدث كثيرًا عن المساجد في بتايا ودورنا نحن المسلمين في زيارتها والوقوف على خدمتها والتبرع فدور العبادة هنا بحاجة لاهتمام وترميم.

يتحدث هو باستفاضة وفي شارع "ين سباي" المقابل من فندق "vc" تُحدث الدراجات النارية جلبة والسيارات التي تعبر بجوار محل "سفن إليفن" الشهير والذي تجده منتشرًا في أرجاء تايلاند وفيه كل احتياجات اليومية لا تهدأ عن التحرك والإنزال والتحميل ومن هناك يمكنكَ مشاهدة المستريحون في درج مارين وبائعات الفطائر والفواكه اللاتي يفترشن الأرض؛ لقد كانت أيامي في مطعم أبو سعيد ليست لملء المعدة والحصول على الطعام وشرب القهوة والشاي الأخضر فحسب بل كانت مليئة بالحوارات والنقاشات والمعارف والتجارب.

هل جلستم يومًا في مطعم أبو سعيد هذا وتبادلتم أطراف الحديث؛ إذًا أنتم في جامعة مفتوحة مليئة بالتجارب لكنها لا تصدر شهادات مختومة.


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر