في شاطئ بتايا بين بؤساء هوجو وأضواء النهار

يحيى المعشري

✍️
٢٤ أبريل ٢٠٢٣ م
هل قرأتم يومًا رائعة هوجو البؤساء لتتعرفوا على شخصياته وأحجياته وسردياته وطريقته في تقليب الأمزجة والتنقل بين الأمكنة؛ هل تابعتم حكاياته العالمية في قصص الشعوب وتسمرتم أمام الشاشات أيام وليالٍ وتملكتكم حالة من ذلكَ الشعور الخفي الذي يقلب أوراق الماضي بكلِ تفاصيله؛ حكاياته وآلامه وفرحه؛ هل زرتم يومًا بقعة في الزقاق المجاور لمنزلكم أم خارج الإقليم الذي تنتمون إليه ونظرتم إليه بعينِ الفاحص الذي يدقق في تفاصيل التفاصيل ويقلب الصفحات فيعيد قراءتها بعينٍ ممعنة وشعور مدقق؟

هكذا كنت أفكر وأنا أتأبط رواية البؤساء في حضرة شاطئ بتايا خلال رحلتي التي امتدت أسبوعين متنقلًا بين جزر السعادة في مملكة تايلاند؛ كنتُ أقرأ صفحة وأجيل نظري في الأرجاء لأقرأ أهم الصفحات وأتساءل ما الذي أجبر فانتين البائسة للجوء إلى طريق الضياع؛ ذلك الطريق الموغل إلى حياة المتعة الزائفة والبؤس الحتمي؛ إنها مهنة البغاء والدعارة إحدى أقدم المهن على مر التاريخ؛ حاولت فانتين أن تستجمع قواها لتواصل رسالتها كأم بتوفير النقود للحفاظ على ابنتها كوزيت مع عائلة تيناردييه، هل تتبدل المبادئ في حياتك بتبدل أوضاعك الحياتية كتبدل حياة الرجل المسكين جان فالجان؛ وكأي التبدلات يحدث أنّ يتبدل المرء هو كذلكَ ويخلع رداءه بين الضوء في الصباح وحياة الليل حينما تعبث الليالي بأضواء النهار.
وأنا أتتبع هوجو في أضواء شاطئ بتايا لم أنجو من الإسقاط على حياة الليل في مدينة بتايا ويتخطفني الخبر الذي يشير إلى بدايات سياحة الخطيئة في هذه المدينة عندما أصبحت مزارًا للجنود الأمريكيين في وقت راحتهم أثناء حرب فيتنام وأسلوب "المنطقة السعيدة" الذي بدأته السلطات التايلاندية لتحسين صورة مدينة بتايا.
حالة من الدهشة تملكتني وأنا أستند على أحد الكراسي في هذا الشاطئ؛ تحت مظلة تقيني حرارة أجواء مارس هذا العام؛ إنها تبدلات الدهشة على الوجوه المتعبة؛ بتايا هذه المدينة الساحلية الجميلة التي تقع على الساحل الشرقي في تايلاند وتبعد عن العاصمة التايلاندية بانكوك في حدود الساعة والنصف أو الساعتين ولكَ أن تختار طريقة الوصول إليها؛ إما عن طريق السيارات الخاصة بأسعارها المرتفعة نوعًا ما أو عن طريق وسائل النقل العامة المختلفة وهي خيارات متاحة ووسائل سهلت على زائريها؛ دون بذل الكثير من العناء والجهد؛ والخيار الأخير كان من أهم محطاتي في هذا التطواف؛ بتايا الطيبة الذكر سبقت سمعتها السيئة كل الأوصاف وقد حِيكت عنها الكثير من الروايات وعندما يأتي ذكرها في مجالسنا الخليجية وفي حواراتنا الجانبية أو أحاديثنا العابرة تبدأ الغمزات والهمسات والحكايات الجادة عن الأرض البائسة التي لا تأتي إلا بالخبيث السيء، فإنكَ أيها المسافر إلى بتايا وأنتَ تحمل أمتعة السفر وتجرُ خلفكَ حقيبتك المنهكة على مقربة من اقتراف خطيئة ورزيئة؛ مدينة بتايا الواقعة في مقاطعة تشونبوري التي تلتهم ملايين الأفئدة سنويًا تعتبر ملاذًا مهمًا لقاصدي الراحة والاسترخاء والباحثين عن المدن التي توفر أهم سبل الراحة؛ ليست كما يُسوّق لها بالضبط في الأقليات الضيقة المنغلقة؛ لأن العالم اليوم على اتساعه وامتداد رقعته يقبل الكثير من المقترفات وتتكئ على جنباته الغواني وتلوذ إليه أجساد السهرات الصباحية في الحانات والمراقص والأفواه المنغمسة في احتساء النبيذ والغارقة في الترّهات والباحثة عن اللذة والرقص على أنغام الليالي الحالمة؛ وغيرها من الأشياء التي لا تقبل الجدل في الحديث عنها؛ كان هذا الحوار أحد الأحاديث المقتضبة التي بدأتها عندما همّ "آرثر" وهو أوروبي الجنسية لم أتيقن من جنسيته أو لم أكترث لحظتها بسؤاله تطفلًا؛ آرثر يبدو مفتول العضلات لديه كرش بارزه؛ خلع ملابس التنزه واضعًا إياها في حقيبة صغيرة مرتديًا ملابسه الداخلية الخاصة بالشاطئ؛ هادئ الطباع قليل الابتسام وما شجعني وحفزني لخوض حديث عابر معه حينما وجدته غارقًا في القراءة على كرسيه الممدود قبل أنّ أُحدث جلبة جعلته يلتفت قبالتي لنبدأ حوارًا سريعًا.
بلع ريقه وأعطاني مزيدًا من الاهتمام بعد أن حييته وألقيت عليه سؤالًا سائلًا إياه عن انطباعه عن شاطئ بتايا؛ لنبدأ فصل الحوار العابر بعد أن تيقنت أنه وحيدًا ولا توجد بجواره فتاة؛ نعم قلّما تجد أوروبيًا يجلس وحيدًا في هذه الأرض فكيف إذا كان هذا المكان هو شاطئ بتايا؟ تساؤل تركته يطير في مخيلتي كأحد الطيور التي تعبر أشجار جوز الهند الفارعة في هذا الشاطئ.
شبك آرثر يديه واستند على مرفقيه وقال بصوتٍ عالٍ وبنبرة قوية؛ تعجبني بتايا في النهار وآتي كثيرًا إلى هذا المكان أمارس الرياضة وأستلقي هنا لأخذ قسطًا من الراحة والاسترخاء والاستفادة من الخدمات السياحية التي تُقدم هنا وهي بطبيعة الحال رائعة ومدهشة، قالها بعد أن زمَّ شفتيه وقطّب حاجبيه مبدئًا سعادته عن الساعات التي يقضيها هنا وقبل أن أطوي حواري مع "آرثر" انبرا الباكستانيين اللذاين كانا معي في الحافلة أثناء مجيئي إلى بتايا ملوحًا بكلتا يدي ملقيًا عليهم تحية عابرة في حين كان آرثر يتحدث بتنهد عن الحياة في بتايا أثناء جائحة كورونا فأخذ يقول: أتيت في أيام الحجر الجزئي وقمت بتحليل التفاعل البوليميراز المتسلسل "البي سي آر" وكان حجز الفندق يتم مسبقًا؛ فقد وجدتُ بتايا موحشة في وضح النهار؛ كنت وأنا أتجول يتسلل الخوف إلى جسدي وتسري في أوصالي قشعريرة لم تحدث لي طوال سنوات زياراتي إلى مملكة تايلاند، أدرك أنه يعيد شريط ذكرياته أمامي في السنوات التي ألمّت جائحة كورونا بالعالم؛ لقد كانت تايلاند من الدول التي أحكمت إجراءات الدخول والخروج؛ بدأ أكثر إذعانًا لي وسحب عود الخشب من سلة الفواكه أمامه وبدأ يلتهم الفواكه بنهم وتذكر تلك الأيام العصيبة وقال في ذهول: نحن هنا عانينا الأمرين؛ لأننا مقيمين في هذه المدينة؛ أنا مثلًا أقيم في شاطئ جومتين منذ سنوات وصادف وجودي في فترة الجائحة ولأن تايلاند أخذت بالمحاذير أكثر من غيرها من دول العالم عدت إلى مسقط رأسي كأي المسافرين متأملًا العودة في القريب العاجل. قال تلكَ العبارة واستأذنته لقد أقبل العصر وهناك طقوس أخرى وجب عليّ أداءها.
ودعته شاكرًا إيّاه على وقته الثمين وأخذت جولة مشي في شاطئ بتايا؛ تحفني أشجار جوز الهند الوارفة الظلال؛ مستمتعًا بطقوسها وأناسها وجلساتها وأرصفتها فهي تمثل ذاكرة لدى الكثيرين سأقص بعضًا منها لاحقًا فأنا الآن أعود إليها بعد مدة زمنية طويلة، بتايا ذات الشواطئ الممتدة التي لا تخلو من الأنشطة اليومية والفعاليات وفيها البنية السياحية عالية الجودة وهنا لا أتحدث عن البنية العمرانية والبنايات الشاهقة التي تُناطح السحاب ولا عن الشوارع الفارهة والتي توصم بها بعض الدول كالشانزليزيه في باريس وهو الأشهر في العالم على الإطلاق وقد زرته قبل عقد من الزمان ولا عن شارع أورشارد في سنغافورة وهو كذلك من الشوارع التي أتيحت لي الفرصة لزيارته ذات زمن ولا عن شارع لا رامبلا في برشلونة الإسبانية ولا عن ممر المشاهير في هولييود في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية وهناك العديد من الشوارع التي خلدها التاريخ وهي كذلك كما يروج لها كتّاب القصص والروايات والغارقين في المكوث الطويل في المقاهي أو على أرصفة الشوارع فينثال يراعهم على الصفحات البيضاء فتغرق بأفكارهم الواحدة.
لقد عمدت في رحلتي هذه إلى بتايا على الاستمتاع بأجواء النهار والتمعن في الضوء من بواكير الصباح فجولاتي وإن كانت متكررة في بعض الأحيان خصصت جزءًا منها في شاطئ بتايا وهو الأكثر شعبية والأكثر حيوية والذي يمتد طوله قرابة أربعة كيلومترات، أسترخي تحت المظلات التي وضعها القرويون وهي مظلات بسيطة في تصميمها؛ مكونة من أعمدة وغطاء بلاستيكي مع كراسي موضوعة على الرملة وهناك إما أن تختار أن تستأجر في الواجهة إطلالة على البحر وتأتيك الخدمات من الباعة الجائلين وأهمها بالنسبة لي خدمة المساج الطائر التي تقوم به النسوة وغالبًا هنّ من فئة كبار السكن وبسعر لا يزيد عن 200 بات أو بالقرب من الشارع المفضي إلى المركز التجاري رويال جاردن بلازا حيث متحف ريبلي "صدق أو لا تصدق"؛ لقد اعتدت هذا البرنامج وقد يتكرر مرتين في اليوم فبعد أنّ ودّعت آرثر في ذات اليوم بعد مدة زمنية بسيطة جذبني مكان آخر وعروض أخرى ووجوه أخرى؛ ففي شاطئ بتايا أنت موعود بالالتقاء بشخصيات من مختلف الجنسيات قد تتحاور معهم في حديثٍ ودي عابر أو تسكنك السكينة والهدوء وتغط في نومٍ عميق بعد احتساءك مشروب "جوز الهند" وقد تجدها ذريعة للتواصل مع عائلتك أو أصدقاءك أو مثلي كنت أقوم بإعداد الصور والمقاطع المرئية التي التقطتها في هذه الرحلة أو القراءة ورحلتي القرائية في هذا التطواف كانت مع بؤساء هوجو؛ ثمة أنشطة وفعاليات تقام أمامك في هذا الشاطئ ولأنني في السفرات السابقة مارست أغلبها؛ أفضّل البقاء هنا تحت المظلات ومشاهدة تجارب الآخرين؛ كانت بتايا في هذا الشاطئ محط أنظار الكثيرين ممن لا يراها إلا مدينة الخطيئة والفُحش؛ وبعد أن عزمت على قضاء النهار في هذا الشاطئ قررت في نفس المساء المرور من نفس المكان فكان الشاطئ بوجهه الآخر يعيش الضجيج وحياة الغناء والعزف والرقص وهذا لا بأس قياسًا بالبؤس الذي أتجنبه؛ حيث بائعات الهوى لم يجدن بدًا من عرض أجسادهن هنا؛ قد تكون ثقافة سائدة في هذه المجتمعات وقد يكون للفقر والفاقة دور كما أُجبرت فانتين ذات زمن في بؤساء هوجو لكننا نجدها ذريعة لنقرأ العالم بالصورة التي نراها ونحبها.


وأنا وآرثر كنا غارقين في الحديث عن شاطئ بتايا





متجولة تايلاندية تعرض خدماتها للسياح



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر