أحاديث قمرة القيادة ومقصورة طيران السلام
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند
أحاديث قمرة القيادة ومقصورة طيران
السلام
يحيى المعشري
هل وصلنا؟ كان سؤالا قادما من
الكرسي الأمامي أطلقه حامد على حين غرة بعد أن صحا من نومه وترك كل ما سأذكره
لاحقا!
لم أجبه وتجاهلت سؤاله العابر وتجاهله الجميع لقد أتت الإجابة من قمرة الطائرة سمعنا نداءا أخيرا "على جميع المسافرين ربط الأحزمة..
لقد حطّت طائرة طيران السلام في
مدرج مطار سوفارنابومي مطار بانكوك الدولي بعد أن أقلعت من مدرج مطار مسقط الدولي
في تمام الساعة السادسة والخامسة والأربعون مساءً بتوقيت مسقط وقد كانت مسقط هادئة
ولا تبدو وكأنها عاصمة كعواصم الزحام والضجيج؛ إلا من حراك السيارات المرتحلة
لمداخل معرض مسقط الدولي للكتاب في يومه الثالث؛ لقد حدّقتُ في الأرجاء سريعًا
بنظرة أخيرة مودعًا كل شيء يذكرني بماديات بمسقط وجمالها وأيُ جمال هذا الذي
يستشعره المغترب عن الأوطان وقبل أن أطوي صفحتها بحب فأنا على بعد خطوات وبجسد
متثاقل ونفس متخمة بالنستولوجيا وقد شارفت أنّ أدنو من عتبة مدخل مطار مسقط الدولي
ومن هنا كان عليّ أن أفتح صفحة جديدة من صفحات الارتحال؛ وبعد تجاوزي صالة ختم
الجوازات في البوردينج ها أنا أحلقُ في السماء وها هي عربات المضيفين والمضيفات
تخترق مقصورة الطائرة عارضة خدماتها؛ كان عليّ أن أستغل وقت التحليق في قراءة
رواية لـ "فيكتور هوجو "البؤساء" ترجمة إكرام صغيري وبينما
المسافرون يحلقون في السماء؛ يختلقون الأحاديث ويفتشون عن ما ينسيهم ساعات التحليق
بين الأرض والسماء؛ حلقت أنا مع هوجو في الرحاب الباريسية متتبعًا كوزيت وعائلة
تيناردييه وجان فالجان وشخصيات شكلها هوجو في روايته التي تتحدث عن حياة الناس في
القرن التاسع عشر؛ وأيُ حياة تلكَ التي لا ينتصر فيها المكلوم في أوج حياته وينبوع
نهره الذي يروي الناس من معينه؛ ومضى الوقت وها قد شارفت الساعة على الثالثة
والخامسة والأربعون وهو موعد الوصول إلى مملكة تايلاند ومن مميزات طيران السلام إن
لم تكن لديك وسيلة تعتمد عليها في الترويح عن النفس؛ أنه يتيح لكَ المجال للحديث مع
الراكبين والتعرف عليهم والخوض في أحاديث ودية مع من أتوا وحيدين وفي هذه الرحلة
وقد تكشف لي أنهم كثر؛ أو مرتحلين مسيجين بأفئدة عائلية؛ فهناك من أتوا للعلاج
وآخرون قصدوا تايلاند للتنزه وشوق الأسفار وعلى قدر أن الطيران الاقتصادي لا يوفر
لكَ سبل الراحة المعتادة مثل شاشات العرض وغيرها من مسليات تعينك لقضاء الوقت
الطويل لكنها وكما أسلفت تمدك بالحوارات مع الركاب من مختلف الجنسيات والسحنات وقد
تتعرف على أحدهم ويكون رفيق الدرب في التنقل في مخطط رحلتك القادمة.
ومن المقصورة التي مضينا فيها زهاء
الخمس ساعات وأكثر ونحن نحلق في السماء ها هو النداء الأخير يأتينا من قمرة
القيادة معلنًا وصول الركاب إلى مطار بانكوك الدولي وقد علت الفرحة محيا الجميع؛
إنها فرحة منتشية بالحب، نتنهدها من الأعماق؛ فأنزلتُ أمتعتي من الكابينة العلوية
وارتديت حذائي ولملمت أوراقي ووعدت هوجو أن ألقي عليه نظرة خاطفة في زحمة الأسفار
وودعت الشباب من الجمهورية التركية؛ تلكَ الدولة العابرة للقارات، ودعتهم بعدَ أنّ
شاركوني بعض أحاديث الحياة والسفر ورائحة الليالي المقمرة والفجر، فقد كانت رحلتهم
هذه طويلة تستمر أربعة أشهر وتزيد؛ متنقلين خلالها بين حدود البلدات الآسيوية
الأخرى (كمبوديا، فيتنام، الصين، اليابان، كوريا، سنغافورة، ماليزيا) على أن تبدأ
محطة الترحال من مملكة تايلاند ودعتهم بابتسامة عارمة قائلًا: لربما ألتقيكم في أي
بقعة من البقاع التايلاندية قريبًا يا رفاق وتواريت.
ودعت كذلك من تعهد بأن يحلقُ بنا في
السماء فهز رأسه مذعنًا مبديًا استعداده لتقبل التوديع فانتشيت ودخل الطمع حواسي
للاستزادة من الحوار وسألته عن الطيار محمد في طيران السلام وهو من أبناء جلدتي؛
أي عماني الجنسية، موجهًا له سؤالًا عابرًا هل تعرفه؟ فأومأ إيجابًا فأرسلت سلامي
إلى محمد، هنا من قمرة الطائرة والركاب من خلفي يحدقون بفضول فآثرت الانزواء
موليًا ظهري أجر أمتعة السفر إلى بلاد الألف ابتسامة.
من قمرة الطائرة وفي بطن المقصورة
وبين الكراسي كلنا نعيش لحظات قد نتجاهلها وقد نعيشها بقلق الرغبة في الوصول وقد
ننظر لها بإيجاب ونسجلها في كراسة مذكرات السفر أو نصيخ السمع لأصوات النائمون
المتدثرون بنزق النوم المتقطع..
كانت هذه هي الورقة الأولى من أوراق
السفر أرسلها لكم خواطر نستشعرها معًا ونحن في بطن الطائرة.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام