سلطان الطائر الذي حلق على أعتاب بتايا
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند

الورقة الثامنة
يحيى المعشري

شمسٌ بعيدة تتوارى بين جنبات مثلث مارين في بتايا؛ تُطل علينا كالخائف من المجهول؛ هذا يحدث عادةً في هذا الفصل من هذه الشهور بين فبراير ومارس؛ ففي صبيحة التاسع والعشرين من فبراير كانت الساعة قد تجاوزت منتصف النهار والشمس لا زالت تتوسط كبد السماء أو كأنها كذلك؛ سمعت صوتًا يأتيني من الأمام وكأنه سراب في المدى البعيد؛ كُنتُ ممددًا قليلًا؛ أستجمع قواي من الجلوس الطويل؛ أستمع لحوارٍ دار بيني و"يوسف" من دولة الإمارات العربية المتحدة وهو من المتيمين بأرض سيام وقد طاف جزرها وبحارها وشواطئها وتعرف على الكثير من مكوناتها وعاداتها وتقاليدها؛ لقد زار جواهر تايلاند كما كان يسميها أي الجزر التايلاندية ومدنها وقراها وأريافها ومنها بتايا هذه وبانكوك وتشنجماي وبوكيت وساموي وهواهين؛ كما تعرّف على العديد من الشخصيات في هذه الأرض؛ انتبهت للصوت القادم فإذا به يطلق سؤالًا عابرًا على حين غرة قائلًا بلكنة محلية عُمانية " ما شيء تمرين في الشاطئ اليوم؟
وبدون أدنى تفكير عرفت أنه أحد الأصدقاء الذين تشاركنا معًا يومًا لعب كرة القدم في شاطئ القرم في العاصمة مسقط بسلطنة عُمان؛ إما في الرملة أو المسطح الأخضر- كان صوتًا مطبوعًا بابتسامة صادقة فإذا به يربت على كتفي مرحبًا بي قائلًا "يحيى"؟ رفعت رأسي قليلًا فتبدى وجه "سلطان" ومدّ يده اليمنى مصافحًا لي، هل يعقل "سلطان" قلتها بنبرة فيها من الدهشة اللطيفة؛ لم يطول الحوار بيننا أخبرته هذا مطعم أبو سعيد يعرفه الكثيرين وله ذكريات مع غالبية من قصد بتايا؛ "سلطان" بطوله الفارع وجسمه الرياضي الذي لا يصلح إلا للجري وكرة القدم؛ بوجهه البشوش المملوء بالطيبة- عرّفته على "يوسف" وكانت القدم اليمني ليوسف تبدو غائرة؛ بها آثار جروح؛ يجد صعوبة أثناء المشي كما أنّ وزنه الزائد زاد من صعوبة تحركه؛ لكنه مبتسمًا وكثير السفر إلى مملكة تايلاند ويعتبرها الدولة الأولى التي يشدُ إليها الرحال ومن شدة إبهاره بها أسمى جزرها بـ"جواهر تايلاند".
لم يطل حواري مع "سلطان" أكثر من ثوانٍ معدودة فقد قاطعني قائلًا: أتيتُ إلى تايلاند رفقة الأسرة ودّعته بابتسامة فيها من الكرم واللطف تضاهي ابتسامته عند أول وهلة من اللقاء ومرَ يوم على هذا اللقاء قبل أنَّ أجد "سلطان" في مقهى "ستار بوكس" الكائن في مجمع سنترال فيستفال المقابل لشاطئ بتايا؛ ذا إطلالة جميلة هذا المقهى؛ من شرفاته يمكنك رؤية الباعة المتجولين يستعرضون أطعمتهم الخاصة؛ كما يمكنكَ رؤية أشجار جوز الهند السامقة وأشجار الزينة والناس والمظلات بألوانها الجميلة؛ يكفيكَ أنه أحد مكونات هذا المجمع التجاري المميز بروعة تصاميمه الخارجية؛ وجدته وحيدًا منهمكًا مع هاتفه- تداعب أصابعه أزرار الهاتف؛ استلمت قهوتي الموكا من البارستا البشوش الذي بات يعرف طلبي لكثرة ترددي ورحبت به فورًا؛ أي "سلطان" فأومأ لي أنه أتى إلى بتايا وحيدًا واستطرد قائلًا: هذه الزيارة هي الأولى لي في هذه المدينة وأردف أنا سعيد حقًا بهذا اللقاء.
عندما تضعكَ الظروف أمام اختبار؛ فسوف تتذكر المواقف التي مرت عليكَ سابقًا وأنكَ تعيد المشهد مرة أخرى، لكن ثمة ظروف مختلفة عن سابقتها من مشاهد- لقد حدث ذات وقتٍ مضى بالتحديد في سفرتي الثالثة إلى مملكة تايلاند وفي مطعم "أبو سعيد" بمنطقة بتايا وفي الفناء الخالي من الكراسي بعد أنَّ فرغنا من غداءنا أقبل عليّ مازن ومحمد وأيمن وحسام وهم يقطنون بالقرب من المنطقة التي أسكن بها بلدة بوشر وتسمى العذيبة وقد تعرفت عليهم في شاطئ القرم وكانت كرة القدم هي نديم اللقاءات ورابط التعارف بيننا وتجولنا في أرجاء بتايا وبانكوك؛ قبل أنَّ تتوطد العلاقة بعد هذه الرحلة وكأن المشهد مع "سلطان" يعيد نفسه.
تجاذبتُ مع "سلطان" أطراف الحديث وحدّثته عن أهم الأماكن السياحية في بتايا التي يستطيع المرور عليها في زيارته القصيرة هذه والتي لا تتجاوز ثلاثة أيام؛ أهمها ميني سيام المتحف الطبيعي الذي تتجمع به دول العالم أو السوق العائم؛ حيث تناغم معروضات الباعة المتجولين والمعزوفات التايلاندية التقليدية أو جزيرة كولارن وهي جزيرة قريبة من الميناء؛ علت دهشة على جبينه لأنه لا يعرف الميناء بعد ولم يسبق له زيارته؛ فورًا أخبرته هل تود الذهاب إلى الميناء؛ رافقته وأخبرته أنَّ هذه الجزيرة؛ أي كولارن تستحق التجربة؛ لأنها الزيارة الأولى لك والوقت المناسب لزيارتها صباحًا حتى تقضي نهارًا كاملًا- لكنَ العائق الوحيد الذي قد يحد من بقائكَ هناك النهار بأسره هو عامل الجو- فالأجواء في فبراير ومارس تميل للحرارة نهارًا ولا تبدو السماء ملبدة بالغيوم هذه الأيام؛ لقد زرتها أكثر من مرة بـ (٣٠) بات تايلاندي ولمدة أقل من ساعة في عرض البحر أنت على شفا الوصول؛ تستمتع برؤية الجمال الخلاب في الأرجاء المحيطة؛ ومواعيد تحرك العبارات موضحة في اللوحة أمامك؛ نظر إليها بتأمل ودس يده في جيبه وأخرج هاتفه ملتقطًا صورة للّوحة وفي اللقاء الآخر وعدته أنَّ أصحبه إلى شاطئ "جومتين" وهذا الأخير على بعد (٣) كم جنوب بتايا؛ على أنَّ يكون لقاءنا في درج مارين الساعة الرابعة والنصف عصرًا- نتوجه بعد قطع الطريق المفضي إلى فندق vc باتجاه المدرسة؛ هناك يوجد مكتب بطاولة مدرسية تديره سيدة في منتصف العقد الرابع من العمر؛ تنقدها بمبلغ (١٠) بات وتنتظر دورك لتقلكَ سيارة البيك أب متجهًا إلى شاطئ "جومتين" رفقة العديد من البشر الذين جذبتهم الإقامة في تايلاند والسياحة العابرة كحالنا.
لقد ظلَّ "سلطان" فاغرًا فاه، لم ينبس ببنت شفة وهو يعتلي السيارة تقابله سيدتان أوروبيتان شابتان وجلستُ أنا بجواره؛ إنه يعيد شريط الذكريات تمامًا كما كنت أفعل حينما زرت بتايا لأول مرة؛ إنها دهشة البدايات التي بدأت ترتسم في وجه سلطان؛ على الرغم أنه كثير السفر والترحال وقد طاف العديد من البلدان؛ لكنها تايلاند المتفردة في تقديم الخدمات ببساطتها وأسعارها المنخفضة التكاليف؛ حالة الدهشة تلك التي لازمت "سلطان" لم تطل كثيرًا فالمدهشات كثيرة وعديدة في أرض الابتسامة ولا تقف عند حدٍ معين، ما إن وصلنا "شاطئ جومتين" تخلل السير رؤية الناس في دراجاتهم وسياراتهم من الكابينة المكشوفة كان علينا أنّ نستغل الوقت قبل أنّ يُعلن الليل سدوله فوقت العصيرة وما قبل الغروب لا يتفوت في شواطئ تايلاند؛ هي كذلك. مكثنا في الشاطئ ساعتين نتجول مشيًا على الأقدام؛ حدّثته عن السفر وحدثني عن جمال الشاطئ وذهوله من العدد المهول من السيّاح؛ خاصة الأوروبيين وتحدث باستغراب وكأنه يلقي عليّ سؤالًا عابرًا في غمرة الحديث المتواصل؛ أين العرب؟
لم أستطع الإجابة؛ لأنّي باختصار لا أملكها؛ غير أنَّ الشاطئ هذا سابقًا كان بحره يلاطم الرصيف قبل أنَّ يُوسع الشريط الأمامي بالرمال وبعض الأشجار ويوظّف ليكون جاذبًا يقصده الناس والجميل في الأمر ولا أعلم إن كانت خطة مقصودة أنَّ مسار الباصات السياحية التي تقل السياح والمقيمين من مطار بانكوك الدولي إلى بتايا تلفظهم في هذا الشاطئ إلى حين أنَّ يسلكوا المسار الآخر وهو المعاكس إلى مثلث مارين، "مثلث العرب".
لقد طفقت أذرع الشاطئ رفقة "سلطان" وكان أكثر جمالًا من زياراتنا المقتضبة لتلك الأمكنة الساحرة هو سحر اللقاء في الغربة وتناول الأحاديث؛ بعيدًا عن أجواء الرياضة وشاطئ القرم في العاصمة مسقط؛ حقًا إني أعرف سلطان لكننا كنّا نتحدث في حدود الرياضة لا أكثر؛ فطباعه الهادئة ودماثة خلقه قد تكون السبب الجلي أكثر من أي شيء آخر يمكن وصفه؛ فنحن البشر نتباين في السلوك وطريقة التعامل مع الآخر؛ ودّعت "سلطان" في مثلث العرب بعد أنَّ قضيت رفقته لحظات جميلة في بلاد الابتسامة ففي الغد يعود هو إلى بانكوك ليستكمل رحلته قبل أنَّ يودع سيام إلى أرض الوطن وأعيش أنا تجليات المكان وحيدًا.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام