ارتماءات النهار في بتايا وظل أرصفة البوذا الكبير
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند

الورقة الرابعة
ارتماءات النهار في بتايا وظل أرصفة البوذا الكبير
مرَ يومان وتلاه ساعات صباحية دون أن تطأ قدمي أيُ معلمٍ من معالم بتايا السياحية؛ عدا التنقلات المعتادة التي يعمد عليها من يسكن هذا المثلث؛ أي مثلث العرب، بين فندق "وايت روز"؛ مرورًا ببائعة الفواكه؛ كما أنها لم تخرج هذا اليوم أو بالأحرى في هذا الوقت والشمس الملتهبة لا زالت في كبد السماء؛ حيث وجدت لها متكأ أمام فندق "شيري" الذي لم يعد موجودًا عدا من اللوحة والاسم لربما ألمّت به هو الآخر جائحة كورونا؛ والتنقل بين درج مارين بلازا واختراق زقاق "ين سباي" المتاخم لفندق vc أو تخطي البارات العربية المفتوحة المفضية لشارع "الووكينج ستريت" والمعروف باسم شارع جهنم والعياذ بالله وكلما تمر على مسامعي هذه العبارة أشعر بقشعريرة تسري في بدني؛ تكسر حاجز الصمت في السماوات القصية، يبدو أنّ فبراير هذا العام ليس ممطرًا والسماء لم تعد ملبدة بالغيوم أسوة بالفصول الممطرة في هذه البقعة؛ حقًا وكأن ديمة عابرة أرادت أن تطفئ حرارة الفصل في هذا اليوم؛ لكنها كمن أتى غريبًا على استحياء ساعة من الوقت وتلاشت بقيت أقتات الظل.
مددت عنقي لأشاهد المارة بعد أن أكلت ما جاد به مطعم "بن عاقول" وهو مطعم من المطاعم الجديدة في هذا المثلث والمتاخم لمطعم "محمد صلاح" المصري المختصر باسم "مو" وهذا الاختصار لا يروق لي؛ فلا يختصر اسم مكون من حروف سيد الكونين والثقلين بـ "مو" وهو المطعم أو المقهى ملاصق لمطعم "أبو سعيد" الليبي. ثمة أريكة حمراء يتطاير منها الدخان ما أثار نفوري واشمئزازي؛ وكأننا كائنات لا يحق لها البقاء في الخارج في حضرة من يعاقرون الدخان.
الساعة الٱن تشير للثانية عشر والنصف مساءً ولدي الكثير من الوقت في غمرة هذه الأجواء الصيفية؛ فآثرت البقاء قليلًا أمام درج مارين بلازا بعد أن هربت من الدخان؛ أشبه حكاية فارة من كتاب أو شمعة هدأ لهيبها من الهواء وهناك أنت تحت رحمة العرض والطلب؛ إما أن تأتيكَ فتاة وضعت أنواع الصبغات والمساحيق في وجهها وأظهرت أجزاء من جسدها تعرض عليكَ أن تمكثَ معكَ لتكون نديم اللحظات الخاطئة أو يأتيك أحد أبناء جلدتك من الذين لم ترهم في بلدكَ منذ سنوات، يبتسم عبثا، يربت على كتفك؛ تستعيد معه الذكريات وتتحدثا معًا عن الدراسة والحياة والعمل أو أحد الذين أتوا وحيدين أراد أن يستفتح معكَ حديث عابر ليسجل شهادة حضور يومي في سجل يومياته؛ يدون في دفتره خطوطا شقية أو يأتيكَ من يعرض عليكَ الخدمات السياحية وما أكثرها في بتايا فهي بيئة خصبة لمن يود الاستمتاع بأهم المعالم السياحية التي تجدد من يومكَ وتنقلك من عالم الخمول والدعة إلى عالم النشاط والحراك المستمر، فترسم وجهك السعيد.
وفجأة يأتيني صوت مبحوح من امرأة في منتصف العقد الثالث من العمر مرحبة بي ترحيبا حارا "سابايدي" عقبت عليها سبايدي كاه وهلم جرّاء، عرّفت بنفسها أنا "نوك" وهي امرأة ممتلئة قليلًا، ترتدي بنطال رمادي وقميص أزرق اللون وتنتعل حذاء رياضي؛ كما أن شعرها منسدلًا للرقبة؛ ونوك هذه أخذت من درج مارين مكانًا للترويج لعروضها السياحية بين الفينة والأخرى على حد قولها؛ كما يوجد بجانبها رجل يبدو أنه في العقد الرابع من العمر أدار ناظره ملتفتًا وعلى جبينه ابتسامة ظاهرة مبدئًا رضاه عن الحوار الذي دار بيني وبين "نوك" في حين أجلت بصري سريعًا باتجاه الممر المفضي إلى "معبد البوذا الكبير" سائلًا إياها هل هذا الطريق هو الطريق المؤدي لمعبد البوذا الكبير؟ لقد سبق لي زيارته وبما أنّي مررت على أغلب المزارات السياحية هنا؛ لم لا أجدد الزيارة للمعبد، قلت في سري هامسًا انتبهت لها بإيماءة: فقالت نحن لا نسير رحلات إلى هناك لكن بإمكاننا أن نوفر لكَ دراجة نارية تقلك إلى هناك وبسعر ٢٠٠ بات تايلاندي وهو سعر مرتفع نوعًا ما إذا ما قارنا المسافة ووسيلة النقل، شكرتها كثيرًا وقلت لها لربما ستكون لي معكم جولة سياحية في القريب العاجل أما المعبد فإني سأحبو إليه مشيًا على الأقدام. فأنا لا أريد الوصول إلى هناك فحسب؛ بل لي مآرب أخرى.
دنت الساعة من الثالثة والنصف مساءً فبدت الأجواء لطيفة نوعًا ما لكن السماء كما هي لم تتبدل صافية خالية من السحب؛ ليست بتلكَ الحرارة التي تحدك عن ممارسة أنشطتك اليومية، مررت بجوار متجر "سفن إلفن" أستعين بأي مشروب خفيف ليكون ونيس الطريق إلى معبد بوذا الكبير وقنينة ماء صغيرة قد أحتاجها في الطريق فلوحت بتلويحة عابرة على فندق ميد تاون هوتيل الذين كان نزلنا في أكثر من زيارة فرأيته ليس في مكانه وكأنه هشيما تذروه الرياح وقد حل مكانه أحد الفنادق ذا الأربعة نجوم وكأنه فراشة أتت في غير فصلها وفي الطريق أطالع يمنةً ويسرة المستجدات من الفنادق والأكشاك على جنبات الطريق؛ فرأيت رجلًا وامرأة طاعنين في السن يبدو أنهما يمضيان في نفس الطريق إلى المعبد، أدار الرجل ناظره فقد بدا عليه التعب من المشي فالطريق غير مهيأ لوقوف سيارات الأجرة كما يبدو لي والتفتت المرأة المسنة إلى الوراء وجلست على الرصيف المتاخم للجسر وهو مفترق الطرق وجالت ببصرها سريعًا في زوايا الطريق وتعرجاته وبعد أن غدت عيناها المبتهجتان عينان كئيبتان جرّاء حرارة الجو وطول الطريق لمثل سنيهما، انتبهت أنّي أطالعها وهي تجلس؛ فطأطأتُ رأسي ثم بحركة مفاجئة أرخيت يدي اليمنى فأخرجت قنينة ماء صغيرة أحتفظ بها في جيبي ابتعتها من متجر"سفن إلفن" وناولتها الماء فتمتمت بكلمات شكر وامتننا قبل أن أذرع الطريق الموارب الضيق الظليل بالأشجار ميممًا سيري إلى المعبد الكبير في تلة براتامناك، حيث الكهنة والثقافة المثيرة للاهتمام، أتحرك بدهشة وسط مشاكسات أصحاب الدراجات.
الأربعاء ٥ أبريل ٢٠٢٣م
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام